صفحة الكاتب : صالح الطائي

عادت ذكريات التقشف تتهددنا
صالح الطائي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

كل من هم بأعمارنا يتذكرون أيام التقشف المرة المتكررة التي عاشوها مجبرين بسبب طيش ومغامرات الحكام الجهلة، ويتمنون ألا يسمعوا هذه التسمية أو يعيشوا أجواءها من جديد لأنها أنهكتهم وأتعبتهم وآذتهم، ولكننا للأسف بعد عقد من عمر التغيير بدأنا نشم في الأجواء رائحة التقشف تزكم أنوفنا؛ وهي تلوح بالأفق أو يُلوَح بها هذا المسؤول أو ذاك، فعادت ذكرى العذاب إلى نفوسنا، وبدأ الخوف يساورنا، خوفا على مستقبل أبنائنا وعائلاتنا، لأننا على ثقة كبيرة أن الطبقة العراقية الفقيرة الغفيرة؛ وهي الطبقة التي ولدت بعد التغيير، بعدما نزلت الطبقة المتوسطة إلى مستواها، وتحول المجتمع إلى طبقتين غنية وفقيرة، هذه الطبقة وحدها هي التي ستحمل أثقال التقشف لا يشاركها بحملها الأغنياء المتخمون، ولا النواب والحكام المرفهون البطرون.!

إن شبح التقشف الذي بات يتهددنا أكبر من أن نتحمله بعد كل المعاناة التي مررنا بها، بعد القهر، بعد القتل والتهجير، بعد أجواء الكراهية التي فرقتنا، ونحن حتى لو كنا على ثقة تامة أن انخفاض أسعار البترول دوليا، وتحمل الخزينة المركزية أعباء الجهد الحربي الكبير في حربها ضد الإرهابيين والدواعش المجرمين الذين يتهددون مستقبل العراق، ومحاولة إعادة إعمار الخراب الذي تركه النظام السابق؛ هي التي سببت العجز في الموازنة وألجأت الحكومة للتفكير بتطبيق التقشف، وحتى لو كنا أحرص من غيرنا على سلامة ووحدة بلدنا، لا يمكن أن تطمئن قلوبنا ونحن نرى فئات محددة من الشعب، هي الأغلبية المطلقة، تتحمل وزر التقشف، فتعاني شظف العيش، وتنجو منه فئة قليلة ممن تزيد رواتبهم الشهرية على الخمسة ملايين دينار فأكثر، وبالتالي ومهما كانت درجة وطنيتنا ووعينا واستيعابنا للمستجدات والطوارئ، سنشعر أننا مظلومين بسبب عدم وجود العدالة المجتمعية التي تساوي بين الناس كأسنان المشط، ولاسيما وأن الدولة تملك خيارات كثيرة، منها تخفيض رواتب الرئاسات ومجلس النواب إلى الحد الأدنى، والتخلص من الحلقات الإدارية الفائضة عن الحاجة، وهي حلقات استهلاكية غير منتجة، أو توجد حلقات أخرى ممكن أن تقوم بمهامها، مثل الوزارات (الفضائية) مثل وزارة الدولة للشؤون المحافظات، وزارة الهجرة والمهجرين، وزارة السياحة، ومثل الوزارات التي تتداخل مهامها مثل وزارة الكهرباء مع وزارة الصناعة والمعادن، ووزارة شؤون المرأة مع وزارة حقوق الإنسان، ووزارة التربية مع وزارة التعليم العالي، ووزارة الزراعة مع وزارة الموارد المائية، فضلا عن مجالس المحافظات ودواوين المحافظات، والكثير من الحلقات الأخرى.

وهناك جانب آخر يمثل أنموذجا لسوء الإدارة؛ وهو أن جميع محافظاتنا تعيش عالة على المركز، وتسير عجلة الحياة فيها مع سير عجلة حياة المركز، فإذا حدث في المركز أي طارئ سرعان ما تتأثر به مهما كانت بعيدة جغرافيا عنه، في وقت يمكن للحكومات المحلية أن تبدع في استثمار حالاتها الخاصة لتوفير موارد شرعية مطابقة للقانون، تسهم في تطوير عجلة الاقتصاد داخل المحافظة، وبالتالي ترفع من مستوى معيشة المواطن، وتخفض مستويات البطالة المرتفعة التي بدأت مشاكلها ومعاناتها تنعكس على العراق كله. 

ولكننا منذ التغيير في 2003 ولغاية هذه الساعة لم نؤشر مجرد حالة يتيمة واحدة أبدع فيها العقل المحلي باستنباط وسائل تصب في مصلحة الإنسان، وتحقق له نوعا من الرفاهية بعد سنوات الجمر والظلم والفاقة والعوز والحرمان التي عاشها. وأكبر نشاط مارسته الحكومات المحلية ولاسيما منها المحافظات المنتجة للبترول هو مطالبتها بحصة من واردات الإنتاج تضاف إلى موازنتها المحلية، وهو ما عرف باسم (البرودولار) الذي لم يتحقق فعليا على أرض الواقع إلى الآن بسبب المشاكل المالية التي تعاني منها حكومة المركز، أو مطالبتها بحصة من الموارد المالية للمنافذ الجمركية التي تقع ضمن سلطتها.

تذكرت هذه الحالة وأنا أتابع برنامجا عنوانه (Top Gear) من على قناة (أم بي سي أكشن) وهو برنامج يتحدث فيه خبراء متخصصون عن المواصفات الحسنة والسيئة في سيارات جديدة يختارونها عشوائيا من عدة دول، حيث كان اثنان منهم يتحدثان عن مواصفات سيارة بيجو 304 فرنسية الصنع، فقال احدهما: "ينخدع من ينظر إلى مقدمة هذه السيارة الكبيرة حينما يكتشف أنها من غير فائدة. فهذه المقدمة برأيي تشبه أعضاء المجالس المحلية، يَعِدون بالكثير ولا يقدمون أي شيء". فقلت في خاطري: إذا كانت المجالس المحلية في البلدان المتقدمة لا تقدر على شيء، أو هي دون مستوى الطموح، وينظرون إليها هذه النظرة الدونية، فماذا نقول نحن؛ ومجالسنا المحلية (الحكومات المحلية) مجرد صورة لا أكثر؟

أليس من الأجدر بالحكومة المركزية التي تفكر بتعطيل الكثير من المشاريع النهضوية لتسد بعضا من عجز الموازنة أن تقوم بحل إما مجالس المحافظات أو دواوين المحافظات، وتكتفي بحكومة واحدة للمحافظة، ولاسيما وأن هذه الوحدات الإدارية مختلفة فيما بينها، وتكلف الخزينة المركزية وخزينة المحافظة مبالغ طائلة مثل المرتبات، ومقر العمل، والآليات، والحراسات، والإيفاد، والنثرية، والضيافة، وغيرها؟

إن العودة بالتاريخ على الوراء وإحياء الذكريات المرة في مخيال المواطن مثل ذكريات التقشف، يظهر ما حصل في عام 2003 وكأنه مجرد انقلاب دموي آخر من تلك الانقلابات الكثيرة التي عانينا مرارتها منذ عام 1958 والتي أدخلت العراق بالنفق المظلم الذي يجاهد من أجل الخروج منه، وان كل تلك الشعارات التي رفعت مجرد لعبة سياسية سمجة لا أكثر.! 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


صالح الطائي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2014/12/26



كتابة تعليق لموضوع : عادت ذكريات التقشف تتهددنا
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net