صفحة الكاتب : الشيخ عبد الحافظ البغدادي

مجلس حسيني – زينب في عيون التاريخ
الشيخ عبد الحافظ البغدادي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
تيهي جلالاً يا بقاع  الراوية ............... وتطاولي شرفا بمثوى  الزاكية
أدريت من حلت رباك فطهرت..............تلك الربوع من الكلاب العاوية
تلك العقيلة  تنــــــــــمى إلى ............شرف يطول على السماء السامية
وتحدثي عن ذي القصور ولهوها.........والصافنات  مضت وأين اللاهية
وسكوتهم عار الشنار بخطبة ..........     حتى هووا أعجاز نخل خاوية
 
         حين نحلل شخصية زينب بنت علي {ع} لا بد ان نجردها من بعض امتيازاتها التكوينية التي رتبها الله تعالى لها ... لأقرب لك المثال : كيف لي ان احلل شخصية جدها رسول الله {ص} وأبوها علي وأمها فاطمة , وأخويها الحسن والحسين عليهما السلام ... لا بد أن أميل أليها بحكم هذا الموقع ..
حين اكتب عن الحسين {ع} لا بد أن اجرده من الامتيازات الإلهية{ اعذرني سيدي أبا عبد الله من هذا التطاول}وكن غايتي أن أصل الحقيقة بتجرد وتحليل يظهر حقيقة سيد الشهداء وأخته الحوراء زينب عليهما السلام , بعيدا عن الهالة التكوينية التي رتبهم الله فيها ..
    لا بد أن أأخذ مولاتي زينب على إنها إنسانة مسلمة , تختلف عن نساء زمانها بنقاط عديدة , منها انهال قادت ثورة مناصفة مع أخيها الحسين {ع} , والمجتمع الثوري عادة يميل إلى الذكورة , والحسين مفجر الثورة قدم ما لم يقدمه أي ثائر في العالم لحد الآن .. وللتاريخ الآن في عصرنا نعيش تفاصيل ثورة الحسين {ع} بكل أبعادها , من خلال خطب الإمام وبياناته , ومن خلال الموقف والعطاء الذي حول واقعة كربلاء إلى مدرسة للأبطال والأجيال تغترف من نمير ثورة كربلاء ... مجموعة من الرجال وقفوا بصمود وبسالة قل نضيرها في عالم الفداء ,وعطاء الدم الذي هان وقل ثمنه في سبيل الله ونصرة دينه ...
وهذه الشخصيات التي يردد المجاهدون هذه الأيام كلماتهم لتشد من عزيمتهم .. منها هيهات منا الذلة .. وذاك يصيح افبلموت تهددني " وهذا يقول حب الحسين اجنني .. صورة تتكرر من كربلاء ..
ولكن ما نحسه ونمارسه في أدبياتنا ومجالسنا إننا حين نتحدث عن دور زينب ودورها التاريخي في تلك الواقعة , تظهر نتائج عن حقيقة هذه المراة العظيمة ... انها تغطي من الناحية الواقعية اليوم اكثر من كثير ممن حظروا كربلاء , بل ممن استشهدوا وبذلوا الدماء ... الخطباء وأرباب المقاتل يذكرون زينب على المنبر أكثر من العباس ومن الإمام زين العابدين وعلي الأكبر ( عليهم السلام )- هذه حقيقة-  فما هي مؤهلات زينب في عيون التاريخ ..؟ كيف وصلت إلى هذه المنزلة العظيمة ..؟ صار الرجال الثوار وأصحاب الموقف يتندرون بموقفها ويرددون كلامها .. ويتشرفون بحمل اسمها .. 
    زينب في التراث الإسلامي :..... مقدمة للموضوع :  تختلف تأثيرات حياة الترف والرفاه على نفس الطفل عن تأثيرات حياة التقشف والبساطة ، ففي الحالة الأولى ينشأ الطفل على الدّلع والدلال ، وينعدم لديه الشعور بقيمة الأشياء لتوفرها أمامه ، ولا تنمو في نفسه حساسية ولا موقف معروف في نفسه تجاه حالات الفقر والحرمان لأنه لم يتذوق مرارتها ، كما أن مشاكل الحياة مستقبلا ,  تصدمه بقوة لعدم استعداده النفسي لمواجهة الصعوبات والمشاكل .  .... أما في الحالة الثانية فان شخصية الطفل قد تكون أكثر اتزاناً وأقوى جلداً ، وأقل استهانة بالأشياء والأمور ،يقول تعالى { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } فيكون الطفل المحروم أقرب الى التفاعل النفسي مع الطبقات المحرومة والضعيفة في المجتمع . 
ولكن يجب أن نفرق بين البساطة والتقشف اللذين يفرضهما الفقر والحاجة ,بينها في حالة الاختيار والطواعية ،في أولى الحالتين يجوز أن تسبب حالة البساطة والتقشف تطلعات وأمنيات للعيش والرفاهية  ، كما قد يتسرب إلى نفس الطفل شيء من عدم الارتياح تجاه الموسرين المترفين كأرضية للحقد والحسد والانتقام . بينما حالة البساطة المختارة لنمط للحياة عند العائلة توجد المشاعر الايجابية دون سلبيات حيث يرى الطفل عائلته تمتلك القدرة على الرفاه لكنها لا ترغبه لمنطلقات أخلاقية ، كما لو كانت العائلة تؤثر  الفقراء والمحتاجين ، وتجود على الضعفاء والمعوزين . 
 السيدة زينب نشأت في أفضل جو عائلي من هذا الجانب فأسرتها لم تكن فقيرة معوزة ، فربما سمعت في فترة طفولتها عن ثروات جدتها خديجة ، كما ترى الموقع القيادي لجدها رسول الله ( ص) حيث ولدت ونشأت في فترة الانتصارات العسكرية والسياسية والتي كانت تعود على المسلمين بالغنائم الكثيرة ولجدها النبي ( ص) فيها حق التصرف المطلق إلى جانب استعداد المسلمين لبذل كل إمكانياتهم ووضعها تحت تصرّفه .. وتلاحظ مولاتنا  زينب امتلاك عائلتها كثير من الإمكانيات تتنازل عنها لصالح الآخرين ، ويخلد القرآن نموذجاً لهذه الحالة : «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمَاً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرَاً • وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِهِ مِسْكِيْنَاً وَيَتِيمَاً وَأَسِيرَاً • إِنَّمَا نُطعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُورَاً ». 
ــــــــــــــــــــــ من أبرز الأسباب التي تؤثر في نفسية الإنسان وتوجيهها نحو الألفة والوداعة أو العداء والإساءة ، هي الأجواء العائلية التي يعيشها الإنسان في طفولته ، فإذا عاش الطفل جواً عائلياً تسوده المحبة والانسجام فانه يتربى ضمن ذلك النموذج ، أما إذا ما نشأ في أجواء المشاحنة والبغضاء بين أبيه وأمه ، أو بينه وبين والديه ، أو فيما بين أخوته ، فان ذلك يزرع في نفسه بذور الحقد والقسوة ، ويدفعه لممارسة العنف والإيذاء دفاعاً عن ذاته وحقوقه .  يقول الأستاذ فلسفي : « إن سلوك جميع أفراد البشر وأساليب معاشرتهم مع الناس إنما هو خلاصة الأساليب التربوية التي مرت عليهم في دور الطفولة ، من قبل الآباء والأمهات في الأسرة أو من قبل المعلمين في المدرسة . فكل خير أو شر لقّنوه في الطفولة يظهر عليهم عند الكبر هذه هي حصيلة الجذورالتربوبية التي نثرت في أدمغتهم أيام الطفولة »..
 لذلك يؤكد الإسلام على أن يغمر الأطفال بالعطف والحنان وأن يتعامل معهم الوالدان بالمحبة والشفقة ، وأن يجنبوا أبناءهم حصول المشاكل أمامهم .  وقد عاشت السيدة زينب وترعرعت في جو يغمره العطف والحنان وتسوده المحبة والانسجام ، فعمدا البيت علي وفاطمة كانت علاقتهما قمة في الصفاء والحب لا تدانيها أية علاقة زوجية في تاريخ البشر .  يقول الإمام علي (ع) عن حياته مع الزهراء (ع) : « فوالله ما أغضبتها ولا أكرهتها على أمر حتى قبضها الله تعالى , ولا أغضبتني ولا عصت لي أمراً ، لقد كنت أنظر أليها فتنكشف عني الهموم والأحزان »  وفي آخر ساعة من حياتها تخاطب علياً (عليهما السلام) قائلة :  « يابن عم ! ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتني » ؟ ! .   فيجبيها الإمام علي : « معاذ الله أنت أعلم بالله وأبر وأتقى وأكرم وأشد خوفاً من الله من أن اُوبّخك بمخالفتي » .. في هذه الأجواء النفسية عاشت زينب ونهلت من نمير الأبوين .. 
* من الناحية الجهادية والأجواء الرسالية *   نشأت العقيلة ضمن عائلة نذرت نفسها للجهاد في سبيل الله ، وتربت في أجواء رسالية ما يدور فيها غير الاهتمامات الفكرية للإسلام ,فجدها قاد بنفسه ( 28 غزوة ومعركة ) وأبوها رافق الرسول ( ص ) في جميع تلك المعارك عدا واحدة  هي غزوة تبوك لما تخلف بأمر من رسول الله (ص) .  كما قاد الإمام بنفسه العديد من السرّايا والمعارك المحدودة . 
 إن ذلك يعني أن عائلتها كانوا يعيشون ظروف الجهاد في أغلب فترات حياتهم ، فحينما يغادرهم الجدّ أو الأب إلى ساحة المعركة فستكون نفوسهم منشدّة ومرتبطة بما يدور على ساحات القتال . ولا يقتصر الأمر على تفاعل الأسرة مع قضايا الحرب والجهاد بل انها كانت معنية بكل أوضاع المجتمع ، فعائلة زينب هي في موقع القيادة والقلب .  وهكذا عاشت السيدة زينب (ع) فترة طفولتها في بيت فيه هموم مجتمعها ، وفي أجواء مفعمة بالمسؤولية والتضحية . 
 بعد خمس سنوات عاشتها زينب في كنف جدها الحنون ، في ظل أجواء المحبّة والعطف ، حيث كان الرسول {ص} يظلل بيت زينب برعايته ، ويغمرهم بعنايته وحبه ,فلا يمر يوم لا يلتقي فيه بأهل بيته ، وإذا سافر كان بيتهم آخر محطة ينطلق منها لسفره ، وإذا ما عاد كان بيتهم أول منزل يدخله .  كان إذا سافر كان آخر الناس عهداً به فاطمة ، وإذا قدم من سفر كان أول الناس به عهداً فاطمة » ..يقول الشيخ مغنية : كان النبي لا يصبر عن بيته هذا ، ولا يشغله شاغل ، خاصة بعد ان نبتت فيه رياحينه ، فإذا دخله قبل هذا ، وشمّ ذاك وابتسم لتلك وكثيرا ما يحمل الحسن على فخذه والحسين على الآخر وتأخذ فاطمة حصتها وتحمل زينب فيهتز أركان البيت طرباً لجوّ الصفوة المختارة ..
شاء الله تعالى أن يكون حظ السيدة زينب من تلك الحياة الهانئة السعيدة محدوداً بالسنوات الخمس الأولى  ، فما إن دخلت السنة الحادية عشر للهجرة ،لبّي جدها نداء ربه ويفارق الحياة ويلتحق بالرفيق الأعلى,
زينب الصغيرة في السن وجدت نفسها في مواجهة هذه الرزية الكبرى ، ورأت كيف انقلبت الأجواء في بيتها رأساً على عقب من بهجة وغبطة وسرور إلى كآبة وحزن وبكاء , لقد رأت زينب أمها الزهراء وهي تنكّب على أبيها رسول الله عند مصارعته لسكرات الموت نادبة .  « واويلتاه لموت خاتم الأنبياء ، وامصيبتاه لممات خير الأتقياء ، ولانقطاع سيد الأصفياء ، واحسرتاه لانقطاع الوحي من السماء"  ورأت زينب أخويها الحسنين حينما القيا بنفسيهما على جدهما  يودعانه ويذرفان الدموع ، فجعل يقبلهما وهما يقبلانه وأراد عليّ أن ينحيهما عنه ، فقال (ص) : « دعهما يتمتعان مني وأتمتع منهما فستصيبهما بعدي أثرة » .  وتوالت مشاهد الألم الحسرة أمام ناظري زينب فهذه أمها الزهراء تنكب على جثمان أبيها رسول الله ( ص ) بعد وفاته تبكي أمر البكاء ..    وهذا أبوها علي بن أبي طالب ( ع ) وهو الجبل الأشم في صموده وبطولته لكنه تذوب نفسه أمام هذه المصيبة ، فيقول : « إن الصبر لجميل إلا عنك ، وإن الجزع لقبيح إلاّ عليك ..
عن علي (ع) قال : غسلت النبي{ص} في قميصه فكانت فاطمة تقول : أرني القميص . فإذا شمته غشي عليها ، فلما رأيت ذلك غيبته ..  ورأت الزهراء ( ع ) يوماً أنس بن مالك ، فقالت : يا أنس كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على النبي التراب ؟   ولك أن تتصور حالة السيدة زينب وهي طفلة ذات خمس سنوات من العمر لابد أنها كانت ملتصقة بأمها الزهراء ( ع ) وتعايش معها هذه الصدمة العاطفية الكبيرة.   حينما تحل بالإنسان مصيبة أو كارثة فإن من أهم العوامل التي تساعده على التحمل والصمود في مواجهتها هو توفر التعاطف والمؤاساة له من قبل ذويه وأصحابه وجيرانه وأبناء مجتمعه . 
 وعائلة زينب التي نكبت بفقد رسول الله (ص) بدل أن يغمرها المسلمون بتعاطفهم ومواساتهم بدل ذلك ألمت بهم محنة سياسية رهيبة ، ضاعفت عليهم المصاب وزادت آلامهم ومأساتهم . تسجل كتب التاريخ والحديث الكثير من تفاصيل تلك المحنة مع اختلاف المؤرخين والمحدثين والكتاب في تفسير وقائعها ، ولسنا الآن بصدد مناقشة الآراء ... وجاءت المصيبة الأخرى .. وفاة أمها فاطمة .
وفي ظلام الليل قام علي (ع) بتغسيل فاطمة وأدرجها في أكفانها بمنظر من زينب وإخوتها  « فغسّلها الإمام  ولم يحضرها غير الحسن والحسين وزينب وفضة جاريتها وأسماء بنت عميس » حانت ساعة الوداع الأخيرة ، فلابد أن يعطي الفرصة لأبنائه ليلقوا آخر نظرة على محيا أمهم الزهراء . يقول السيد القزويني :  رأى الإمام أن يتامى فاطمة ينظرون إلى أمهم الحنونة ، وهي تلف في أثواب الكفن ، إنها لحظة لا يستطيع القلم وصفها ، لحظة يهيج فيها الشوق والحزن ، إنه الوداع الأخير ! ! . هاجت عواطف الأب العطوف على أطفاله المنكسرة قلوبهم ، فلم يعقد الخيوط على الكفن ، بل نادى بصوت مختنق بالبكاء : بني حسن  حسين  زينب هلموا وتزودوا من أمكم ، فهذا الفراق واللقاء في الجنة ! ! . 
 كان الأطفال ينتظرون هذه الفرصة كي يودعوا أمهم ، في قلوبهم لوعة يريدون  ان يعبروا عن آلامهم  ودموعهم المحبوسة ، أقبلوا مسرعين صاروا يتساقطون على الجثمان الطاهر تساقط الفراش على السراج . .يبكون بأصوات خافتة ، ويمطرون كفن أمهم الحانية بالدموع , ولكن الدموع لا تكفي والبكاء لم يعد مجزيا ,, علا الصراخ من ابنها الكبير الحسن , أماه أنا ولدك الحسن .. كلميني , لما سمع الحسين كلام أخيه , صاح أماه أنا حبيبك الحسين كلميني .. أما زينب ..يقول  صاحب ( ناسخ التواريخ ) : إن زينب أقبلت عند وفاة أمها تجر رداءها لأنها كانت تشمه .. وتنادي : على جدها يا أبتاه يا رسول الله الآن عرفنا الحرمان من النظر أليك . 
سيدة العائلة :...بعد رحيل الزهراء إلى عالم الخلود ، أصبحت مولاتنا زينب على صغر سنها سيدة المنزل وربة البيت ، ترعى شؤون أبيها وأخوتها تماماً كما كانت أمها الزهراء ملأت فراغ أمها فاطمة كما ملأت أمها مكان جدتها  خديجة بنت خويلد بالنسبة لرسول الله (ص) حتى سميت أم أبيها . قدّر لمولاتنا  زينب أن تفقد جدها (ص) وأمها وهي في الخامسة من العمر ،فحزنت وهي صغيرة عليهما حزناً شديداً ، وواجهت حياة البيت ورعته وأدارت شؤونه بعقلية واعية ... 
 ويقول السيد بحر العلوم : وتحملت عقيلة بني هاشم مسؤولية بيت علي {ع}وعاشت كل المشاكل والأحداث ، ويكاد هذا البيت ينفجر من الأحداث ، النوائب تصليه , وقلب زينب أخذ يتسع لكل هذه المصائب , وتحملها وأضحى قلبها اكبر وأوسع من كل مصائب الدنيا .. فوقفت منذ طفولتها بوجه مصائب الدهر , ورفعت رأس جدها وأبيها وأمها وأخويها ... فهي بحق أم المصائب ...
تقول الكاتبة بنت الشاطئ : لا يمكننا أن ننسى أحزان زينب الصبية التي روّع عامها الخامس بمأساة الموت مرتين ، في أحب الناس لديها ، إذا استطعنا أن نغض لحظة عن التحديق في تلك الظروف التي حامت حولها ، والأحزان التي أرهقت صباها ، رأينا جانباً آخر من الصورة مشرقاً ، حيث تبدو « زينب » في بيت أبيها ذات مكانة أكبر من سنها : أنضجتها الأحداث ، وهيأتها لأن تشغل مكان الراحلة الكريمة ، فتكون لأبيها و للحسن والحسين ، أُماً لا تعوزها عاطفة الأمومة فتكون أما لأبيها وأخويها ..
وتجاوزت زينب مرحلة الصبا ، واكتمل نضجها الجسدي والنفسي ، ومع شديد رغبتها في البقاء قرب أبيها ، وفي توفير الرعاية والعناية لأخويها الحسنين ، الا أنه كان لابد لها من الزواج ، لما يعنيه الزواج من تكامل في الشخصية ، واستجابة للسنة الآلهية في بني البشر والمخلوقات ,  وجاء الخاطبون يتوافدون على بيت علي{ع} كل منهم يتمنى أن يحظى بشرف الاقتران بالعقيلة زينب ، رغبة في الاتصال بالنسب النبوي الشريف ، لكن أباهاً يرد كل خاطب لأنه (ع ) اختار عبد الله بن جعفر ليكون زوجاً لابنته .
طبيعة الحكم الأموي    :  في سنة 41 هـ  ) وبعد صلح الإمام الحسن {ع} دخلت الأمة في نفق الحكم الأموي ، حيث لم تعد مبادئ الإسلام وأنظمته هي المرجع الفكري ، إنما إرادة الحاكم يعمل كيف يشاء وما يشاء ، لا تزاحمه أي إرادة أخرى ولا يجرأ أحد على معارضته فقد بدأ في تنفيذ مخطط لتصفية كل رجالات المسلمين الأحرار الشرفاء وكان من ضحايا ذلك المخطط .  الإمام الحسن بن علي حيث دسّ اليه السم ، وحجر بن عدي الصحابي الجليل ،  ومحرز بن شهاب التميمي ، والصحابي العالم رشيد الهجري والصحابي العظيم , وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وغيرهم من شخصيات الأمة المخلصين . 
 وعمل الحكم الأموي على تعبئة أجواء الرأي العام ضد أهل البيت ( ع ) ، وسن سب الإمام على المنابر وفي خطب الجمعة ، وفرض ذلك على جميع عماله وولاته ,بقي ذلك سنّة إلى عهد عمر بن عبد العزيز حيث أمر بإلغائه ولما مات عادت المسبة مرة ثانية الى يومنا هذا ...
 وازدادت الضغوط القمعية على أهل البيت وشيعتهم من قبل الحكم الأموي ، فقد رفع معاوية مذكرة الى جميع عماله وولاته جاء فيها :  أنظروا الى من قامت عليه البينة انه يحب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان واسقطوا عطاءه ورزقه .  ثم شفع ذلك بنسخة أخرى جاء فيها : ومن أتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدموا داره .   وتحدث الإمام الباقر عما جرى على أهل البيت وشيعتهم من الاضطهاد والأذى في زمن معاوية وبعده ، فقال : « وقتلت شيعتنا بكل بلدة وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة ، وكان من يذكر بحبنا والانقطاع ألينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره » . 
من جانب آخر ظهر الفساد والمخالفة للدين ، كتعطيل الحدود وممارسة الخلاعة والمجون ، والجرأة الصريحة على مخالفة الأحكام الشرعية في العبادات كالأذان في صلاة العيد والخطبة قبل  صلاة العيد ، والتطيب في الاحرام واستعمال أواني الذهب والفضة ، ولبس الحرير . ساءت أوضاع الناس الاقتصادية لأن معاوية كان يستأثر هو ومن حوله بأموال المسلمين ويضعون عليهم مختلف الضرائب ، وكان معاوية يرى لنفسه الحق في التصرف كما يشاء في ثروات الأمة بينما يتضور الفقراء والمستضعفون جوعاً وحرماناً ، وينقل عنه قوله .  "الأرض لله وأنا خليفة الله فما أخذت من مال الله فهو لي وما تركته كان جائزاً لي "   وذكر ابن حجر : إن معاوية خطب يوم جمعة فقال : إنما المال مالنا ، والفيء فيئنا فمن شئنا أعطيناه ، ومن شئنا منعناه . وسلط معاوية على الأمة ولاة جفاة قساة نشروا الرعب والبطش ، وحكموا الناس بالإرهاب والقمع مثل سمرة بن جندب والذي استعمله زياد على البصرة فأسرف في قتل الأبرياء وإزهاق الأنفس بغير حق ، هذا سمرة بن  جندب ؟ استخلفه زياد على البصرة وأتى الكوفة وقد قتل ثمانية آلاف من الناس .  فقال له زياد : هل تخاف أن تكون قد قتلت أحداً بريئاً ؟ .   فأجابه سمرة : لو قتلت اليهم مثلهم ما خشيت  .  ومن ولاة معاوية الظالمين : بسر بن أرطاة ، والذي وجهه الى اليمن ففعل فيها الأفاعيل المنكرة التي لم يشهد التاريخ نظيراً لها في فظاعتها وقسوتها ، وذكر الرواة أن بسر بن أرطاة قتل ثلاثين ألفاً من المسلمين عدا من أحرقهم بالنار .. ومن أخطر ولاة معاوية وأكثرهم جوراً وظلماً زياد بن أبيه ,ولاه معاوية البصرة والكوفة وفارس والسند والهند .  هكذا عاشت الأمة الإسلامية في ظل الحكم الأموي ، وبمراجعة بسيطة لكتب التاريخ يرى الأنسان صور الظلم الفظيعة البشعة التي سجلها الأمويون في تاريخ حكمهم الأسود . 
يزيد بن معاوية حاكماً   :  واستكمالاً لمشروع الردة الى الجاهلية ختم معاوية حياته باستخلاف ولده يزيد على الأمة ، ليبدأ بذلك عهد الملك العضوض الوراثي العائلي ، خلافاً لما أقره الإسلام وتعود عليه المسلمون .   ولم تكن لدى يزيد أدنى مؤهلات الحكم والخلافة بكل المقاييس ..
الحسين يرفض البيعة : كتب يزيد إلى  الوالي الأموي بالمدينة الوليد بن عتبة يأمره  أخذ البيعة قسراً من كبار الصحابة وفي مقدمتهم الإمام الحسين ( ع ) . وأعلن الإمام الحسين موقفه الرافض لبيعة يزيد قائلاً : « أيها الأمير إنا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومحل الرحمة ، بنا فتح الله ، وبنا ختم ، ويزيد رجل فاسق ، شارب خمر ، قاتل النفس المحرمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله ، ولكن نصبح وتصبحون ، وننظر وتنظرون أينا أحقّ بالخلافة والبيعة » ..
وخرج الحسين {ع} من مدينة جده رسول الله {ص} ليختار ما اختاره له الله , وحمل معه عددا من آل  بيته ونساء وأطفال , كان على رأسهم العقيلة زينب التي انيطت لها مسؤولية حفظ العيال وحفظ الثورة ودفعها نحو آفاق أوسع واكبر , وفعلا كانت هي والإمام زين العابدين عليهما السلام , الجزء المكمل للثورة  , الجزء الذي لولاه لذابت الثورة في مستنقع الإعلام الأموي , ذلك الإعلام الذي تمكن أن يُحرف كثيرا من القيم والأفكار الإسلامية , ولكن ثورة الحسين التصحيحية للانحراف , حافظ عليها زينب العقيلة وعلي بن الحسين , فالحسين أسس الأسس بالدماء , وزينب شيدت الثورة بالكلام والدموع ...
 وإذا كانت كربلاء في الجغرافيا مجرد بقعة محدودة من الأرض . ودخلت في التاريخ باعتبارها مسرحاً لأهم حدث ديني سياسي في الأمة الإسلامية بعد رسالة  رسول الله ( ص) . وأنها أصبحت قبلة المؤمنين يؤمونها بقلوبهم وعواطفهم وأبدانهم .  وأضحت كربلاء وتراً حزيناً تعزف عليه قرائح الشعراء والأدباء وملحمة بطولية يستلهم منها الثوار والمصلحون .  فأنها عند أهل البيت ( ع ) أعمق من ذلك وأكبر . 
 فليست هناك قضية أو حادثة نالت الاهتمام والتركيز لدى أهل البيت ما نالته قضية كربلاء . ...قبل وقوع الحادثة كان رسول الله ( ص ) يتحدث عنها ويشرح تفاصيلها ليبين أهميتها وأبعادها . . وكذلك الإمام علي والسيدة الزهراء والإمام الحسن . كلهم تحدثوا عنها . وبعد الحادثة كان ألائمة ( ع) يجددون ذكراها ويحيون وقائعها ويأمرون الناس بتخليدها وتعظيمها . روي أن النبي ( ص) أعطى أم سلمه تراباً من تربة الحسين حمله أليه جبرائيل ، قال لها: " إذا صار هذا التراب دماً فقد قتل الحسين " فحفظت أم سلمه ذلك التراب عندها ، فلما قتل الحسين صار التراب دماً ، فأعلمت الناس بقتله أيضاً ..في ( تذكرة الخواص ص 260 ) أنه لما قيل للحسين هذه أرض كربلاء أخذ ترابها فشمه : وقال : والله هي الأرض التي أخبر بها جبرائيل رسول الله أنني أقتل فيها . ...
وزحفت الجيوش الأموية لتحاصر الحسين وأصحابه في كربلاء ، اختلف المؤرخون في عدد أفراد القوات الزاحفة نحو كربلاء ، ولعل القول الأقرب هو ثلاثون ألف مقاتل ، بينما كان عدد أفراد معسكر الحسين لا يزيد على ثمانين رجلاً .  بينما فرضت السلطات الحصار على الكوفة وحالة الطوارئ في داخلها حتى لا يتسلل منها أحد للالتحاق بالإمام الحسين . وقتل الحسين وأصحابه عليهم السلام جميعا في يوم واحد ... هنا بدأت الصفحة الثانية .. هنا ظهرت إمكانية ومعدن زينب عليها السلام ..
أول عمل خارج التنسيق بينها وبين الحسين {ع} إنها وقفت أمام الجلاوزة حين وصلوا المخيم , لأخذ الإمام للقتل ، أصبحت حياة الإمام في خطر حقيقي ، وهنا تدخلت السيدة زينب لتمارس دورها في حماية الإمام وإنقاذ حياته ، تركت الدنيا وما فيها ,اعتنقته لتمنع الجلاوزة من أخذه ، ثم التفتت إلى ابن سعد  قائلة : حسبك يا بن سعد من دمائنا من دمائنا ، وهل أبقيت أحداً غير هذا ؟ فإن أردت قتله فاقتلني معه . 
  وفي الكوفة , أحبطت محاولة ابن زياد حيث اضطر للتراجع عن قرار قتل الإمام ، وقال متعجباً : دعوه لها ، يا للرحم ودت إنها تقتل معه .. هذا دور زينبي حمت الإمامة من الاجتثاث , وكانت فدائية بمعنى الكلمة , وصلت الذروة حين تطلب الأمر الشهادة فقدمت نفسها من اجل أمام زمانها .. الا ترى في موقفها البطولي تشابه كبير بموقف ابيها يوم الخندق ..؟ ويوم الهجرة حين نام في فراش ابن عمه .؟
ــــــــــــــ    وحملت زينب من تلك اللحظة مسؤولية التبليغ الثوري :..الإعلام للثورة لم تكن مسؤوليتها هينة , إنها مقابل دولة اعتمدت أسوء حالات الإعلام والتزوير والخداع ..فهي في جانب أبعدت جميع الكوادر الذين تمسكوا بإسلامهم الحقيقي , قتلوهم ونفوهم وسجنوهم وهدموا بيوتهم .. 
والثانية : جاءوا بالدجالين واكلي السحت الحرام ليكتبوا كل ما يتوافق مع النهج الأموي ويبينوه انه هو الاسلام .. ساندهم الشعراء واهل الحديث ..بهذه السياسة الأموية في تضليل الناس وخداعهم كان  لابد له من التفكير في مستقبل الثورة المقدسة  ، وكيفية حمايتها وصيانتها من تأثير الإعلام الأموي الحاكم . . .   فالأمويون لن يكتفوا بقتل الإمام الحسين ، وهم يعلمون بمكانته لدى الأمة ، بل سيلجأون لتشويه ثورته إسقاط شخصيته بمختلف وسائلهم وأساليبهم الماكرة كما صنعوا مع أبيه الإمام علي من قبل .  فكيف يفشل الإمام الحسين مخططهم الإعلامي المضاد ؟ كيف يجهض محاولاته في تشويه صورة الثائرين ؟ . 
  وكيف تصل أهداف ثورته ومنطلقاتها إلى أسماع الجمهور المسلم ؟ . كانت إجابة الإمام الحسين على هذه التساؤلات إجابة حكيمة قوية هي استعانته بأخته السيدة زينب لتقوم بذلك الدور العظيم . . 
 كان يعرف إمكانياتها التربوية وموقفها وشجاعتها , يعرف كل التفاصيل عنها فما وجد أفضل منها أن تحمل ثورة كربلاء في ضميرها ولسانها ...كان الإمام عارفا تماما بأهمية الإعلام . فتصدى  بنفسه للقيام بالمهمة الإعلامية يوم كان في المدينة المنورة وحين انتقل إلى مكة المكرمة والتقى بجموع الحجيج ، وأثناء سيره إلى العراق ، وفي أرض كربلاء وحتى قبيل شهادته بلحظات كان يخاطب الجيش الأموي محرضاً وموجهاً . .   لكن حاجة الثورة إلى الإعلام بعد شهادته ستكون أشد وأكبر ، لأن الأمويين ستأخذهم نشوة الانتصار الظاهري ، وسيجعلون من سحق المعسكر الحسيني مثلاً وعبرة لإرهاب من يفكر في معارضتهم والوقوف أمام بغيهم وفسادهم .  فالإعلام بعد الشهادة أكثر أهمية منه قبلها . .   ومن غير السيدة زينب تُسند أليه هذه المهمة الخطيرة ؟ . من سواها يجيد القيام بهذا الدور العظيم ؟ . 
      وحملت أسيرة من كربلاء بعد ظهر اليوم الحادي عشر من المحرم مثقلة بما لا تتحمله الجبال الرواسي من الهموم والأحزان ، فلأول مرة في حياتها تسافر دون أن يحيط بها رجالات أسرتها وحماة خدرها ، وقد رزئت بأفجع مصيبة يمكن أن تحل بإنسان ، فقدت أكثر من سبعة عشر بطلاً من أهلها ما على وجه الأرض لهم شبيه ، إضافة إلى السبعين من أنصارهم والمدافعين عنهم ، شاهدت مصارعهم على بوغاء كربلاء بتلك الصورة الفظيعة . كان اليوم الذي سبق سفرها إلى الكوفة من أصعب واشد الساعات التي مرت عليها في حياتها ، حيث أحرق الظالمون خيامها ، وهجموا عليها مع باقي نساء ويتامى عشيرتها ، وسلبوا كل ما لديهن من الحلي والحلل . .دخلت الكوفة صباح اليوم الثاني عشر من المحرم تحيطها الهموم والآلام ، وتثقل كاهلها المصائب والأحزان . . . 
  من جهة أخرى فقد خطط حاكم الكوفة عبيد الله بن زياد للاستفادة من وصول سبايا الحسين في إظهار قوة السلطة وتصميمها على سحق أي محاولة تمرد أو معارضة ، وأن يجعل من قدوم السبايا تظاهرة لإدانة تحرك الإمام الحسين وثورته ، وللاحتفاء بانتصاره الزائف على ثورة الحق والعدل . . في غمرة هذه الأجواء دخلت السيدة زينب الكوفة مع السبايا على جمال غير مهيأة لإراحة راكبيها ، وفي حال مأساوي فظيع . دخلت مدينة كان أبوها حاكما فيها قبل 20 سنة .فلابد وأن تستعيد في نفسها صور تلك الأيام ، وأن تثور في قلبها ومخيلتها الذكريات . . ففي تلك المحلة كانت تقيم ، وذاك محراب أبيها علي ومنبره في مسجد الكوفة . . وهذه الأزقة التي كان يسلكها أبوها علي . . وهذا باب دارها الذي كان يقصده السائلون والمحتاجون,  وتتوالى الصور والذكريات في مخيلة السيدة زينب ، ولعلها تتمنى وترغب في أن تسرح بفكرها وتسترسل بمشاعرها مع تلك الصور والذكريات العزيزة ، لكن سياط الواقع الأليم تنتزعها من تلك الذكريات انتزاعاً . . 
  عن حذلم بن كثير..  قال : قدمت الكوفة سنة 61 هـ عند مجيء علي بن الحسين من كربلاء الى الكوفة ومعه النسوة ، وقد أحاط بهم الجنود ، وقد خرج الناس للنظر أليهم ، وكانوا على جمال بغير وطاء ، فجعلن نساء أهل الكوفة يبكين ويندبن . رأيت علي بن الحسين قد أنهكته العلة ، وفي عنقه الجامعة ، ويده مغلولة إلى عنقه ، وهو يقول بصوت ضعيف : تبكون وتنوحون من أجلنا فمن قتلنا ؟ ! .  قال : ورأيت زينب بنت علي ، ولم أر خفرةً  أنطق منها كأنها تفرغ عن لسان أبيها أمير المؤمنين ، وقد أومأت إلى الناس أن أسكتوا ، فارتدت الأنفاس ، وسكنت الأصوات ، فقالت :   أما بعد : يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر .   أتبكون ؟ فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنة . .   إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا . .   تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم . .   ألا وهل فيكم الا الصلف والنطف ، والكذب والشنف ، وملق الأماء وغمز الأعداء .   أو كمرعى على دمنة ، أو كقصة على ملحودة .  ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون .   أتبكون وتنتحبون ؟ ! .   أي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً .   فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً .  وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ، ومعدن الرسالة ، وسيد شباب أهل الجنة ، وملاذ خيرتكم ، ومفزع نازلتكم ، ومنار حجتكم ، ألا ساء ما تزرون ! .   وبعداً لكم وسحقاً ، فلقد خاب السعي ، وتبت الأيدي ، وخسرت الصفقة ، وبؤتم بغضب من الله ورسوله وضربت عليكم الذلة والمسكنة . . 
  ويلكم يا أهل الكوفة ! .   أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم ؟ .   وأي كريمة له أبرزتم ؟ .   وأي دم له سفكتم ؟ .   وأي حرمة له انتهكتم ؟ . لقد جئتم بها خرقاء ، شوقاء ، كطلاع الأرض ، وملء السماء ، أفعجبتم أن مطرت السماء دماً ؟ ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون . .  فلا يستخفنكم المهل ، فإنه لا يحفزه البدار ، ولا يخاف فوت الثأر ، وإن ربكم لبالمرصاد . .  قال الراوي : فوالله لقد رأيت الناس حيارى يبكون ، قد وضعوا أيديهم في أفواههم ، ورأيت شيخاً واقفاً الى جنبي يبكي حتى اخضلت لحيته بالدموع ، ويده مرفوعة الى السماء وهو يقول : بأبي أنتم وأمي كهولكم خير الكهول ، وشبابكم خير الشباب ، ونساؤكم خير النساء ، ونسلكم خير النسل ، لا يبور ولا يخزي أبداً . . 
هذا اول بيان للثورة بعد شهادة الحسين ..خطاب السيدة زينب في الكوفة أول تصريح وتعليق على واقعة كربلاء بعد حدوثها يصدر من الثوار في كربلاء ، وتكمن أهمية الخطاب في أنه موجه للمجتمع المسؤول عن ما حدث بصورة مباشرة وهو المجتمع الكوفي . . وهو الجولة الأولى في معارك السيدة زينب ضد الإجرام والظلم الأموي . .
وأدخلت السبايا على ابن زياد ,كن في حالة يرثى لها من الإرهاق والعناء والألم ، وكانت في الطليعة زينب ، وقد تنكرت وانحازت الى ناحية من المجلس تحف بها النساء المسبيات .   وابن زياد يعلم مكانة السيدة زينب في البيت العلوي ، لذلك أراد ان يصوب أليها بسهام الشماتة ، وأن يتلذذ بإذلالها في مجلسه وأمام الملأ .   فالتفت نحوها قائلاً : من هذه الجالسة ؟ .   فلم تكلمه استهانة به ، واحتقاراً لشأنه .   وأعاد السؤال مرة ثانية وثالثة دون أن يظفر منها بجواب ، الا أن احدى السيدات المسبيات انبرت اليه مجيبة .   هذه زينب ابنة فاطمة بنت رسول الله . 
  وانفعل ابن زياد مع ترفع السيدة زينب عن اجابته واندفع يخاطبها غاضباً متشمتاً : الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم ! ! .   ومع أن السيدة زينب كانت تحبذ التسامي والتعالي على حقارة ابن زياد ، وأن لا تدخل معه في حديث استهانة به . . الا أن الموقف كان يتطلب منها ممارسة دورها الرسالي في الدفاع عن ثورة أخيها الحسين ، وتمزيق هالة السلطة والقوة التي أحاط بها ابن زياد نفسه ، لذلك بادرت الى الرد عليه قائلة : 
  « الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد ، وطهرنا من الرجس تطهيراً إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر ، وهو غيرنا يا ابن مرجانة » .    وما كان ابن زياد يتوقع هذا الرد الشجاع القوي من امرأة تعيش أفظع مأساة ، وأسوأ حال ، فأراد أن يلفتها الى مأساتها ومصيبتها حتى تفقد جرأتها وتنهار معنوياتها ، فقال لها متشفياً :   فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك ؟ .   لكن العقيلة أفشلت محاولته وانطلقت تجيبه بكل بسالة وصمود :   « ما رأيت الا جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم ، فتحاج وتخاصم ، فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمك يا ابن مرجانه ! ! » . 
 موقف أيماني بطولي عظيم يندر أن يحتفظ تاريخ البشرية بمثيل له : تجاوزت السيدة زينب بإرادتها وبصيرتها النافذة كل ما أحاط بها من الآم المأساة ، ومظاهر قوة العدو الظالم ، ولم تبال بجبروته وعساكره ، بل جابهته بالتحدي وجهاً لوجه أمام أعوانه وجمهوره ، معلنة أنها لا يساورها أي شعور بالهزيمة والهوان ، فما حدث لأسرتها شيء جميل بمنطق الرسالة التي يحملونها ، والمسألة لا تعدو أن تكون استجابة لأمر الله ( تعالى ) الذي فرض الجهاد ضد الظلم والعدوان ، وهي واثقة أن المعركة بدأت ولم تنته ، ونهايتها الحاسمة يوم القيامة بين يدي الله وهناك سيكون النصر الحقيقي حليفاً لها ولأسرتها الكريمة . وتختم كلامها بالهلاك للطاغية المتجبر أمامه « ثكلتك أمك يا بن مرجانه » كان ردها  قاسياً أسقط هيبته الزائفة في أعين الحاضرين جميعاً ، بل حطم كبرياءه وغروره ، واستبد به الغضب متوعداً السيدة زينب بالعقوبة والتنكيل . . فتدارك الموقف عمرو بن حريث ليخفف من غلواء غضب ابن زياد 
 قائلاً :  أصلح الله الأمير إنما هي امرأة ! وهل تؤاخذ المرأة بشيء من منطقها ؟  فتراجع ابن زياد عن تهديده بضربها الجسدي مستبدلاً به العقاب النفسي حيث توجه إليها ليلذع قلبها بعبارات الشماتة والتشفي قائلاً :   « لقد شفى الله قلبي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك ، فأثار بهذا الكلام شجون السيدة زينب ، وأشعل الحزن والألم في قلبها ، ولعها أرادت حينئذٍ استخدام سلاح العاطفة وإعلان المظلومية فأجابته بلوعة وأسى .   « لعمري لقد قتلت كهلي ، وقطعت فرعي ، واجتثثت أصلي ، فإن يشفك هذا فقد أشتفيت » . 
 ولها موقف يوم رات يزيد يضرب راس الامام وثغره ..وضعت يدها على راسها ونادت : واحسيناه , يا حبيب رسول الله , يا ابن مكة ومنى يا ابن زمزم والصفا .. يا ريت انجتل واروح وياك .. ولا شوفتي مخضوب بدماك , ولا اشوف الرجس يضرب ثناياك .. يا ريت اليتامه ما عدمناك .. وشافه هضمنا ما جرى على احد وشافه , شفى بينا العدو جرحه وشافه , على راس السبط تلعب وشافه , عصى يزيد ويسب حامي الحمية ....   الحمد لله رب العالمين .. 4-5-2015 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ عبد الحافظ البغدادي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/05/06



كتابة تعليق لموضوع : مجلس حسيني – زينب في عيون التاريخ
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net