تجليات الآخر و طرق التعامل
الشيخ ليث عبد الحسين العتابي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
إن للآخر تجليات و أقسام لابد من الوقوف عندها لمعرفتها , و بالتالي لمعرفة كيفية التعامل مع ذلك الآخر بحسب تجلياته . و من هذه الأقسام و التجليات :
1ـ الآخر الإنساني :
الآخر الإنساني : هو الآخر المشابه في الخلقة , و في الطبيعة الإنسانية بغض النظر عن اللون , و اللغة , و اللهجة , فلقد أحتل الآخر في الفكر الإنساني مساحة كبيرة , فهو ( النظير في الخلق ) , و الأخ في الخَلق , و الأخ في الإنسانية . فهذا الآخر شريك معنا بالأصل , و بالإنتاج , و بالتراث الإنساني , ذلك التراث الذي خلفه بني الإنسان جميعاً , و بالدقة ؛ هو التراث الذي خلفه الإنسان بما هو إنسان بغض النظر عن اللون , و الإنتماء , و المكان , الزمان .
و المراد بالتراث الإنساني هو : ( ما تراكم خلال الأزمنة من تقاليد , و عادات , و تجارب , و خبرات , و فنون , و علوم , من شعب من الشعوب ... ) .
إذن فالتراث الإنساني هو ما يملكه جميع البشر بلا حدود , , أو قيود , أو معوقات , أو طبقيات , و بلا أي حواجز مصطنعة .
و بشكل عام فالآخر أما إنساني , أو ديني , أو معرفي , و نحن و في المجال الإنساني نلتقي مع جميع البشر و بدون إستثناء , و و بلا تمايز , أو تفاضل , فكلنا أولاد آدم و آدم خلق من تراب .
فليس هناك جنس راقي , أو جنس عالي , و لا جنس متدني , فلا طبقية , و لا تمييز أو تمايز بين البشر أبداً , فالكل بشر , و الجامع هو الوحدة الإنسانية . فبحسب هذا القسم لابد لنا أن نتعامل مع الجميع وفق هذا الجامع المشترك بيننا , و لننطلق منها نحو وحدة حقيقية تذيب الحواجز , و تبدد كل الخلافات , فإننا و إن لم يجمعنا الدين , و لم يجمعنا الفكر , و العلم , و المعرفة , فإن الجامع المشترك بلا شك و لا ريب هو الإنسانية شئنا أو أبينا . لكن و بشكل عام ما هو النهج الذي يمكن أن نتبعه في التعامل مع الآخر ؟
الجواب : إن أمامنا طريقين لا ثالث لهما في كيفية التعامل مع الآخر هما :
الأول : حكم الدين : و قد ذكرنا ـ و سنذكر في جانب الآخر الديني ـ أن الدين الإسلامي ـ و على سبيل المثال ـ قد بين لنا كيفية التعامل مع الآخر .
و قد ورد ذلك في القرآن الكريم بشكلٍ مجمل , كما و ورد في أحاديث النبي ( ص ) و أهل البيت ( عليهم السلام ) بشكل أكثر تفصيلاً .
الثاني : حكم العقل : و هو مساوق لحكم الطبيعة الإنسانية , و لقد أقتضى حكم العقل , و الطبيعة الإنسانية أن نتعامل مع الآخرين تعامل تكامل , و تعاون , و تعامل شراكة . فنحن أما شركاء في بلد واحد , أو في لغة واحدة , أو في مذهب واحد , أو في كوكب واحد , و إلا فإننا شركاء في طبيعة واحدة هي ( الطبيعة الإنسانية ) .
و هنا لابد لنا من أن نعطي للموضوع أهمية كبيرة , و تفصيل أكثر , و بالخصوص لمن يعيشون في البلدان الأجنبية , إذ أنهم يعيشون مع أكثريات عرقية , و دينية , مختلفة عنهم في كثير من الأمور , فماذا يصنعون ؟ و كيف يتعاملون معهم خصوصاً مع وجود خطاب متشنج بين الطرفين ؟
للجواب عن ذلك و بشكلٍ عامٍ نقول : إن التشنج الموجود ما بين أتباع الدين الإسلامي و باقي أتباع الديانات خلقه أشخاص ليس لديهم فهم صحيح للدين بشكل عام , و ليس لديهم فهم صحيح للدين الإسلامي بشكل خاص .
و الموجود على الساحة هو من خلق أشخاص يجهلون الدين الإسلامي , و من أشخاص ـ و في عدد لا بأس به من الأمثلة ـ هم في الحقيقة عملاء لوكالات الأستخبارات العالمية , و ذلك بغية الوقوف في وجه الدين الإسلامي , أو المد اٌسلامي ـ كما يحلو للبعض التعبير ـ , و لغايات و مبررات واضحة في بعض الأحيان , و غير واضحة في أحيان أخرى .
كما و إن الخطاب الداعي إلى التركيز ـ من قبل بعض الدوائر و شبكات الأعلام ـ على التعصب لدى بعض الجماعات الإسلامية , و ما فعلوه بالمسيحيين أو اليهود أو غيرهم , و جعله سمة للإسلام بوجه عام هو خطاب أعور . فإين هم عن الفضائع التي أرتكبتها جملة من الجماعات المسيحية و اليهودية و غيرها بحق المسلمين عبر التاريخ الطويل , و لو عقدنا مقارنة عادلة لكان نصيب المسلمين من الإعتداءات أكثر من غيرهم بأضعاف مضاعفة بدءً من سقوط الأندلس و ما رافقها من هجمات فرسان الكنيسة , و حتى مذابح بورما , و العراق , و أفغانستان , و لبنان , و .... ألخ من قائمة طويلة لا تنتهي . لكن و مع كل ذلك , و بالرغم مما لاقينا و نلاقيه , فنحن ندعوا أبناء الدين الإسلامي إلى الإلتزام بالتعاليم الحقيقية للدين , و بأصول التعامل الإنساني التي وضحها القرآن الكريم في أكثر من آية , و التي تجلت في تصرفات النبي الأكرم ( ص ) و أهل بيته الكرام ( عليهم السلام ) . فلقد كان رسول الله ( ص ) القمة في التعامل الإنساني , و لقد كان يطرح خطابه بكل بلاغة , بأسلوب لين , و منطق حسن , مع الأدلة و البراهين التي لا يختلف عليه العقلاء أبداً , بخلاف أعداء الذي تميزوا بالخطاب المتشنج , و بأسلوب الأتهام , و الأستهزاء , و التحريض . و نجد أنه ( ص ) و في الرسائل التي أرسلها إلى الملوك في ذلك العصر قد أنتهج الأسلوب الحسن في التعمل معهم فكتب رسائلة مقماً أياها بتبجيلهم و أحترامهم فقال : ( إلى كسرى عظيم الفرس ) , و ( إلى هرقل عظيم الروم ) , و ( إلى المقوقس عظيم القبط ) .
و روى البخاري أن النبي ( ص ) مرت به جنازة فقام فقيل له إنها جنازة يهودي , فقال ( ص ) : (( أليست نفساً )) .
و قال ( ص ) : (( ألا من ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته أو انتقصه , أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة )) .
و نرجع و نقول : إن الخلل , و أسباب التشنج الموجودة ما بين أتباع الدين الإسلامي , و باقي الأديان الأخرى هو إما بسبب ( المتصدين الذين يتحدثون باسم الدين الإسلامي ) , أ و بسبب ( المطبقين له ) , أو كليهما معاً . و ذلك لأن كلاهما يفتقر إلى الفهم الصحيح لحقيقة الدين الإسلامي , و صار بسبب هؤلاء ديناً يكفر الآخرين فقط . و المصيبة أنك تجد شخصاً ما يصعد سيارة ألمانية ـ على سبيل المثال ـ , و يضع ساعة سويسرية , و يلبس ملابس إنكليزية , و يضع عطراً فرنسياً , و يتكلم بميكرفون أجنبي , و يصعد على منبر خشبه من دولة أجنبية , و يخطب داخل مسجد كل مواد بناءه من دول أجنبية , ثم يلعن و يكفر الغرب و يكفر غير المسلمين ـ بل حتى المسلمين ـ و يقول : ربطة العنق حرام , التعامل مع الغرب حرام , قراءة كتب الغرب ضلال , نظريات الغرب ضلال , علوم الغرب ضلال , ... ألخ . فمثل هؤلاء الجهلة و في حقيقة الأمر يريدون تعطيل الحضارة , و منع التطور , و رفض التقدم , مع تمتعهم بكل أنواع النعيم الغربي . إنهم في الحقيقة يسعون لتجهيل العقول لكي لا ينافسهم أحد , و لا يزايد على مكاسبهم أحد , و حالهم كحال الكنيسة في العصور الوسطى .
2ـ الآخر الديني :
لقد أحتل الآخر في الفكر الديني مساحة كبيرة , فهو ( الأخ في الدين ) , و الخطاب الديني بالأصل خطاب لين , و متسامح , و جميل , و ذو عبارات جذابة تحاكي المشاعر , و تدغدغ الأحاسيس .
قال تعالى : ( ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) سورة النحل , الآية (125) .
و قال تعالى : ( وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) سورة العنكبوت , الآية ( 46 ) .
( إن الإنسان هو المسؤول عن كل الفظاعات التي لم يكن الدين فيها إلا ضحية عنف الإنسان و عصبيته , و دائماً كان الإنسان يتدخل في إعادة صياغة النص الديني بالتحريف أو إعادة صياغة المعنى و التأويل الخاص للنص إذا ما أستعصى النص على التحريف , و في الحالتين كليهما كان الإنسان هو الذي يرسم لنفسه مدارات العنف و هو من يؤسس لعصبيته و يسندها بمبررات فلسفية و خيالات إيديولوجية , و تاريخية , و شعرية ... ) .
من أسس و مقومات الفكر الديني الحقيقي هو التسامح , و التعايش السلــمي . لكن المشكلة الحقيقية , و التي تعاني منها الأديان هي : حاملوها , و المتحدثون باسمها كما بينا مسبقاً . و هنا و في هذا القسم لا يجوز الحصر بالدين الإسلامي فقط , بل المراد بالآخر الديني ما يشمل جميع أتباع الأديان الموحدة , و التي تؤمن بالله تعالى , و إن أنعدم ذلك فيدخل الكل تحت عنوان الآخر الإنساني .
3ـ الآخر المعرفي :
أما في المجال المعرفي فقد أسس الإسلام مبداء ؛ أن المعرفة ما هي إلا حصيلة الشراكة و التعاون المتبادل بين ( الذات ) , و ( الآخر ) .
و مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) قد تميزت بأسلوب تعاملها مع الآخر , و بالخصوص ( الآخر المعرفي ) بغض النظر عن إنتماءه , و دينه , و مذهبه , و لغته , و ورث هذا الأسلوب و سار عليه علماء الشيعة في تعاملهم مع الأفكار و النظريات , فكان أسلوبهم في التعامل مع ( الآخر المعرفي ) تعامل علمي رصين يعكس العقلية المتفتحة لهؤلاء العلماء .
لذا فإن قضية دراسة ( الآخر المعرفي ) مهمة جداً و ذلك من جانبين :
الجانب الأول : ألا و هو ما يختص بدراسة المنهج الخاص بـ( الآخر ) , و كل ما يتعلق به . فلكل شخص منهجه الخاص به , و لكل علم منهجه الخاص أيضاً , و نحن و عند تعاملنا مع قضيةٍ ما علينا أن لا نخلط بين التعامل المنهجي , و التعامل الشخصي , و أن لا نجعل الدافع الشخصي يطغى على الجانب المنهجي في التعامل مع المعلومات , أو الشخصيات , و ما شاكل ذلك .
الجانب الثاني : ما يختص بمعرفة ماهية ( الآخر ) و كيفية التعامل معه , خصوصاً في المجال المعرفي , إذ لابد أن يكون التعامل المعرفي مختلف عن باقي أنواع التعاملات , فقوام التعامل المعرفي هو الحيادية التامة , و النفس العلمي الموضوعي , و البحث عن الحقيقة , بلا أي دوغمائية , أو تعامل أيديولوجي مسبق .
لإن الدين الإسلامي يدعوا إلى طلب العلم في أي مكان , و عند أي شخص كان , بغض النظر عن الدين و المذهب و الأنتماء و اللغة .
نعم إننا نكسب العلم و المعرفة الدينية من علمائنا , و في داخل بلداننا , أو خارجها , لكن كيف يمكن لنا أن نكسب العلوم التقنية , و العلوم و النظريات الحديثة ؟
فمن المعلوم أنها و بشكل عام عند الغرب , عند من يختلف معنا في الدين , فهل يصح التعلم عندهم , و أخذ العلم منهم ؟
الجواب تجدونه عند مراجع تقليدكم , و هو إيجابي و إن تخللته أدوات الأستثناء .
إننا و عندما ننتقد أخذ الدول العربية و الإسلامية للكثير من النظريات الغربية في مجالات التربية , و التعليم , و الإعلام , و غيرها إنما نريد القول : إن على الإمة الإسلامية أن تعيد النظر في كامل منظومتها التي شابها التحريف , و الخمول , و التغريب , و أن تصحح مفاهيمها و نظرياتها الحياتية و بالخصوص في الجانب التربوي بأن ترجع إلى كتاب الله تعالى بما فيه من آيات , و مفردات في مجال التربية , و التعليم , و بناء الأمة , و إن ترجع إلى الأحاديث النبوية الشريفة و إلى تراث أهل البيت ( عليهم السلام ) .
أن ديننا يدعونا للتعقل , و الإتزان في كل شيء حتى في الآخذ من الآخر , فنحن نأخذ من الآخر العلم , و التكنولوجيا , و نطمح أن نتقدم و نرتقي مثله , فلابأس بكل ذلك , أما أن نستورد منه الأخلاقيات , و السلوكيات السيئة , بل أن نشعر أمامه بالصغر , و الأنعدام , و أن نجعل بعض من يلحد بالله تعالى قدوة لنا , فذلك خلاف العقل , و الدين , و خلاف منطق الإنسانية .
( إن تقليد عالم الغرب يجب أن يكون في مجال العلوم , و الفنون التجريبية , و الأساليب الصحيحة , و المثمرة , أي في إطار العقل , و المصلحة , لا أن يتبع الشرقيون بصورة عمياء الغربيين , و يتعلموا أساليبهم , و يعملوا وفقها دون قيد أو شرط , لأن الكثير من الخطايا ترتكب في عالم الغرب بصورة مشروعة تحت عنوان " الحرية الفردية " و نتيجة لذلك فإن عدداً كبيراً من النساء , و الرجال يتعرضون للمساوئ الأخلاقية , و الشرور بفعل الغرائز , و الرغبات النفسية , فينحرفون عن جادة الحق و الفضيلة , و لسوء الحظ فإن الفساد , و الضياع يزدادان يوماً بعد آخر , و يزداد معهما عدد المنحرفين , و المذنبين ) .
إن القرآن الكريم قد وضع لنا المنهجية الصحيحة في الآخذ , و كيف نأخذ من الآخرين وفق منهجية عقلائية صحيحة , قال تعالى : ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الأَلْبابِ ) سورة الزمر , الآية (18) .
لذا فعلى الشعوب التي تأثرت , و أنبهرت بالغرب , و بالخصوص الشعوب الشرقية أن تعرف كيفية الأستفادة من علم علماء الغرب , و تتعلم منهم الأساليب العلمية , و العملية , بإسلوب واعي , و وفق إطار العقل , و المصلحة , و بما يسمح به الدين , و يتلائم مع الأخلاق , و الأعراف , في حدود العلوم , و الفنون التقنية , و مجال العلم , و المعرفة , لا أن يقلدوا الغرب بشكل أعمى , و يأخذوا منه كل شيء حتى أقواله , و أفعاله , و سلوكياته , و أخلاقه , من دون علم , و دراية , و بلا بعد نظر .
نعم ( أن الغرب من حيث العلم , و الجامعات , و مراكز البحوث , و الأساتذة ذوي الأختصاص غني , و لكنه من حيث مكارم الأخلاق , و الفضائل الإنسانية فقير , و محتاج ) . هذا من جانب .
أما من جانب آخر فـ( إذا حصل أن قاطع المحليون منتجات المستوطن , كما بلغنا عن سياسة العصيان المدني الهندي بزعامة غاندي , أو ثورة التنباك بإيران بزعامة الميرزا الشيرازي , فذلك لم يكن تبعيداً للمستهلك , و لا تكفيراً للتقنية , بل وسيلة من وسائل المقاومة التي شهد المجال العربي الإسلامي حالات , و شواهد تماثلها ) .
فالأمام الصادق ( عليه السلام ) يقول : (( العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس )) .
و يقول ( عليه السلام ) أيضاً : (( على العاقل أن يكون عارفاً بزمانه مقبلاً على شأنه )) .
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
الشيخ ليث عبد الحسين العتابي

إن للآخر تجليات و أقسام لابد من الوقوف عندها لمعرفتها , و بالتالي لمعرفة كيفية التعامل مع ذلك الآخر بحسب تجلياته . و من هذه الأقسام و التجليات :
1ـ الآخر الإنساني :
الآخر الإنساني : هو الآخر المشابه في الخلقة , و في الطبيعة الإنسانية بغض النظر عن اللون , و اللغة , و اللهجة , فلقد أحتل الآخر في الفكر الإنساني مساحة كبيرة , فهو ( النظير في الخلق ) , و الأخ في الخَلق , و الأخ في الإنسانية . فهذا الآخر شريك معنا بالأصل , و بالإنتاج , و بالتراث الإنساني , ذلك التراث الذي خلفه بني الإنسان جميعاً , و بالدقة ؛ هو التراث الذي خلفه الإنسان بما هو إنسان بغض النظر عن اللون , و الإنتماء , و المكان , الزمان .
و المراد بالتراث الإنساني هو : ( ما تراكم خلال الأزمنة من تقاليد , و عادات , و تجارب , و خبرات , و فنون , و علوم , من شعب من الشعوب ... ) .
إذن فالتراث الإنساني هو ما يملكه جميع البشر بلا حدود , , أو قيود , أو معوقات , أو طبقيات , و بلا أي حواجز مصطنعة .
و بشكل عام فالآخر أما إنساني , أو ديني , أو معرفي , و نحن و في المجال الإنساني نلتقي مع جميع البشر و بدون إستثناء , و و بلا تمايز , أو تفاضل , فكلنا أولاد آدم و آدم خلق من تراب .
فليس هناك جنس راقي , أو جنس عالي , و لا جنس متدني , فلا طبقية , و لا تمييز أو تمايز بين البشر أبداً , فالكل بشر , و الجامع هو الوحدة الإنسانية . فبحسب هذا القسم لابد لنا أن نتعامل مع الجميع وفق هذا الجامع المشترك بيننا , و لننطلق منها نحو وحدة حقيقية تذيب الحواجز , و تبدد كل الخلافات , فإننا و إن لم يجمعنا الدين , و لم يجمعنا الفكر , و العلم , و المعرفة , فإن الجامع المشترك بلا شك و لا ريب هو الإنسانية شئنا أو أبينا . لكن و بشكل عام ما هو النهج الذي يمكن أن نتبعه في التعامل مع الآخر ؟
الجواب : إن أمامنا طريقين لا ثالث لهما في كيفية التعامل مع الآخر هما :
الأول : حكم الدين : و قد ذكرنا ـ و سنذكر في جانب الآخر الديني ـ أن الدين الإسلامي ـ و على سبيل المثال ـ قد بين لنا كيفية التعامل مع الآخر .
و قد ورد ذلك في القرآن الكريم بشكلٍ مجمل , كما و ورد في أحاديث النبي ( ص ) و أهل البيت ( عليهم السلام ) بشكل أكثر تفصيلاً .
الثاني : حكم العقل : و هو مساوق لحكم الطبيعة الإنسانية , و لقد أقتضى حكم العقل , و الطبيعة الإنسانية أن نتعامل مع الآخرين تعامل تكامل , و تعاون , و تعامل شراكة . فنحن أما شركاء في بلد واحد , أو في لغة واحدة , أو في مذهب واحد , أو في كوكب واحد , و إلا فإننا شركاء في طبيعة واحدة هي ( الطبيعة الإنسانية ) .
و هنا لابد لنا من أن نعطي للموضوع أهمية كبيرة , و تفصيل أكثر , و بالخصوص لمن يعيشون في البلدان الأجنبية , إذ أنهم يعيشون مع أكثريات عرقية , و دينية , مختلفة عنهم في كثير من الأمور , فماذا يصنعون ؟ و كيف يتعاملون معهم خصوصاً مع وجود خطاب متشنج بين الطرفين ؟
للجواب عن ذلك و بشكلٍ عامٍ نقول : إن التشنج الموجود ما بين أتباع الدين الإسلامي و باقي أتباع الديانات خلقه أشخاص ليس لديهم فهم صحيح للدين بشكل عام , و ليس لديهم فهم صحيح للدين الإسلامي بشكل خاص .
و الموجود على الساحة هو من خلق أشخاص يجهلون الدين الإسلامي , و من أشخاص ـ و في عدد لا بأس به من الأمثلة ـ هم في الحقيقة عملاء لوكالات الأستخبارات العالمية , و ذلك بغية الوقوف في وجه الدين الإسلامي , أو المد اٌسلامي ـ كما يحلو للبعض التعبير ـ , و لغايات و مبررات واضحة في بعض الأحيان , و غير واضحة في أحيان أخرى .
كما و إن الخطاب الداعي إلى التركيز ـ من قبل بعض الدوائر و شبكات الأعلام ـ على التعصب لدى بعض الجماعات الإسلامية , و ما فعلوه بالمسيحيين أو اليهود أو غيرهم , و جعله سمة للإسلام بوجه عام هو خطاب أعور . فإين هم عن الفضائع التي أرتكبتها جملة من الجماعات المسيحية و اليهودية و غيرها بحق المسلمين عبر التاريخ الطويل , و لو عقدنا مقارنة عادلة لكان نصيب المسلمين من الإعتداءات أكثر من غيرهم بأضعاف مضاعفة بدءً من سقوط الأندلس و ما رافقها من هجمات فرسان الكنيسة , و حتى مذابح بورما , و العراق , و أفغانستان , و لبنان , و .... ألخ من قائمة طويلة لا تنتهي . لكن و مع كل ذلك , و بالرغم مما لاقينا و نلاقيه , فنحن ندعوا أبناء الدين الإسلامي إلى الإلتزام بالتعاليم الحقيقية للدين , و بأصول التعامل الإنساني التي وضحها القرآن الكريم في أكثر من آية , و التي تجلت في تصرفات النبي الأكرم ( ص ) و أهل بيته الكرام ( عليهم السلام ) . فلقد كان رسول الله ( ص ) القمة في التعامل الإنساني , و لقد كان يطرح خطابه بكل بلاغة , بأسلوب لين , و منطق حسن , مع الأدلة و البراهين التي لا يختلف عليه العقلاء أبداً , بخلاف أعداء الذي تميزوا بالخطاب المتشنج , و بأسلوب الأتهام , و الأستهزاء , و التحريض . و نجد أنه ( ص ) و في الرسائل التي أرسلها إلى الملوك في ذلك العصر قد أنتهج الأسلوب الحسن في التعمل معهم فكتب رسائلة مقماً أياها بتبجيلهم و أحترامهم فقال : ( إلى كسرى عظيم الفرس ) , و ( إلى هرقل عظيم الروم ) , و ( إلى المقوقس عظيم القبط ) .
و روى البخاري أن النبي ( ص ) مرت به جنازة فقام فقيل له إنها جنازة يهودي , فقال ( ص ) : (( أليست نفساً )) .
و قال ( ص ) : (( ألا من ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته أو انتقصه , أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة )) .
و نرجع و نقول : إن الخلل , و أسباب التشنج الموجودة ما بين أتباع الدين الإسلامي , و باقي الأديان الأخرى هو إما بسبب ( المتصدين الذين يتحدثون باسم الدين الإسلامي ) , أ و بسبب ( المطبقين له ) , أو كليهما معاً . و ذلك لأن كلاهما يفتقر إلى الفهم الصحيح لحقيقة الدين الإسلامي , و صار بسبب هؤلاء ديناً يكفر الآخرين فقط . و المصيبة أنك تجد شخصاً ما يصعد سيارة ألمانية ـ على سبيل المثال ـ , و يضع ساعة سويسرية , و يلبس ملابس إنكليزية , و يضع عطراً فرنسياً , و يتكلم بميكرفون أجنبي , و يصعد على منبر خشبه من دولة أجنبية , و يخطب داخل مسجد كل مواد بناءه من دول أجنبية , ثم يلعن و يكفر الغرب و يكفر غير المسلمين ـ بل حتى المسلمين ـ و يقول : ربطة العنق حرام , التعامل مع الغرب حرام , قراءة كتب الغرب ضلال , نظريات الغرب ضلال , علوم الغرب ضلال , ... ألخ . فمثل هؤلاء الجهلة و في حقيقة الأمر يريدون تعطيل الحضارة , و منع التطور , و رفض التقدم , مع تمتعهم بكل أنواع النعيم الغربي . إنهم في الحقيقة يسعون لتجهيل العقول لكي لا ينافسهم أحد , و لا يزايد على مكاسبهم أحد , و حالهم كحال الكنيسة في العصور الوسطى .
2ـ الآخر الديني :
لقد أحتل الآخر في الفكر الديني مساحة كبيرة , فهو ( الأخ في الدين ) , و الخطاب الديني بالأصل خطاب لين , و متسامح , و جميل , و ذو عبارات جذابة تحاكي المشاعر , و تدغدغ الأحاسيس .
قال تعالى : ( ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) سورة النحل , الآية (125) .
و قال تعالى : ( وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) سورة العنكبوت , الآية ( 46 ) .
( إن الإنسان هو المسؤول عن كل الفظاعات التي لم يكن الدين فيها إلا ضحية عنف الإنسان و عصبيته , و دائماً كان الإنسان يتدخل في إعادة صياغة النص الديني بالتحريف أو إعادة صياغة المعنى و التأويل الخاص للنص إذا ما أستعصى النص على التحريف , و في الحالتين كليهما كان الإنسان هو الذي يرسم لنفسه مدارات العنف و هو من يؤسس لعصبيته و يسندها بمبررات فلسفية و خيالات إيديولوجية , و تاريخية , و شعرية ... ) .
من أسس و مقومات الفكر الديني الحقيقي هو التسامح , و التعايش السلــمي . لكن المشكلة الحقيقية , و التي تعاني منها الأديان هي : حاملوها , و المتحدثون باسمها كما بينا مسبقاً . و هنا و في هذا القسم لا يجوز الحصر بالدين الإسلامي فقط , بل المراد بالآخر الديني ما يشمل جميع أتباع الأديان الموحدة , و التي تؤمن بالله تعالى , و إن أنعدم ذلك فيدخل الكل تحت عنوان الآخر الإنساني .
3ـ الآخر المعرفي :
أما في المجال المعرفي فقد أسس الإسلام مبداء ؛ أن المعرفة ما هي إلا حصيلة الشراكة و التعاون المتبادل بين ( الذات ) , و ( الآخر ) .
و مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) قد تميزت بأسلوب تعاملها مع الآخر , و بالخصوص ( الآخر المعرفي ) بغض النظر عن إنتماءه , و دينه , و مذهبه , و لغته , و ورث هذا الأسلوب و سار عليه علماء الشيعة في تعاملهم مع الأفكار و النظريات , فكان أسلوبهم في التعامل مع ( الآخر المعرفي ) تعامل علمي رصين يعكس العقلية المتفتحة لهؤلاء العلماء .
لذا فإن قضية دراسة ( الآخر المعرفي ) مهمة جداً و ذلك من جانبين :
الجانب الأول : ألا و هو ما يختص بدراسة المنهج الخاص بـ( الآخر ) , و كل ما يتعلق به . فلكل شخص منهجه الخاص به , و لكل علم منهجه الخاص أيضاً , و نحن و عند تعاملنا مع قضيةٍ ما علينا أن لا نخلط بين التعامل المنهجي , و التعامل الشخصي , و أن لا نجعل الدافع الشخصي يطغى على الجانب المنهجي في التعامل مع المعلومات , أو الشخصيات , و ما شاكل ذلك .
الجانب الثاني : ما يختص بمعرفة ماهية ( الآخر ) و كيفية التعامل معه , خصوصاً في المجال المعرفي , إذ لابد أن يكون التعامل المعرفي مختلف عن باقي أنواع التعاملات , فقوام التعامل المعرفي هو الحيادية التامة , و النفس العلمي الموضوعي , و البحث عن الحقيقة , بلا أي دوغمائية , أو تعامل أيديولوجي مسبق .
لإن الدين الإسلامي يدعوا إلى طلب العلم في أي مكان , و عند أي شخص كان , بغض النظر عن الدين و المذهب و الأنتماء و اللغة .
نعم إننا نكسب العلم و المعرفة الدينية من علمائنا , و في داخل بلداننا , أو خارجها , لكن كيف يمكن لنا أن نكسب العلوم التقنية , و العلوم و النظريات الحديثة ؟
فمن المعلوم أنها و بشكل عام عند الغرب , عند من يختلف معنا في الدين , فهل يصح التعلم عندهم , و أخذ العلم منهم ؟
الجواب تجدونه عند مراجع تقليدكم , و هو إيجابي و إن تخللته أدوات الأستثناء .
إننا و عندما ننتقد أخذ الدول العربية و الإسلامية للكثير من النظريات الغربية في مجالات التربية , و التعليم , و الإعلام , و غيرها إنما نريد القول : إن على الإمة الإسلامية أن تعيد النظر في كامل منظومتها التي شابها التحريف , و الخمول , و التغريب , و أن تصحح مفاهيمها و نظرياتها الحياتية و بالخصوص في الجانب التربوي بأن ترجع إلى كتاب الله تعالى بما فيه من آيات , و مفردات في مجال التربية , و التعليم , و بناء الأمة , و إن ترجع إلى الأحاديث النبوية الشريفة و إلى تراث أهل البيت ( عليهم السلام ) .
أن ديننا يدعونا للتعقل , و الإتزان في كل شيء حتى في الآخذ من الآخر , فنحن نأخذ من الآخر العلم , و التكنولوجيا , و نطمح أن نتقدم و نرتقي مثله , فلابأس بكل ذلك , أما أن نستورد منه الأخلاقيات , و السلوكيات السيئة , بل أن نشعر أمامه بالصغر , و الأنعدام , و أن نجعل بعض من يلحد بالله تعالى قدوة لنا , فذلك خلاف العقل , و الدين , و خلاف منطق الإنسانية .
( إن تقليد عالم الغرب يجب أن يكون في مجال العلوم , و الفنون التجريبية , و الأساليب الصحيحة , و المثمرة , أي في إطار العقل , و المصلحة , لا أن يتبع الشرقيون بصورة عمياء الغربيين , و يتعلموا أساليبهم , و يعملوا وفقها دون قيد أو شرط , لأن الكثير من الخطايا ترتكب في عالم الغرب بصورة مشروعة تحت عنوان " الحرية الفردية " و نتيجة لذلك فإن عدداً كبيراً من النساء , و الرجال يتعرضون للمساوئ الأخلاقية , و الشرور بفعل الغرائز , و الرغبات النفسية , فينحرفون عن جادة الحق و الفضيلة , و لسوء الحظ فإن الفساد , و الضياع يزدادان يوماً بعد آخر , و يزداد معهما عدد المنحرفين , و المذنبين ) .
إن القرآن الكريم قد وضع لنا المنهجية الصحيحة في الآخذ , و كيف نأخذ من الآخرين وفق منهجية عقلائية صحيحة , قال تعالى : ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الأَلْبابِ ) سورة الزمر , الآية (18) .
لذا فعلى الشعوب التي تأثرت , و أنبهرت بالغرب , و بالخصوص الشعوب الشرقية أن تعرف كيفية الأستفادة من علم علماء الغرب , و تتعلم منهم الأساليب العلمية , و العملية , بإسلوب واعي , و وفق إطار العقل , و المصلحة , و بما يسمح به الدين , و يتلائم مع الأخلاق , و الأعراف , في حدود العلوم , و الفنون التقنية , و مجال العلم , و المعرفة , لا أن يقلدوا الغرب بشكل أعمى , و يأخذوا منه كل شيء حتى أقواله , و أفعاله , و سلوكياته , و أخلاقه , من دون علم , و دراية , و بلا بعد نظر .
نعم ( أن الغرب من حيث العلم , و الجامعات , و مراكز البحوث , و الأساتذة ذوي الأختصاص غني , و لكنه من حيث مكارم الأخلاق , و الفضائل الإنسانية فقير , و محتاج ) . هذا من جانب .
أما من جانب آخر فـ( إذا حصل أن قاطع المحليون منتجات المستوطن , كما بلغنا عن سياسة العصيان المدني الهندي بزعامة غاندي , أو ثورة التنباك بإيران بزعامة الميرزا الشيرازي , فذلك لم يكن تبعيداً للمستهلك , و لا تكفيراً للتقنية , بل وسيلة من وسائل المقاومة التي شهد المجال العربي الإسلامي حالات , و شواهد تماثلها ) .
فالأمام الصادق ( عليه السلام ) يقول : (( العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس )) .
و يقول ( عليه السلام ) أيضاً : (( على العاقل أن يكون عارفاً بزمانه مقبلاً على شأنه )) .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat