صفحة الكاتب : ادريس هاني

الحسين في ديوان العرب (2)
ادريس هاني
ومن الشعراء من دينه الجبن وإن أظهر ما أظهر من حسن القول حين تراخي الخطوب..وعجبا كيف يقول المعرّي في الحسين شعرا وهو المتولّد بعد فاجعة الطّف (363 هـ - 449 هـ) ولم نجد للفرزدق الذي عاصره ولقيه في الطريق ونصحه بعدم الرحيل وعدم خلوص نفوس من استدعوه من أهل الكوفة ولكنه لم يرثه حين قضى ولا من بعد..ومع أنّ قصيدته التي مدح بها ابن الحسين في حضرة الخليفة بجرأة واستفزاز جاءت على قدر من الوفاء إلاّ أنّ مثلها لم تقل في الحسين مما يؤكّد لنا أنّ الفرزدق شاعر جبان بكل ما تعني الكلمة من معنى، ولكنه كان ميّالا لأهل البيت..وليس معذورا من قال شعرا في كل شيء وتمدّح بالأباعد أن لا يكون في ديوانه مديح للحسين..ولكن لندع الفرزدق الذي لم يف مع الحسين وننظر فيما قاله أبو العلاء المعري..
أبو العلاء المعري شاعر فيلسوف يمتاز شعره بالفكرة أكثر مما يمتاز بالتصوير..هو بالأحرى فيلسوف شاعر أو شاعر فيلسوف..وله من الجرأة ما ظهر من مواقفه..في قصيدته" وعلى الدهر من دماء الشهيدين" يربط بين عليّ والحسين..لعلّ في زمانه سادت مغالطة التمييز بين ذرر الآل..ذلك لأن فرط هذا العقد من شأنه أن يسهّل العبور إلى النيل أو التشكيك في ما كان من مواقف أبناء علي..هذا الربط لعلّه ترك أثره في طه حسين نفسه وقد تأثر بأبي العلاء المعري الذي كتب عنه أولى أطاريحه: في ذكرى أبي العلاء...حين كتب " عليّ وبنوه"..هذا الوصل حائل بين التجزيئ والفصل التعسفي بين أبناء البيت الواحد..علينا أن لا ننسى أنّ كربلاء الحسين لم تكن فلتة ليس لها تاريخ يرفدها بالمعنى والشرعية..لقد نبتت كربلاء الحسين من روح محمد وزفرات علي ودموع الزهراء وآلام الحسن..الحسين كأبيه قضى ظلما على يد أشقى البريّة..من غلّط الحسين فعليه أن يغلّط عليّا..وربّك ما كانا مخطئين وقد دار الحق معهما حيثما دارا..فكانت سفينة الحسين أسرع من كل سفن النجاة التي أتت قبله أو ستأتي بعده..لقد بلغت إلى أقصى النفوس ولا زالت تصنع حالات في وجدان المحبّين لا يبلغ مدحتها الشعراء ولا عمق إحساسها الناظرون..بين الحسين ومحبّيه حالة لا يقتحمها ولا يمسك بأسرارها إلاّ من ذاق من مرارة المأساة وأوقفت محاجره دموعها عليه خاصة..علي والحسين معا في شهادة أبي العلاء المعري فجران وشفقان:
وعـلى الدهر من دماء الشهي+++ ديـن عـلي ونـجله شاهدانِ
فـهما فـي أواخر الليل فجرا +++ ن وفــي أولـيـاته شـفقان
ليست شجاعة الجسين بدعا في هذا البيت الذي كانت له أسراره في فن الحرب كما كانت له أسراره في العلم والتقى..فكربلاء ذكّرت القوم في من سمته أمّه حيدر..فكما هان أمر الجموع على عليّ يوم بدر، فكذا هان أمرها على الحسين يوم كربلاء..بين بدر وكربلاء قصة استرجاع الموقف نفسه..كان يزيد اللعين ينتقم من الحسين لقاء ما كان قد فعله أبوه وجده..فكربلاء في نظر يزيد هي بدر نفسها..وذلك منذ أن عبّر عن موقفه ذاك وهو ينكث رأس الحسين متمثّلا أبياتا لابن الزبعرى أضاف إليها أبياتا أخرى:
ليت أشياخي ببدر شهدوا +++ جزع الخزرج من وقع الأسل 
قد قتلنا القوم من ساداتكم+++ وعدلنا ميل بدر فاعتدل 
فأهلّوا واستهلّوا فرحا +++ ثم قالوا يا يزيد لا تشل 
لست من خندف إن لم تنتقم +++ من بني أحمد ما كان فعل
في نظر يزيد هذه بتلك..وفي نظر الحسين هذه أيضا بتلك..فالمشروع واحد..وكما أنّ بدر صنعت المنعطف، فكان لا بد لكربلاء أن تصنع المنعطف.. يقول المعري:
يا ابن مستعرض الصفوف ببدر +++ ومـبيد الـجموع مـن غطفان
مسار واحد..حسينية عليّ في بدر..وعلوية الحسين في كربلاء..والمقاصد هي نفسها..والروح واحدة..سليل الكساء الذي حفّهما معا..وبه كان مصداق (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)..عليّ أمير في الكساء والحسين سبط من أسباطه..والزهراء هي السر المستودع فيه.. في نظر أبي العلاء المعرّي فقد اكتسب الخمسة قيمة منطقية كبرى..هما إذن ميزان التقى ومعيار العلم وأورغانون الحقيقة..
أحـد الـخمسة الذين هم الاع +++ راض فـي كل منطق والمعاني....
هم الأنوار التي بها يهتدي من ضلّ من الخلق..فهم النجوم..هم في المعنوية أثقل حضورا من الفلك..بل وكما يقول المعري:
والـشخوص التي خُلقن ضياء +++ قـبل خـلق المريخ والميزان
قـبل أن تخلق السماوات أو تؤ +++ مــر أفـلاكـهن بـالدوران
هم في نظام الفلك استثناء..بل متمنّعون عن شهب السماء..معصومون بلغة الفلك والنجوم..لا السماك يبلغهم ولا تمرد الحوت..ولا أي غدر أو طعان:
لـو تـاتى لنطحها حمل الشه +++ ب تـروى عن رأسه الشرطان
أو أراد الـسماك طـعناً لها عا +++ د كـسير الـقناة قـبل الطعان
أو رمتها قوس السماء لزال ال +++ ـجر مـنها وخانها الأبرهان
أو عـصاها حوت النجوم سقاه +++ حـتفه صـائد مـن الـحدثان
حاكمون على الفلك..معصومون من الشهب..رائدون حدّ باتت الأنسنة مشروطة بوجودهم الفائض بالخير..بمثالهم الذي احتوى فضائل كل الأنبياء وانصهرت في روحهم أرواح كل الاولياء..بهم كان الناس ناسا..لأنهم مثال على عظمة النّوع وإمكاناته في السموّ والتعالي في الخلق بالحق..فما بين الناس من خطايا لا يصلح دليلا على تفوقهم على الحيوان..ولكن هذا التفوق يدرك من الرّبيين المتعالين فوق النصف الآخر الممتلئ حيوانية في حياة النوع..هنا يكمن سرّ الإنسان الكامل الذي ارتقى فلم يعد فيه من الحيوانية ما يذكّره بعهد النزول..هم كائنات في صعود دائم وحنين إلى السما..وغيرهم كائنات كثيفة في نزول دائم وحنين إلى الأرض..
وبـهم فـضل المليك بني حوا +++ ء حـتى سـموا على الحيوان
شـرفوا بالشراف والسمر عيدا +++ ن اذا لـم يـزنّ بـالخرصان
كربلاء ليست فقط مغالبة برسم الحرب بل هي محراب لقياس درجة السمو الروحي..كان الحسين ينظر أقصى الوجود، بينما كان خصومه ينظرون أدنى الوجود..وتلك هي القصة التي عليها مدار المأساة: قوم يريدون أن يتطهّروا..وقوم يريدون أن يتدنّسوا...قوم معنيون بشرف الوجود الأسمى..وقوم مهووسون بالوجود الأدنى..ولله في خلقه شؤون
 : 20/10/2015

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/10/25



كتابة تعليق لموضوع : الحسين في ديوان العرب (2)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net