صفحة الكاتب : الشيخ ليث عبد الحسين العتابي

مصادر المعرفة
الشيخ ليث عبد الحسين العتابي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 يمثل موضوع ( مصادر المعرفة ) ( Sources of Knowledge ) أهمية كبيرة في المنظومة المعرفية لما لها من دور مهم , و فعال في إيصال المعرفة .
فـ( يشكل موضوع المصادر أهمية خاصة بالنسبة إلى التربية المعرفية الإسلامية لأنه يتصل ببناء فكر الأمة , و توجهها الحضاري من أجل إعادة بنائها أفراداً و جماعات ؛ لأنطلاقها من الجذور الأصلية و الأتجاهات و القيم التي كان لها أكبر الأثر في تاريخنا )  .
فالإنسان يتحصل على معارفه من مصادر عديدة , و متنوعة , و هنا لابد من البحث عن تلك المصادر التي تسمى بـ( مصادر المعرفة )  لكن بشكل إجمالي , و بما يتلائم و سياق الموضوع  , لأن هناك العديد من الكتب التي تكفلت بهذا الموضوع شرحاً و تفصيلاً , و نحن هنا سوف نشير إشارات سريعة للموضوع , و نقف عند المهم فيه بقدر ما يتعلق بموضوعنا الأصلي .
تجدر الإشارة إلى وقوع الأختلاف  في تعريف ( المصدر المعرفي ) , و كذلك في حقيقة تسمية ( مصادر المعرفة ) , و هـل يصلح إطلاق لفظ ( مصدر ) عليها , أم لفظ ( أصل ) بحيث تسمى ( أصول المعرفة ) , أم نطلق عليها لفظ ( وسيلة ) بحيث تسمى ( وسائل المعرفة ) , أم هي ( أدوات المعرفة ) , أما لـو جئنا لكلمة ( مصدر ) نفسها مثلاً لـوجدنا أن هناك أختلافاً قـد وقع فيها أيضاً , فالبعض عـرف المصدر بأنه وسيلة الوصول إلى المعرفة , و البعض الأخر جعله منبع المعرفة .
و على كل حال نقول : إن مصادر المعرفة و بشكل عام تعددت , و تنوعت , و من هذه المصادر  : ـ

1ـ الحواس.

    يعتبر الحس  ( Sense ) , أو الحواس ( Senses ) أول مصادر المعرفة التي يتحصل للإنسان عن طريقها المعارف المحسوسة أو المادية , فحواس الإنسان هي النافذة الطبيعية التي يطل بها الإنسان على ما حوله  , و عن طريقها يتفاعل مع الواقع , فهو يسمع , و يرى , و يلمس , و يشم , و يتذوق الأشياء بواسطة حواسه , فبالحواس يستطيع الفرد معرفة العالم المحيط به , و يهتدي من خلالها إلى الحقائق  , لذلك فإن المعرفة التي يتم تحصيلها بالحواس تعد معرفة أصيلة  .
فـ( الحس من أوثق مصادر المعرفة , إليه تنتهي كل المعارف الضرورية , و النظرية , و لولاه لما كانت هناك معرفة عقلية و لا إشراقية . و هذا لا يعني أنحصار أداة المعرفة به , و أنه ليس لنا إلى دار المعرفة سواه , فإن هذا ضلال و خداع , بل إن لنا إلى ذلك طرقاً مختلفة ... بيد أن المراد هو أن إعمال الأدوات الأُخر يتوقف على تجهيز الإنسان بأدوات الحس , و أرتباطه بالمحسوسات , و لأن ذلك كله معد لإدراك العقل البديهيات و النظريات . و لذلك قيل : من فقد حساً فقد علماً . و لو وجد إنسان فاقد لجميع الحواس , لكان عاجزاً عن تصور المعارف البسيطة فضلاً عن المعارف النظرية الدقيقة )  .
و تعد الحواس من أهم الوسائل المتماسة مع كل ما في العالم الخارجي و المستكشفة له , فالبصر للرؤيا , و اليد للكتابة و غيرها , و الأذن للسماع , و كذلك باقي مهام الحواس و ما يتعلق بها من أفعال , نعم قد يحصل خلل في فهم ( المحسوسات ) عندما يحصل خلل في الحواس , إلا أن ذلك ليس أمر كلي , فالحواس تخطئ و تصيب حالها كحال صاحبها فهي تابعة له , فقد يكون الخلل منها , أو لا , كما لو كان الخلل في العقل , أو في الأعيان الخارجية .
لكن و بشكل عام فإن الخلل وارد في الحواس , بل حتى في التفكير , لإنه تفكير إنساني محض قابل للصواب و الخطأ .
يقول أمير المؤمنين و مولى الموحدين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : (( و اعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السُّدَدِ المضروبة دون الغيوب , الأقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب , فمدح الله ـ تعالى ـ اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً , و سمّى تركهم التَعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخاً , فاقتصر على ذلك و لا تُقدّر عظمة الله سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين ))  .
و الحواس بما هي حواس تعتبر من مصادر المعرفة , و بما هي موصلة للمعرفة تعد من الأدوات المعرفية , و هي أولى الأدوات التي أستخدمها الأنسان في التعرف على الأشياء , و على العالم الخارجي , و تعتبر الحواس الجهاز الذي يمر عبره الكل , فكل معلومة مهما كانت فإنها تمر عن طريق الحواس , و من ثم تنتقل للعقل من أجل التفكير فيها , و فهمها , و الحكم عليها , و أعطاء النتيجة التي سوف تتحول إلى قاعدة كلية حول تلك المسألة فما أن تأتي مثيلاتها إلا و يكون الحكم عليها كالحكم على من سبقها , و هذه تسمى بـ( التجربة ) (  Experience ) .
و لا خلاف و لا إشكال إن للحواس دور مهم في عملية المعرفة , لكن وقع الخلاف في تقييم الدور الذي تقوم به الحواس في تحصيل المعرفة , و في تحليل مدى أعتماد المعرفة على الحواس , و في علاقة الحواس بغيرها من طرق , و أدوات المعرفة .
و علينا أن لا نغفل عن قضية ( المعرفة الحسية ) , و كون ( التجريبيون ) , أو ( الحسيون ) يبالغون في الأعتماد على الحواس في المعرفة , إذ يعدونها المنبع الوحيد للمعرفة , و إن العقل تابع للحواس , فنجد أن ( الأبيقوريون )  , و ( الرواقيون )  يبالغون في الأعتماد على الحواس كطريق وحيد للمعرفة , كل ذلك كان المنبع للمذهب ( التجريبي ) ( Experimental ) .
أما ( العقليون ) فلا ينكرون وجود الحواس و إن لها دوراً في تحصيل المعرفة لكن لا مطلقاً لما قد يصيب الحواس من خلل , و إن ما تطلع عليه الحواس ليس إلا مظهر الأشياء لا حقيقتها , و إن العقل هو أساس الحواس و موجه الأدراك الحسي .
لقد أختلف الفلاسفة في ( الإدراك الحسي ) و قدموا نظريات مختلفة حول تفسيره , و تعددت النظريات بتعدد المدارس , و بتعدد الفلاسفة , لكن يمكن أن نشير إلى من أشهر تلك النظريات  و هي : ( نظرية الواقعية الساذجة  لتوماس ريد  ) , و ( نظرية الواقعية  التمثيلية لجون لوك  ) , ( و نظرية المعطيات الحسية  لجورج مور  , و برتراند رسل  )  , و ( النظرية الظاهراتية  لميرلو بونتي  ) , و ( نظرية اللغة العادية  لفتجنشتين  , و جلبرت رايل  ) .

2ـ العقل .

    العقل  (  Mind ) , ( Reason ) , ( Intellect  ) في المعنى جاء من ( العقال ) أي الحبل الذي يُشد به ساق البعير ليمنعه من الحركة , لذا فالعقل هو الذي يمنع الإنسان من القيام بالأعمال المشينة . و قيل أن العقل هو العلم بصفات الأشياء , أو هو الذي يدرك الأشياء , أو هو الذي يتعامل مع تلك الأشياء .
قال ( أبن فارس ) في تعريفه للعقل : ( العين و القاف و اللام أصل واحد منقاس مطرد , يدل عظمه على حبسه في الشيء , أو يقارب الحبسة من ذلك العقل , و هو الحابس عن ذميم القول و الفعل ... )  .
و المراد بالعقل هنا ملكة إدراك المفاهيم الكلية  , و عملية التفكير التي يقوم بها الإنسان , و ترتبط إرتباطاً وثيقاً بالإدراك الحسي , لأن محتوى إدراك الإنسان يتوقف على ما يجرية عقله من عمليات كالتذكر , و التوقع , و تكوين المفاهيم المجردة من خلال إدراكات حسية , و هذا يدل على الأرتباط الوثيق ما بين العقل و الحواس في تحصيل المعرفة , و تتميز المعرفة العقلية عن الحسية بأسبقيتها , أو ( قبليتها ) , و ذلك لأن المعرفة الناجمة عن الإدراك الحسي تسمى معرفة ( بعدية ) لأنها تحصل بعد الخبرة , أما المعرفة التي تكتسب بالعقل الخالص فتسمى بـ( القبلية ) لحصولها قبل مرور الإنسان بخبرة حسية , و تسمى بـ( الفطرية ) (Instinct ) .
و لابد من الإشارة إلى أنه و في الجانب التشريعي قد ( وقع الأختلاف بين الفقهاء حول حجية العقل , فمنهم من رفضه مطلقاً , و رفض أي تدخل له في التشريع , و تشبث بنصوص الوحي , و السنة النبوية , و الأخبار المنقولة , فيما أعترف آخرون بهذه الحجية خصوصاً في أصول الأعتقادات " إثبات الخالق و المبدأ و التوحيد و النبوة " و أعتبروا أن نفي الأعتبار و الحجية عن العقل في أصول الدين إنما هو بمثابة إسقاط لأعتبار الدين , لأن هذه الأصول لا تثبت إلا بالعقل . أما في مجال أستنباط الأحكام , فهناك إجماع على مدخلية للعقل في هذا الأستنباط مع تفاوت بين المجتهدين في حجية العقل في هذا الأستنباط , بأستثناء الأخباريين و أهل الظاهر الذين لا يعترفون بالعقل , و يقدمون الأخبار عليه , إنطلاقاً من بعض النصوص الحديثية التي تحرم الرأي في الدين ... )  .
و على كل حال فالعقل : هو تلك القوة الإلهية التي أودعها الله سبحانه و تعالى في الإنسان و ذلك لمعرفة ربه و خالقه و سيده , و لمعرفة طريق الحق و صراط النجاة و العقل هو الذي يعرفه الرسول الأكرم ( ص ) بقوله :ـ ( العقل عقال من الجهل....) .
وقد أشار القران الكريم إلى تلك القوة العظيمة و وصفها بـ( اللب ) , و ( الألباب ) ,  يقول عز من قائل :
( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الأَلْبابِ ) سورة البقرة , الآية (269) .
يقول الراغب الأصفهاني : ( اللب : العقل الخالص من الشوائب , و سمي بذلك لكونه خالص ما في الإنسان ... و قيل : هو ما زكى من العقل , فكل لب عقل , و ليس كل عقل لبا , و لهذا علق الله تعالى الأحكام التي لا يدركها إلا العقول الزكية بإولي الألباب ) .
لذا نجد في الروايات الإسلامية اهتماما كبيراً بالعقل , و بتوضيح أهميته في حياة الإنسان , و دوره في تحقيق سعادته في الدنيا و الآخرة .
يقول رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : ( لكل شيء آلة و عدة وان آلة المؤمن و عدته العقل , و لكل شيء مطية , و مطية المرء العقل , و لكل شيء دعامة , و دعامة الدين العقل , و لكل قوم غاية , و غاية العباد العقل , و لكل قوم راع , و راعي العابدين العقل , و لكل تاجر بضاعة , و بضاعة المجتهدين العقل , و لكل أهل بيت قيم , و قيم الصديقين العقل , و لكل خراب عمارة , و عمارة الآخرة العقل , و لكل امرئ عقب ينسب أليه و يذكر به , و عقب الصديقين الذين ينسبون أليه و يذكرون به العقل , و لكل سفر فسطاط , و فسطاط المؤمنين العقل )  .
كما ويقول الإمام علي ابن أبي طالب ( عليه السلام ) : ( العقل رسول الحق )  .
ويقول الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( لا مصيبة كعدم العقل )  .
وعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( العقل دليل المؤمن )  .
وعن الإمام الرضا ( عليه السلام ) : ( صديق كل امرئ عقله , وعدوه جهله )  .
كما وان للعقل جنودا لابد للإنسان من معرفتها فعن أبي عبد الله ( عليه السلام ) انه قال : ( اعرفوا العقل و جنده , و الجهل و جنده تهتدوا ... )  .
كما وان الله سبحانه وتعالى جعل للعقل خمسة و سبعين جندا , كما وجعل للجهل مثلها , لذا نرى هنالك من يظن العقل جهلا والجهل عقلا . فكان مما أعطي للعقل من الجند ( الخير , الإيمان , التصديق , العلم , الفهم , الصبر , الحفظ , الطاعة , الصدق , الحق , الأمانة , المعرفة , الحقيقة , النظافة ... الخ ) .
فالعقل هو القوة العاقلة المائلة إلى الخيرات و الكمالات و داعية إلى العدل و الإحسان .
يقـول رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : ( إنما العاقل  من امن بالله و صدق رسله و عمل بطاعته )  .
إلا إن أعداء العقل هم ( الهوى , الشهوة , الفضول , العجب , مصاحبة الجاهل , كثرة المزاح , الكبر , الجهل , الأمل و الأماني , المسكرات ... الخ ) .
    فالعقل هو مصدر آخر من مصادر المعرفة الإنسانية , و نحن هنا نذكره بحسب الرؤيا الإسلامية التي وضحت مكانة العقل في الفكر الإنساني , و ليس من باب مقابلته بالمذاهب الفلسفية , أو الحسية , أو المادية , إنما خلاصة القول إن العقل هو مصدر مهم من مصادر المعرفة  , و العقل له مكانة سامية في المنظومة الإسلامية , و قد وردت الأحاديث الكثيرة في مدحه و تبيين مكانته , فهو أحد مصادر التشريع في الإسلام , و هنا نذكر بعض الأحاديث التي بينت مكانة العقل في المنظومة الإسلامية .
قال رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : ( إن العقل عقال من الجهل ... )  .
و قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : ( العقل رسول الحق )  .
و قال الأمام الصادق ( عليه السلام ) : ( خلق الله تعالى العقل من أربعة أشياء : من العلم , و القدرة , و النور , و المشيئة بالأمر , فجعله قائماً بالعلم , دائماً في الملكوت ) .
فيطلق ( العقل ) على ما في الإنسان من قوة تمييز , يكتسب بها الفضائل , و يدرك بها العلوم , و يفهم بها المطالب , و هو قوة تدرك بها النفس حقائق الأشياء , و هو في الفقه أحد منابع الأحكام و مدرك من مدارك الأستنباط , و هو أحد شرائط التكليف .
و هو أولاً و آخراً مصدر مهم من مصادر المعرفة الإنسانية , فهو الأداة التي تميز الإنسان عن الحيوان , و هو الأداة التي بها تُفهم العلوم , و هو الأداة التي تُعرِفُنا على المجهول , و هو الأداة التي تبدع و تخترع لغات التفاهم المختلفة بين البشر إن كلت الألسن عن ذلك , و هو الأداة التي تبتكر ما يخدم أحتياجات الإنسان , و كل ما يسهم في تطوره و تقدمه .
   إن الإسلام يعطي للعقل قيمة و ذلك لأسباب عديدة و كثيرة أوردها القرآن الكريم , و كذلك ما ورد منها في أحاديث النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) , و أحاديث الأئمة المعصومين ( عليهم السلام ) , و من دون العقل فلا فرق بين الإنسان و باقي الحيوانات .
أن هذه الأداة المهمة , و القيمة تحتاج إلى أمور عديدة تساعد في تقويتها , و أستنهاض مكنوناتها , و توجيهها الوجه الصحيحة و المرادة , و من تلك الأمور ( العلم ) ( Science ) , و ( الطاعة ) ( Obedience ) , و العفة , و القناعة , و الأستمرارية .
إن هذه الأداة هي المخزن الكبير لكل ما عمله الإنسان , و كل ما تعلمه , و المخزن لتجاربه , و لتجارب الآخرين , و هي الأداة القادرة على البت في أشياء لم يعرفها و لم يمر بها , بل إنه يستطيع أن يحكم عليها من خلال تجارب غيره .
و قد ذُكر للعقل أكثر من قسم , و أكثر من معنى يختلف و يتعدد بتعدد المراد كـ( العقل الشرعي , و العقل الفلسفي , و العقل الإجتماعي , و العقل الخلقي , و العقل النظري , و العقل العملي ) و ما يتعلق بها من مفاهيم ذكرت في الكتب المختصة  .

يقول الماوردي  في العقل : (( و اختلف الناس في " العقل " و في صفته على مذاهب شتى فقال قوم : هو جوهر لطيف يفصل به بين حقائق المعلومات . و من قال بهذا القول اختلفوا في محله ، فقالت طائفة منهم : محله الدماغ ، لأن الدماغ محل الحس . و قالت طائفة أخرى منهم : محله القلب لأن القلب معدن الحياة و مادة الحواس ... و قال آخرون : العقل هو المدرك للأشياء على ما هي عليه من حقائق المعنى ... و قال آخرون من المتكلمين : العقل هو جملة علوم ضرورية ... و قال آخرون و هو القول الصحيح : إن العقل هو العلم بالمدركات الضرورية ... ))  .
3ـ التجربة و الأكتساب .

     التجربة ( Experience ) : و بما يتبعها من ملاحظة , و إحصاء , و تقييم , و حكم تعتبر المصحح لما أخطئنا به مسبقاً من أجل رسم مسار يبتعد عن الوقوع في الخطأ قدر الإمكان و ذلك من خلال الإستعانة بالتجربة المسبقة سواء كانت لنفس الفرد , أم لغيره , أم لأشخاص و أمم سابقة , فهذه تسمى ( تجربة مكتسبة  ) , و هي تختلف عن ( التجربة المعاشة ) و التي يعيشها نفس الفرد .
و التجربة : هي تلك الخبرة و الممارسة التي يمر بها الفرد فتتحقق بها المعرفة  عند الإنسان , فبواسطة الممارسة , و التجريب , و إستخدام العقل , و الحواس , و الأدوات تتحصل المعرفة  .
و التجربة : عبارة عن تكرار المشاهدة لجزئيات متماثلة تحت ظروف مختلفة  .
و التجربة : إحدى الأدوات التي تفيد اليقين بنتيجة كلية , كما و إن التجريبيات هي إحدى اليقينيات  و التي تشكل أساس البراهين العقلية .
لقد أحتلت ( التجربة ) مكانة عليا عند الغرب , فكانت لها الأولوية , و مكانة الصدارة على عرش المعرفة , و شكلت الأساس لكثيرٍ من الأختراعات , و الإكتشافات من حيث الإطار العام .
و لا يمكن أن ننسى دور التاريخ و الحوادث التاريخية في خلق التجربة غير المعاشة , و أكتساب المعرفة عبر أخذ العبرة , و القرآن الكريم أكبر شاهد على ذلك , فهو يحدثنا و في أكثر من مقام عن ذلك .
قال تعالى : ( لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبابِ ) سورة يوسف , الآية ( 111 ) .
و قال تعالى : ( أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) سورة محمد , الآية ( 10 ) .
و الكثير من الآيات القرآنية الدالة على ذلك , و المحرضة على أخذ العبرة , و الأعتبار , و العبرة المرادة هي التي تساوق التجربة و هي : الحالة التي يتوصل بها من معرفة المُشاهد إلى ما ليس بمُشاهد  .
و يمكن أن نقسم التجربة و بشكل عام إلى ثلاثة أقسامٍ رئيسية هي :
1ـ التجربة الشخصية ( Personal experience ) : أو المعاشة , و هي التي تختص بنفس الشخص الذي عاشها , و مر بها , و جربها , و إستحصل الفائدة و العبرة منها .
2ـ التجربة المسموعة (Audio experience  ) : و هي التي يسمعها الشخص من أبيه أو جده أو من أي شخص آخر , و التي تُسرد على شكل مواقف , أو مفاخر , أو حكايات , أو فولكلور شعبي .
3ـ التجربة التاريخية ( Historical experience ) : و هي التي يجدها الشخص في تاريخ الأمم و الشعوب و الحضارات المختلفة , لأشخاص , أو شعوب , أو أماكن , و التي تعطينا الخبرة و التجربة الغير معاشة , و التي وردت في كتب التاريخ المختلفة .
و نستطيع أن نستنبط من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) مصداقاً لذلك فهو القائل : (( عباد الله إن الدهر يجري بالباقين كجرية بالماضين ))  .
فالتجربة التاريخية , أو ( التاريخ )  من المصادر المهمة في حياة الإنسان , و الذي يقدم لقارئيه , و للباحثين فيه تجارب البشر على مر القرون  على طبقٍ من ذهب .
إن حصيلة وعي الإنسان , و مقدار ما يملكه من علم هو حصيلة التجارب التي مر بها , لكن الإنسان لا يستطيع أن يخوض كل التجارب ليستحصل الفائدة , و يكتسب الخبرة ,  ذلك بسبب عمره القصير , و من هنا جاءت أهمية التجربة التاريخية لتفيد الإنسان , و تعطيه التجربة المسبقة الغير معاشة , و بالتالي الحكم على المسائل التي سوف تمر عليه  , فالتاريخ و بحق يعيد نفسه و لو في العموميات , و هذا كافٍ إجمالاً .
و يؤكد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) على ذلك في وصيته لولده الأمام الحسن المجتبى ( عليه السلام ) إذ يقول :   (( من الوالد الفانِ , المُقِر للزمان , المُدبِر العُمُر , المستسلم للدنيا , الساكن مساكن الموتى . و الظاعن عنها غداً , إلى المولود المؤمل ما لا يُدرك , السالك سبيل من قد هلك ... أما بعد ... وجدتك بعضي , بل وجدتك كلي , حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني , و كأن الموت لو أتاك أتاني , فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي ... أحي قلبك بالموعظة ... , و أعرض عليه أخبار الماضين , و ذكره بما أصاب من كان قبلك من الأولين , و سر في ديارهم و آثارهم , فانظر فيما فعلوا و عما انتقلوا , و أين حلوا و نزلوا , ... أي بني , إني و إن لم أكن عُمرتُ عُمر من كان قبلي , فقد نظرت في أعمالهم , و فكرت في أخبارهم , و سرتُ في آثارهم ؛ حتى عُدتُ كأحدهم ؛ بل كأني بما أنتهى إلي من أمورهم قد عُمرتُ مع أولهم إلى آخرهم , فعرفت صفو ذلك من كدره , و نفعه من ضرره , فاستخلصت لك من كل أمرٍ نَخيله [ جليلة ] , و توخيتُ لك جميلهُ , و صرفتُ عنكَ مجهولهُ , ... ثم أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم و آرائهم مثل الذي التبس عليهم , فكان إحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحب إلي من إسلامك إلى أمرٍ لا آمن عليك به الهلكة , ... فإن أشكل عليك شيء من ذلك فاحمله على جهالتك , فإنك أول ما خُلقت به جاهلاً ثم عُلمت , و ما أكثر ما تجهل من الأمر [ الأمور ] , ...))  .
كما و قال ( عليه السلام ) : (( التجارب علم مستفاد ))  .
و قال ( عليه السلام ) : (( الأمور بالتجربة , و الأعمال بالخبرة ))  .
و قال ( عليه السلام ) : (( لولا التجارب عميت المذاهب ))  .
كل هذا و ذاك موكل للبحوث التاريخية التي تناولت ذلك و منها بحث ( السنن التاريخية )  و الذي يعطينا صورة واضحة عن موضوع التاريخ بشكلٍ وافٍ , و كذلك نظرية ( الدورات التاريخية )  .
نعم لقد أهتم علماء الإسلام بالتجربة , و الأختبارات العلمية , فخرجوا بنتائج , و أكتشافات عظيمة , كان لها الدور الكبير في دفع عجلة العلوم البشرية إلى الأمام , و أرست قواعد الحضارة المدنية الحديثة , و من أفضل الأمثلة على ذلك ما قام به أمثال : ( جابر بن حيان الكوفي  , و محمد بن زكريا الرازي  , الشيخ الرئيس علي بن سينا  , الحسن بن الهيثم  , و نصير الدين الطوسي  ) .

4ـ الوحي .

و عن تعريفه قال ( أبن فارس ) : ( الواو و الحاء و الحرف المعتل : أصل يدل على إلقاء علم في إخفاء إلى غيرك )  .
أما في ( معجم لاروس ) : ( الوحي : كل ما ألقيته إلى غيرك ليعلمه , ثم غلب في ما يلقيه الله إلى أنبيائه )  .
و تتصل بهذا المصدر الرفيع , و السامي كل المعلومات و المعارف التي يحصل عليها الإنسان من الخالق جل و علا , و ذلك عن طريق ( الوحي ) ( Revelation ) إلى أشخاص أختارهم الله تعالى لمهمة إرشاد و تبليغ , و هداية البشرية ,  فإن الله سبحانه و تعالى و لأجل هداية البشر بعث الأنبياء و الرسل ( عليهم السلام ) لإرشادهم إلى ما يحتاجونه من أجل تحقيق السعادة , و الوصول إلى التكامل الإنساني .
يعد ( الوحي الإلهي ) ـ و بالخصوص عند الإلهيين ـ يعد من أهم , و أغنى , و أسمى , و أعلى مصادر المعرفة التي تلقاها الإنسان  , و هو مرتبط بعالم الغيب , و أول معرفة إلهية وهبها الله سبحانه و تعالى لبني البشر هي تلك المعرفة التي وهبها لآدم ( عليه السلام ) .
قال تعالى : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّها ) سورة البقرة , الآية (31) .
و هو  و مع كل ذلك يعد محل خلاف عند الفلاسفة , و على أختلاف مذاهبهم , و أديانهم , و معتقداتهم , إلا أن الذي يتزعم الخلاف و بشكل عام  إتجاهين رئيسيين هما : ( الإتجاه الديني ) ( Religious Direction ) , و ( الأتجاه اللاديني ) ( Non Religious Direction ) .
و إلى أهمية ( الوحي الإلهي ) ( Divine Revelation ) المتمثل ببعثة الأنبياء ( عليهم السلام ) رحمة , و هداية للبشرية يشير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) بقوله : (( و أصطفى من ولده ـ أي ولد آدم ـ أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم , و على تبليغ الرسالة أمانتهم . لَمَّا بدل أكثرُ خلقهِ عهد الله إليهم , فجهلوا حقه و أتخذوا الأنداد معه , و اجتالتهم الشياطين عن معرفته , و اقتطعتهم عن عبادته . فبعث رسله , و واتر إليهم أنبياءه , ليستأدوهم ميثاق فطرته , و يُذكروهم منسي نعمته , و يحتجوا عليهم بالتبليغ , و يثيروا لهم دفائن العقول , و يروهم الآيات المقدرة ... و لم يخل سبحانه خلقه من نبي مرسل , أو كتاب منزل , أو حجة لازمة , أو محجة قائمة . رسل لا تقصر بهم قلة عددهم , و لا كثرة المكـذبين لهم ... ))  .
و الوحي  ـ بحسب المتبادر ـ أمرٌ خاصٌ بالأنبياء ( عليهم السلام ) لإنه خاص بالغيبيات و المغيبات  , فهو يعرف : بكونه الإعلام الخفي السريع الخاص بمن يوجه إليه بحيث يخفى على غيره .
يقول الشيخ المفيد  ( قدس سره ) : ( إن أصل الوحي يعني الكلام الخفي , و قد أطلق على كل شيء القصد منه تفهيم المخاطب بشكل يخفى عن الآخرين , و إذا نسب الوحي إلى الله عز و جل فالمراد به التعاليم و الأوامر الإلهية التي يخاطب بها الأنبياء و الرسل )  .
لقد أخذ الوحي كحقيقة , و ماهية جل إهتمام فلاسفة الشرق و الغرب ما بين تأييدٍ , و إنكارٍ  , و ما بينهما , قديماً و حديثاً , و كلٌ سعى إلى تفسيره بما يتناسب و مبانيه , فتفرقت بهم السبل يميناً , و شمالاً , و مـا وصل إلى الحقيقة إلا من هداه الله سبحانه و تعالى  .
أما في أبحاث مصادر المعرفة فيذهب البعض إلى أن المراد بـ( الوحي ) ليس ( الوحي الإصطلاحي ) المتعارف عليه عند المتشرعة , بل المراد به الأخبار المحكية عن الوحي , و التي وصلت إلينا بواسطة الرواة  .
و على كل حال فـ( الوحي إدراك خاص متميز عن سائر الإدراكات , و ليس نتاج الحس و لا العقل و لا الغريزة , و إنما هو شعور خاص يوجده سبحانه في بعض عباده الصالحين , و هو يغاير الشعور الفكري المشترك بين أفراد الإنسان عامة , و من ينزل عليه الوحي لا يغلط في إدراكه , و لا يختلجه شك , و لا يعترضه ريب في أن الذي يوحي إليه هو الله تعالى , من غير أن يحتاج إلى إعمال نظر أو ألتماس دليل أو إقامة حجة , و لو افتقر إلى شيء من ذلك لكان أكتساباً عن طريق القوة النظرية لا تلقياً من الغيب )  .






مصادر أخرى للمعرفة

    لقد أضاف آخرون مصادر أخرى إلى المعرفة , و التي منها منها : ( الفطرة و الوجدان ) ( instinct and conscience ) , و ( الحدس  و الإلهام ) ( intuition and inspiration ) , و ( الكشف و الشهود )  ( detection and witnesses ) , و ( التقاليد ) ( traditions ) , و ( التمثيل )  , و ( الأستقراء )  , و ( الطبيعة , و القلب , و التاريخ )  , و لمــن أراد التوسع مراجـعة الكتب المختصة في ذلك  .
لكن لابد من فهم حقيقة مهمة و هي : أن لكل مدرسة مصادرها الخاصة بها , فالمدرسة الإسلامية على سبيل المثال لها مصادرها الخاصة في مجال المعرفة , و للمدارس الأخرى الدينية , و اللادينية  مصادرها الخاصة بها , فليس الكل مشترك في مصادر المعرفة , و ليس الكل متفق على عددها  .

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ ليث عبد الحسين العتابي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/11/07



كتابة تعليق لموضوع : مصادر المعرفة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net