السلطات الحاكمة الظالمة وعلى امتداد التاريخ همها الرئيس هو طمس الحقائق وحجب المعلومة الصحيحة وذلك بالاستعانة بجيش من المرتزقة والمتزلفين والمنتفعين من ديمومة مثل هذه الانظمة الفاسدة وهم موجودون في كل زمن.
ولكن الحقيقة هي كالشمس, قد تحجبها سحب التظليل لفترة من الوقت ثم تظهر وتسطع بعد ذلك. ورواية (آخر اساطير الحب) للكاتب العراقي كمال السيد , محاولة لاعادة كتابة تاريخ الشعب العراقي مثلما هو في الواقع وليس كما صوره الفرعون واعوانه, انها ترجمة حقيقية لما كان يحدث من ظلم وجور واضطهاد في ذلك الزمن الاسود, وابراز حقيقة مهمة وهي ان الشعب العراقي لم يسكت على ذلك الظلم الفادح الذي وقع عليه, بل قاومه بصبر وشجاعة منقطعي النظير الى حد ان فتاة بعمر الورود (ميسلون) تشترط على خطيبها على ان يكون مهرها هو تنفيذ العملية الجهادية التي تهز اركان النظام وتوجع قلبه كما اوجع قلوب الناس, ويقبل خطيبها شرطها ويؤجل مشروع الزواج الى ما بعد تنفيذ العملية ولكن الذي يحدث ان احد اعوان النظام استطاع اختراق الخلية وايصال المعلومة الى جهاز امن النظام فتم القاء القبض على افراد الخلية ومن بينهم (ميسلون وحسام), وقبل تنفيذ الحكم بالاعدام طلبت ميسلون ان تلتقي بخطيبها حسام وهو آخر طلب لها قبل ان تغادر الحياة, وكانت مدة اللقاء (دقيقة واحدة فقط!!) وكان الجلاد يقف بجوارهما مذكرا اياهما بين لحظة واخرى بضرورة الالتزام بالوقت المحدد للمقابلة !!
واحداث الرواية (حقيقية وموثقة) وليس من نسج الخيال فهي تؤرخ لاحداث ووقائع لم تنمح من ذاكرة العراقيين بل هي ما زالت حية طازجة في الذاكرة لشدة مرارتها وعمق جراحاتها في ابعد نقطة من النسيج الحي لجسد الشعب العراقي الذي عانى من الظلم والجور ما لم يعانه شعب آخر, وهي محاولة لتوثيق ولو قطرة من بحر العذاب العراقي, فالرواية مجرد لقطة واحدة من واقع المأساة العراقية المنسية من قبل العالم الذي لا يهتم بعذاب البشر بقدر اهتمامه بمصالحه !!
تتعرض الرواية لجزء يسير من معاناة شعب ليس لديه ما يضاهي عشقه للحرية, واكثر الذين عشقوا الحرية, قدموا حياتهم قربانا لعشقهم الفريد, واكثر الذين ساروا على طريق الحرية (سقطوا شهداء) قبل الوصول الى هدفهم المنشود, وتلك اروع صورة من صور الحب والإيثار لانهم يعلمون بانهم قد لا يقطفون الثمرة في حياتهم, بل يقطفها الاخرون الذين يأتون بعدهم, تقطفها الاجيال اللاحقة, انها تضحية من نوع فريد.
بالرغم من لغة الرواية الادبية العالية (وهي ما امتازت به روايات كمال السيد) لكنه يضطر أحيانا من اجل توصيل الفكرة الى ذهن القارئ, واعطاء صورة قريبة من الواقع لا يمكن ادراكها من خلال اللغة الادبية العالية, بل من خلال (اللغة الشعبية الدارجة).
فالشهيدة (ميسلون) المحكومة بالاعدام, وفي فترة بقائها في سجن الرشاد انتظارا لليوم الذي تؤخذ فيه الى ساحة الاعدام في سجن ابي غريب, كانت خلال تلك الفترة القصيرة, منقطعة الى الله.. تتعبد, وتهيئ نفسها للحظة التي تنتقل فيها من عالم الدنيا الى عالم الاخرة, وكانت تعلم (حسب المعلومات التي وصلت اليها) بان الاشخاص المعدومين وبعد انزالهم من منصة الاعدام يتم (سحلهم من ارجلهم!!) بلا مبالات ودون مراعات لحرمة الانسان الميت اذ تنكشف اجزاء من جسده اثناء عملية السحل, وهذا ما كانت تخشاة ميسلون من ان يتم كشف اجزاء من جسدها بعد مماتها لذلك احتاطت للامر مسبقا وذلك بخياطة سروال طويل وضيق تلبسه تحت الكفن. وكتبت على كفنها آيات قرآنية وبعض الادعية المعروفة (اغتسلت ميسلون غسل الشهادة, وارتدت حلة الرحيل البيضاء, احكمت نهايات السروال جيدا.. لا تريد ان يبدو جزء من جسمها, لان البعثيين عندما يشنقون الضحية ثم ينزلونها من المشنقة, يقومون بسحلها من القدميين عبر البلاط الاسمنتي.. وميسلون تلك الفتاة الطاهرة تأبى ان ينكشف سترها.. ارتدت المانتو ثم ارتدت عباءتها واستغرقت في الصلاة.. صلت ركعتين وقرأت آيات من القرآن وراحت تناجي الحبيب...........)
وبعد تنفيذ حكم الاعدام حدث الامر الذي توقعته, اذ تم سحلها من قدميها الى الساحة التي يجمعون فيها جثث الشهداء وكان الذي يقوم بذلك رجل يقال له (ابو وداد).
ولاحظ احد الجلادين (الاميين) وهو يراقب عملية سحل الشهيدة ميسلون, كتابة غريبة على كفنها فاسرع الى سيده ليخبره بما رآه وهو مزهو باكتشافه الجديد:
-سيدي.. سيدي: اكو كتابة على الملابس.. يمكن معلومات حساسة..!!
كان ابو وداد يعرف حقيقة الامر جيدا لكنه تركه يزهو باكتشافه!!
عاد الضابط المسؤول والقى نظرة على الكلمات وقال:
-يله اقرأ..
راح ذلك الوغد يمعن النظر ويحاول قراءة الكتابة.. نهره الضابط:
-اثول.. يله اقرأ..
-سيدي يمكن انكليزي.. مكتوب يس.
-طيح الله حظك.. ياسين.. وآيات قرآنية وادعية.
والتفت الى ابو وداد قائلا:
-ذبه سجن الى ان يحفظ سورة الفاتحة.
-نعم سيدي.
وزع الكاتب روايته التسجيلية هذه على مساحة 52 فصلا 28 منها تحت عنوان نهر الفرات حيث موطن الشهيدة ميسلون فهي من مدينة الرفاعي الواقعة على الشط, و24 فصلا تحت عنوان نهر دجلة حيث موطن الشهيد حسام الذي يسكن في منطقة علي الصالح على شاطئ نهر دجلة.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat