صفحة الكاتب : ادريس هاني

الحسين في ديوان العرب (16)
ادريس هاني
دخلت مأساة الحسين إلى ديوان العرب من أوسع أبوابه..فكانت المراثي تقتحم كل المداشر و البلدات ..فمن لم يجرب البكاء على الحسين كانت دموعه هدرا..ومن لم يحزن على الحسين بات حزنه وهما..فعلى الحسين تذرف الدموع فتنسي الناس الآلام..وإذا رأيت ديوانا يخلو من رثائه فاعلم أن أيادي التعمّل والرقابة قد طالته إن كان الشاعر ممن عرف بميله الشديد إلى بيت الهواشم..وذلك ديدن شعراء كثر منهم المتنبّئ الغارق في الولاء لعليّ كيف يخلو ديوانه من مدائحه أو رثاء الطف..كيف تمرّ الطّف على شاعر تمدّح بالأباعد ورثى من لا يتنزل منزلة معتبرة في الولاء؟..ونعود إلى القرن الرابع، مع أحمد الصنوبري، الأنطاكي الحلبي الذي عرف شعره بالروضيات..له في الحسين مدائح ومراثي تشير إلى باعه الطويل في النعي والولاء..وهو من هو في الشعر حيث عدت روضياته من أعمدة الشعر العربي..في وصف كربلاء يقول:
ذِكْر يومِ الحُسَـين بالطفِّ أودَى +++ بِصمَاخي فَلَم يَدَعْ لي صماخَا
مَنعُـوه مَـاءَ الفـراتِ وظَلُّوا +++ يتعاطونَــهُ زُلالاً نقاخَــا
بأبـي عتـرة النَّبـي وأمِّـي +++ سَـدَّ عَنهُـم مُعاندٌ أصمَاخَا
خَير ذا الخَلق صِـبْية وشَـباباً +++ وكُهُولاً وخيرُهـم أشـيَاخَا
إنّ خطورة هذا المصاب تظهر أكثر حينما تظهر قيمة هذا البيت في سلّم القيم الإنسانية والفضيلة والشّرف..فمن لا يحفظ لهم فضلا أنّى له أن يحزن؟ يعدّد الصنوبري فضائل هؤلاء الذين قضوا تحت سنابك خيل يزيد وجنده:
أخذوا صَـدْر مفْخـر العِزِّ مُذْ +++ كَانُوا خَلوا للعَالَمينَ المخاخَا
النقيـون حيـثُ كانـوا جيوباً +++ حيث لا تَأمَن الجيوبُ اتِّسَاخَا
يألَفـون الطوى إذا ألفَ النَّاسُ +++ اشـتواءَ من فَيْئِهم واطباخَـا
خُلقُـوا أسـخِيَاء لا مُتَسَـاخِيْنَ +++ وَليسَ السَّـخْي مَن يَتَسَـاخَى
أهلُ فَضلٍ تَنَاسَخوا الفضل شَيْباً +++ وشـباباً أكرِمْ بذاك انتسَـاخَا
بِهَواهم يَزهُو وشَـمَّخ مَـنْ قَد +++ كانَ في النَّاس زَاهياً شـماخَا
يا ابن بِنت النَّبي أكرِمْ بِـهِ ابْناً +++ وبأســناخِ جَـدِّه أسـناخَا
وابنَ مَنْ وازَرَ النَّبـي وَوَالاهُ +++ وصَافَـاهُ في الغَديرِ ووَاخَى
وابنَ مَنْ كانَ للكَريهـة رِكَاباً +++ وللهَامِ في الوَفَـى شَـداخَا
ذُو الدِّمَاء التي يَطيلُ مَوالِيـهِ +++ اختضاباً بِطِيبِهَـا والتِطَاخَا
يعزّي الجدّ وهو أحمد في مصاب الحفيد المقطّع بكربلاء..ويذكّر القوم بأنّ الحسين قتيل الأدعياء كما كان أبوه قتيلا للأشقياء..
يَا خَيـر مـَن لَبِس النُّبُوَّة +++ مِـن جَميـعِ الأنبيَـاءِ
وَجدِي على سِبطَيكَ وَجْدٌ +++ لَيـس يؤذِنُ بانقِضَـاءِ
هَــذا قَتيـلُ الأشـقِيَاءِ +++ وذَا قَتيــلُ الأدعِيـاءِ
يَومُ الحُسَـين هرقَتْ دَمْعُ +++ الأرضِ بَلْ دمعُ السَّماءِ
يومُ الحُسـينِ تَركَتْ بَابَ +++ العِزِّ مَهجُـور الفَنَـاءِ
يَا كربـلاء خُلِقـتِ مِـن +++ كَربِ عَليٍّ ومِن بَـلاءِ
كَم فِيكِ مِن وجهٍ تَشَـرَّب +++ مـاؤُه مَـاءَ البَهَــاءِ
نَفسـي فِداء المُصـطَلِي +++ نارَ الوَفَى أيّ اصْطِلاءِ
من يا ترى للحسين وقد قضى مقطّع الأوصال..وبات الأطهار قطعا وأشلاء في العراء..والنسل الطيب الذي تقلّب في الساجدين يداس بالأقدام..وكأنّ اللّيل عاد ليخيّم على دنيا العرب بعد أن أشرقت الشمس المحمدية ذات صباح جاهلي..من للحفيد وقد استنصر القوم فسكتوا فرقا..وفرضوا عليهم الموت صبرا لأنّهم أدركوا منذ البداية أن هذا بيت لا يركع للطغاة..وأنّ الموت أشرف من الذّلة..على هذا المذهب سار نعي الصنوبري إذ يقول:
وقَضَـى كَريماً إذ قَضَى +++ ظَمْآن في نفـر ظمَـاءِ
مَنَعـوهُ طَعـم المَـاءِ لا +++ وَجدُوا لِمَاءٍ طَعمَ مَـاءِ
مَنْ ذَا لِمعقـُور الجَـوَادِ +++ ممَالُ أعـوَادِ الخِبـاءِ
مَنْ للطَّريحِ الشُّلوِ عَرْياناً +++ مُخَلَّــى بالعَــراءِ
مَـنْ للمُحنَّـطِ بالتُّـرابِ +++ وللمُغسَّـلِ بالدِّمــاءِ
مَنْ لابنِ فَاطِمَـة المُغَيَّبِ +++ عن عُيـونِ الأولِيَـاءِ
ومهما طافت وجدانيات الشاعر فهي تؤوب إلى محراب المراثي..مدركة أنّ ليس لمن يريد إنصاف الحسين سوى أن يذرف بعضا من الدموع كي يحافظ على أحاسيس تحفظ له إنسانيته..فالتطبيع مع النسيان خيانة للإنسانية في الجرائم النوعية التي تشكّل جريمة ضدّ الإنسانية كلّها..فهذه ليست جرائم حرب فحسب بل هي استهتار بالنفس المحترمة كما قال الحسين وهو يسير نحو المصير الذي فرضه يزيد وهو يمثل حالة تتكرر في كل جيل..الاستهتار بالقيم الإنسانية والمبادئ الخالدة..أجل ، ليس من مخرج غير الدموع..فلنبك إذن حسينا ما شاء قلب حزين:
مَا في المنـازلِ حَاجـةٌ نَقضِـيهَا +++ إلا السَّـلامُ وأدمُـعٌ نذريهَـا
وتفجّـعٌ للعيـنِ فيهـا حَيـثُ لا +++ عيشٌ أوازِيـهِ بِعَيشـي فِيهَـا
أبْكي المَنازِلَ وهي لو تَدْري الَّذي +++ بَعثَ البُكاءَ لَكُـدْتُ أسـتَبْكِيهَا
باللهِ يـا دَمـع السـحَائِب سَـقْهَا +++ ولَئِـن بخلْتَ فأدمُعي تَسـقِيهَا
الصنوبري واضح الولاء صريح الهوى لا لبس في مراده الشعري..يعرف من ينعى ومن يمدح..ولا يخطئ عقله وفؤاده..إنّه الرثاء الذي يصل القلب بالولاء للبيت الطاهر..لأهل الكساء العظماء..مربض الإنسان الكامل وسادة النوع بمثالهم الأعلى..
حُـبُّ النَّبـي مُحمَّـدٍ ووَصـِيِّه +++ مَعْ حُبّ فاطمةٍ وحُبّ بَنِيهـا
أهل الكسـاء الخَمسة الغُرَر التي +++ يَبنِي العُـلا بِعُلاهـم بَانيـهَا
الصنوبري في مرثياته هو موالي وبكّاء ومرهف الإحساس..ألا ترى أنّ الحسين وحده في كلّ تجارب النوع هو من بكاه الفرسان..فلقد رأينا من أمثلة صناديد العرب وشعرائهم وفرسانهم من بكاه بكاء الثكلى..فهول الموقف لا يسمح بالصبر والجلد..ففي الحسين تنطق الحواس ويهيمن الوجدان..وكل شيء في الحسين يبدو عاقلا معقولا.. لقد انتصرت رسالة كربلاء يوم تحوّلت إلى دموع ودماء..انتصر الدم على السيف..وانتصر الدمع على الطغيان..تحوّلت إلى حالة تفيض بمشاعر الأنسنة والحاجة إلى الإنصاف..يقول الصنوبري باكيا:
وابكُوا دِماءً لو تشـاهِد سَـفكَها +++ في كَربلاء لمَّا وَنَت تَبكِيهَـا

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/11/12



كتابة تعليق لموضوع : الحسين في ديوان العرب (16)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net