صفحة الكاتب : صالح الطائي

مملوك ومؤرخ وسيرة
صالح الطائي

قراءة تحليلية لكتاب "الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر ططر" للمؤرخ بدر الدين محمود بن أحمد العيني، الذي حققه ودرسه الأستاذ الدكتور فاضل جابر ضاحي


بين الأحاديث النبوية والرواية التاريخية
لابد أن نتنبه بداية إلى أمر في غاية الأهمية، وهو: أنه يجب التفريق بين رواية (الحديث) ورواية (الخبر)، فالحديث يتصل مباشرة بأصول التشريع، وعليه تبنى الأحكام وتقام الحدود، ولذا تحرز العلماء كثيرا في شروط الرواية والراوي، ونشأ علم الجرح والتعديل. ولكن بالرغم من ذلك مرت مجموعات كبيرة من الأحاديث التي ما كانت لتصمد لو وضعت في ميزان جرح حقيقي، فضلا عن تهاون وتكاسل العلماء بشأن أحاديث الفضائل باعتبار أنها لا تتصل بأحكام التشريع.
وكان قصدهم من التساهل إمرار أو قبول رواية من ضعف ضبطه بسبب الغفلة أو كثرة الغلط، أو التغّير والاختلاط، ونحو ذلك، أو عدم اتصال السند كالرواية المرسلة أو المنقطعة، ووفق هذه القاعدة جوّز بعض الفقهاء العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال والترغيب والترهيب والرقائق، مع وجوب التنبيه على ضعف الحديث، وهو الأمر الذي تغافله الرواة عمدا أو سهوا. فمرت من خلال هذا التهاون والتساهل سيول من غث الحديث والإسرائيليات والموضوعات التي أسهمت فيما بعد في تلوين مشارب الأمة، ولاسيما بعد أن تقصد وتعمد  بعضهم إيراد هذه الأحاديث.

أما الرواية التاريخية ، فهي مع كبير أهميتها، إلا أنها لا تتعلق بإثبات أمر شرعي أو نفيه، سواء كان لذلك صلة بالأشخاص أو الأحكام، ولذا لم تخضع لما خضع له الحديث، وتحولت بالتالي إلى ساحة مفتوحة ينزل إلى اللعب فيها كل من تتاح له فرصة، أو كل من يُكلف بهذا الواجب من الموظفين الحكوميين أو الأُجَراء، ولذا وضعوا قاعدة تقول: "يجوز للمؤرخ أن يروي في تاريخه قولاً ضعيفاً في باب الترغيب والترهيب والاعتبار مع التنبيه على ضعفه" وبعد أن تسللت تلك الروايات إلى بطون كتب تاريخنا وكونت لوحدها ما يمكن أن نسميه: "كتب الهوة"، بات من المستعصي بل من المستحيل التحكم بها؛ لأن أي إجراء يتخذ بحقها سوف يترك في هيكل تاريخنا فضاءات من الفراغ القاتل، وهو  ما قال عنه الدكتور أكرم ضياء العمري: "أما اشتراط الصحة الحديثية في قبول الأخبار التاريخية التي لا تمس العقيدة والشريعة ففيه تعسف كثير، والخطر الناجم عنه كبير، لأن الروايات التاريخية التي دونها أسلافنا المؤرخون لم تُعامل معاملة الأحاديث، بل تم التساهل فيها، وإذا رفضنا منهجهم فإن الحلقات الفارغة في تاريخنا ستمثل هوّة سحيقة بيننا، وبين ماضينا مما يولد الحيرة والضياع والتمزق والانقطاع .. لكن ذلك لا يعني التخلي عن منهج المحدثين في نقد أسانيد الروايات التاريخية ، فهي وسيلتنا إلى الترجيح بين الروايات المتعارضة ، كما أنها خير معين في قبول أو رفض بعض المتون المضطربة أو الشاذة عن الإطار العام لتاريخ أمتنا، ولكن الإفادة منها ينبغي أن تتم بمرونة آخذين بعين الاعتبار أن الأحاديث غير الروايات التاريخية، وأن الأولى نالت من العناية ما يمكنها من الصمود أمام قواعد النقد الصارمة".(1)

كتب الهوة
من هذا المنطلق وحرصا منه على ردم الهوة بادر الدكتور فاضل جابر ضاحي إلى اختيار أحد "كتب الهوة" ليدرسه وفق منهجية علمية، سارت باتجاهين، الأول: تبيان المزالق التي وقع بها المؤرخ، تلك المزالق والهنات والتدليس الذي وهّن قيمة الكتاب، وذلك لكي لا يتخذ الكتاب مرجعا دراسيا. والثاني: الحفاظ على هذا الكتاب كجزء من الموروث أو كلبنة من لبنات حائط التاريخ، يؤثر قلعها على تناسق الأجزاء. أي الاحتفاظ بالكتاب كصورة لا كمضمون.
ولكي ينجز هذه المهمة الصعبة كان عليه أن ينتهج الطرائق العلمية التي ترشد طلابه إلى أساليب ومنهجية التحقيق، ولاسيما وأن هناك في موروثنا ملايين المخطوطات القديمة والحديثة التي تحتاج إلى التحقيق وفق منهجية علمية، وقد يكون من ضروريات تكاملنا الفكري والثقافي والعلمي أن يدخل علم تحقيق المخطوطات في مراحل الدراسات الجامعية، وينبه الطلاب على أهمية هذا العلم حتى لا يبقى هذا التراث العظيم حبيس النسيان، بل ينبغي أن يفاد منه علميا، كما نرى؛ ويرى ذلك معنا الدكتور عمار بن أمين الددو رئيس قسم المخطوطات بمركز جمعة الماجد بدبي في محاضراته التي ألقاها.

مهمة التحقيق
إن كلمة مَنهَج لغة هي: الطريق الواضح، ومثلها كلمة (منهاج) قال تعالى : "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً"(2)
والتحقيق اصطلاحا: يعني مجموع الخطوات العملية التي يسلكها الدارس للوصول إلى حقيقة معينة .
أما كلمة تحقيق منهجا، فتعني: التصحيح والإحكام. وتعني اصطلاحا، ما يقوم به طالب العلم من إخراج نصوص المخطوطات القديمة في صورة صحيحة متقَنة، ضبطاً وتشكيلاً، وشرحاً وتعليقاً، وفق أصول متبَعة معروفة لدى الذين يتعاطون هذا العلم، ويعرف التحقيق على أنه: علم بأصول لإخراج النص المخطوط على الصورة التي أرادها صاحبها من حيث اللفظ والمعنى، فإن تعذّر هذا كانت عبارات النص على أقرب ما يمكن من ذلك. أي هو الاجتهاد في جعل النصوص المحققة مطابقة لحقيقتها في النشر كما وضعها صاحبها لفظا ومعنى. وكأننا أمام مهمة تسعى إلى تصحيح وتقويم اعوجاج أثر ما، ووضعه على الطريق الصحيح، لينهل منه ذوو الاختصاص ما يروي ظمأهم.

مؤهلات المحقق
وعليه يتوجب على من يروم القيام بهذه المهمة الصعبة أن تتوفر فيه صفات خاصة، مع وجوب تمتعه بمؤهلات عامة وخاصة، تؤهله القيام بمثل هذا العمل الخطير، فالمؤهلات العامة المطلوبة، هي: أن يكون عارفًا باللغة العربية ملما بها.  وأن يكون ثقة لا غبار على أمانته. وأن يكون عارفا بأنواع الخطوط العربية، وأطوارها التاريخية.  وأن يكون على دراية كافية بالمراجع والمصادر وفهارس الكتب. وأخيرا أن يكون عارفا بقواعد تحقيق المخطوطات، وأصول نشر الكتب.
أما عن المؤهلات الخاصة، فيفضل أن يكون موضوع الكتاب المحقَّق مطابقا لما تخصص به المُحَقِق، فمن أراد تحقيق مخطوطٍ في النحو، عليه أن يكون نحويا، ومن أراد تحقيق كتاب في الرياضيات، عليه أن يكون رياضيًّا، ومن أراد أن يحقق كتابا التاريخ عليه أن يكون متخصصا في التاريخ. والكتاب الذي بين أيدينا كتاب تاريخي، والمحقق هو أستاذ أكاديمي للتاريخ، ويقع تحقيق هذا الكتاب ضمن اختصاصه.
فضلا عن ذلك لابد للمحقق أن يستعين بمجموعة من الكتب التي تساعده في مهمة تحقيق المخطوطة، منها ما له علاقة بموضوع التحقيق، ومنها ما له علاقة بموضوع المخطوطة المراد تحقيقها، فضلا عن ما له علاقة بالخط العام لموضوع المخطوطة أي المصادر والمراجع التي تتفق مضامينها مع موضوع المخطوطة.

وسنجد من خلال هذه القراءة أن الأستاذ الدكتور فاضل جابر ضاحي أفاد كثيرا من ممارسته التدريس الأكاديمي، ومن تمرسه في فن التحقيق، ومن خبرته في التأليف والنشر، فسار على أصول منهجية التحقيق العلمية بدأ من اعتماده على أكثر من مخطوطة للكتاب، ثم اعتماده أكثر من 26 مصدرا ومرجعا للدراسة، و147 مصدرا ومرجعا للتحقيق، وصولا إلى اعتماد الفهارس العامة والدقيقة، ومنها: فهرس الآيات القرآنية، فهرس الأحاديث الشريفة، فهرس الأقوال، فهرس الأعلام، فهرس القبائل والأمم والشعوب، الدول والأسر الحاكمة، الفهرس الإداري، الفهرس الجغرافي، الفهرس الاقتصادي، الفهرس العلمي، فهرس المؤلفات.
إن الكتاب الذي اعتمده الدكتور فاضل ليس من الكتب التي يتقبلها المتخصصون دونما اعتراض، فهو كتاب مثير للجدل؛ سواء من حيث المضمون أو المنهجية أو الوقائع التاريخية، ما يعني أن العمل عليه لن يكون سهلا يسيرا، فمتى ما وجدت الفوضى والمخالفات، لابد وأن ترافقها المشاكل والتعقيدات؛ التي تضع في طريق المحقق الكثير من العثرات، والتي سنجد لاحقا أن المحقق نجح بتجاوزها من خلال المقدمة التحليلية التوضيحية التي وضعها للكتاب والتي نافت على الخمسين صفحة

الكتاب منهجا ومضمونا
بالرغم من كون المنهجيات وأسسها  قننت وعُرّفتْ حديثا، إلا أنه ليس من الإنصاف الاعتقاد بأن المؤرخين الأوائل كانوا يجهلونها، وان علماء الغرب هم الذين وضعوها، ففي تاريخنا المئات من المؤلفات التي تبدو وكأنها وضعت وفق أسس المنهجيات المعروفة المتداولة، بما يعني أن الأوائل كانوا يكتبون وفق منهجيات غير مسماة؛ بسليقة التقليد وان هذه المنهجيات كانت فطرية بدائية لا تعتمد الأسس العلمية التي اعتمدت بعد تقنين المصطلحات الذي فشا خلال القرنين المنصرمين. علما أن الغربيين أفادوا من هذا التقنين فادعوا أنهم هم الذين وضعوا أسس مناهج البحث، "ومن هنا يبدو لنا خطأ الفكرة المنتشرة على أنها حقيقة لا مراء فيها، وهي أن المنهج التجريبي ولد ونضج في الغرب على يد البيكونين "روجر وفرنسيس" و"جون ستيوارت مل"(3)
علما أن هناك بينهم من أكد خطأ هذه الفكرة مثل "كلود برنارد" الذي قال: "إنني أعتقد أن كبار المجربين قد ظهروا قبل أن توجد القواعد العـامة لفن التجريب، ومن ثم يبدو لي أنه لا يحق لأحد أن يقول في حديثه عن بيكون إنه اخترع المنهج التجريبي، ذلك المنهج الذي استخدمه "جاليلو"  و"تورشيلي" على نحو جدير بالإعجاب عجز عنه بيكون"(4)  ومع ذلك لم يكن رأي هؤلاء كاملا لأنهم اغفلوا جانبا مهما من الحقيقة وهو أن الكثير من علمائنا ومؤرخينا سبقوهم في استخدام المنهج التجريبي، مثل: أبو بكر الرازي، جابر بن حيان، ابن الهيثم، البيروني، وآخرون غيرهم.

وبالرغم من ثراء هذا الموروث لا نجد في كتاب العيني ـ حسب رأي المحقق ـ أي منهجية تذكر، فمع أن هذا الكتاب وضع كسيرة شخصية أكثر منه كتابا للتاريخ، إلا أنه لم يعتمد أي منهجية من المناهج المعروفة في كتابة السير.! حيث قال المحقق: "إذ قمنا بالتعريف بمؤلف الكتاب بدر الدين العيني، وعرفنا بالسلطان "ططر"... كما ودرسنا نص الكتاب دراسة نقدية وفقا للمنهج العلمي في النقد التاريخي.. وفضلا عن ذلك قمنا بتخريج الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأبيات الشعرية والأمثال والأقوال وعرفنا بالشخصيات والقبائل والأمم والأماكن المختلفة، وكل ذلك بالاعتماد على المصادر المتخصصة في أبوابها.. وقدمنا شرحا وافيا للمصطلحات المذكورة في المتن"(5) ولتوضيح ذلك أجد من الضرورة بمكان الحديث بشكل موجز عن مناهج كتابة السير.

منهج كتابة السيرة
كتابة السير المعروفة اليوم تكاد تكون من أقدم الفنون الأدبية المعروفة، ففي موروث العصر الجاهلي هناك عشرات السير التي كانت تروى شفاها، ويتداولها الناس كنوع من تراثهم. وبعد البعثة المشرفة، منذ بدايات الطور المدني تحديدا ولغاية النصف الثاني من القرن الهجري الأول كانت قصص السيرة تروى شفاها، ثم بعد هذا التاريخ أصبحت كتابة السيرة جزءً من علاقة المسلم بالغزوات التي قام بها أهله، وبشخصية النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ولذا نجد هناك عدة أقوال عن كتب في السيرة النبوية أسهم في كتابتها مجموعة من المسلمين الأوائل، منهم: عروة بن الزبير بن العوام، الذي كتب السيرة عام 92 هجرية, وأبان بن عثمان كتبها سنة 105للهجرة, ووهب بن منبه، كتبها سنة 110 للهجرة, وشرحبيل بن سعد كتبها سنة 123 للهجرة, وابن شهاب الزهري كتبها سنة 124 للهجرة, وعبد الله بن أبي بكر بن حزم الذي كتبها سنة 135للهجرة.
وهي بمجموعها سير مجتزأة محدودة، ولكنها بالرغم من ذلك اعتمدت أساسا لكتابة كتب السيرة الكبيرة الأخرى، مثل كتاب السيرة الذي كتبه موسى بن عقبة سنة141هجرية ويعرف باسم "المغازي", وكتاب السيرة الذي كتبه معمر ابن راشد سنة 150 هجرية. وأشهر كتب السيرة، كتبه محمد ابن إسحاق سنة 125هجرية، وشذبها ولخصها ابن هشام سنة 218 للهجرة. وكتاب السيرة الذي كتبه زياد البكائي سنة 183 هجرية, وسيرة الواقدي صاحب المغازي التي كتبها سنة 207 هجرية, وسيرة محمد بن سعد صاحب الطبقات الكبرى التي كتبها سنة 230هجرية. وكثيرون غيرهم مثل ابن حبان (270 هـ - 354هـ) الذي وضع كتابا أسماه: "كتاب السيرة النبوية وأخبار الخلفاء" أرخ فيه لغاية المطيع بن المقتدر العباسي، بويع له بالخلافة عند خلع المستكفي سنة 334هجرية، وظل بالخلافة حتى سنة 363هجرية. وابن كثير المؤرخ (ت774) الذي وضع كتابا في السيرة، وابن تيمية.
هذا وقد تداخل هذا الاهتمام مع اهتمام آخر وهو كتابة سير الخلفاء، الذي تزامن مع ولادة الحكم الوراثي في الإسلام، وكانت بدايات نشوءه في العصر الأموي، وهو الأساس في كتابة سير الخلفاء والملوك والسلاطين، الذي جاء متأثرا بما كتب عن السيرة النبوية من جانب، وبتأثير الميثولوجيا الشعبية الموروثة من جانب آخر، وكانت تلك السير تكتب إما لحقبة كاملة مثل حقبة حكم الخلفاء الراشدين وحقبة الحكم الأموي وحقبة الحكم العباسي وحقبة حكم المماليك، مثل كتاب "الجوهر الثمين في سير الخلفاء والملوك والسلاطين"، وكتاب "النفحة المسكية في الدولة التركية من كتاب الجوهر الثمين في سير الخلفاء والملوك والسلاطين : من سنة ٧٣٦ حتى سنة ٥٠٨ ھ"، وكتاب "الشفاء في مواعظ الملوك والخلفاء" لابن الجوزي، وكتاب "روضة الصفا في سيرة الأنبياء والملوك والخلفاء"، وكتاب "تحفة ذوي الألباب فيمن حكم دمشق من الخلفاء والملوك والنواب" وغيرها. أو تكتب لأشخاص معينين من هذه الحقب كل منهم على انفراد، مثل كتاب مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي (510ـ 597 هـ).
ومع ذلك لا نجد المؤرخ العيني يأبه بالموروث أو يتبع منهجه وإنما نراه بلا منهج لا يهمه سوى كيل المديح الفارغ وتسطير الأكاذيب وفضائل ما انزل الله بها من سلطان، وهو ما قال عنه المحقق: "وفي كل ذلك يتضح أن أحد الأسباب الأساسية التي دفعتنا لتحقيق الكتاب ونشره، كونه خال من تلك الإفادة، وتقديم معلومات وافية ومتنوعة من خلال الشرح والتعريف، والتعليقات التي فصلنا فيما جاء فيها مقتضبا أو مبهما في متن الكتاب، والسبب الآخر هو تقديم نقد للكتاب ولمؤلفه وبيان الأهداف الحقيقية التي دفعت بالعيني لتأليفه"(6)
وبالرغم من كون العرب كانوا في جاهليتهم وإسلامهم مولعون في تضخيم الأمور لأسباب كثيرة منها طلبا للمكسب والربح، أو تزلفا للحاكم، أو مدحا للقبيلة والأهل، أو دعما لمعتقد وفكر، إلا أن المؤرخ العيني تجاوز كل تلك السنن، ووضع كتابا محشوا بالأكاذيب والتضخيم فاق ما كان عليه الأوائل


المؤلف العيني
ولد العيني سنة 762هجرية بمدينة عينتاب، ثم عين سنة 788 خادما في المدرسة الظاهرية، ثم طرد منها سنة 790، طرده الأمير "جركس الخليلي" منها على وجه شنيع، وكان السبب وراء ذلك حسب قول المقريزي: "أمور اتهم بها والله اعلم"(7) ثم ترقى بالمناصب من خلال التقرب من الأمراء والحكام والتزلف لهم، وردا لجميلهم كان يكتب لهم سيرا، فقد كتب سيرة للشيخ المؤيد، ووأخرى للظاهر ططر، وثالثة للأشرف برسباي(8)، كلها فضائل مختلقة، يختلف مضمونها مع ما حدث على ارض الواقع.

منهج التدليس
حينما كتب العيني سيرة "المؤيد" أوغل في مدحه إلى أقصى الحدود، بالرغم من كونه لا يستحق هذا العناء، وكان المؤيد حينما مرض قد جعل "ططر" وصيا على ابنه ولي العهد، ولكن ططر خان الأمانة وقتل جمعا كبيرا من القادة والوزراء واستولى على العرش لنفسه، ومع أنه لم يحكم أكثر من ثلاثة أشهر إلا أن العيني نسى ما كتبه للمؤيد وشمر عن ساعده فكتب لططر سيرة أسماها "الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر ططر" جعله فيها أنموذجا للحاكم العادل الرءوف المحب للخير والعلم والعلماء المصلح المهتم بشؤون الرعية، بمعنى انه جعل ططر سيد الأوصاف الجميلة والأخلاق الفاضلة، في حين نقرأ في ترجمته عند مؤرخين آخرين معاصرين أو قريبين من عصره أقولا تصطدم بأقوال العيني، حيث أكد المقريزي(ت 845هـ)
أن في ططر طيشا وخفة وتعصبا شديدا، وأكد ابن تغرى بردي (ت874) أن ططر بالرغم من قصر فترة حكمه لكنه كان منتقما جائرا سفاكا للدماء، علما أنهما من المؤرخين الذين ينتمون إلى طبقة المماليك ذاتها التي ينتمي إليها السلطان ططر(9).
فضلا عن ذلك كتب العيني مؤلفه على عجل في الأيام الأولى لسلطنة ططر، بمعنى أن الصفات التي أسبغها عليه لا يمكن أن تتضح للعيان خلال وقت قصير جدا، إذ لا يمكن لأي حاكم مهما علت همته وعظمت كراماته أن يأتي بكل تلك الصفات التي أسبغها العيني على ططر في مدة لا تتجاوز الشهرين.
وهذا ما أشكله عليه المحقق الذي قال: "إن ما نريد أن نؤكده في هذا البحث أن المؤرخ العيني ومن خط خطه من المؤرخين أنما ضربوا عرض الحائط بشروط الكتابة التاريخية التي سجلها المؤرخون الذين عاشوا في عصر المماليك مثل السبكي وابن خلدون والسخاوي، ومن أهم تلك الشروط الحيادية وعدم التحيز وقول الحقيقة والتزام الأمانة"(10)

المحقق
آخر ما أريد الإشارة إليه هو أن الأستاذ الدكتور فاضل جابر ضاحي الذي أخذ على عاتقه تحقيق كتاب "الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر ططر" أنجز بحثا عمليا علميا في أسس تحقيق المخطوطات يمكن أن يكون منهجا لطلاب الجامعات والباحثين عن الأساليب العلمية في التحقيق، فهو فضلا عن اختيار الصعب ركوبا،والصعب يتعب في الركوب، جاء بأسلوب جديد لا يفطن إليه إلا من له قدرة تفكيك التاريخ، ومتابعة الجزئيات بدقة وفطنة، وهو ما فطن إليه الأستاذ المحقق وأبانه في مقدمته التي وضعها للكتاب، والتي أتمنى أن يجتزئها منه ويوزعها على طلبته لتكون معينا لهم في سعيهم المعرفي.
كان المحقق موفقا في دراسته التي جعلها مقدمة للكتاب وفي تحقيقه للكتاب، وهو عمل لا يسعنا إلا أن نهنئه عليه وندعو له بالتوفيق والسداد.
صدر الكتاب عن دار تموز للطباعة والنشر في دمشق بطبعة جميلة، بواقع 180 صفحة من القطع الوزيري، وهو بحث لا غنى عنه لكل مهتم بالتاريخ ولاسيما تاريخ عصر المماليك.


الهوامش
(1) دراسات تاريخية، الدكتور أكرم ضياء العمري، ص 27
(2) المائدة:48
(3) ينظر: مناهج البحث في العلوم الإسلامية، الدكتور مصطفى حلمي، ص 57
(4) المنطق الحديث ومناهج البحث، الدكتور محمود قاسم، ص 38
(5) كتاب الروض الزاهر، أ.د. فاضل جابر ضاحي، ص9
(6) المصدر نفسه، ص10
(7) المصدر نفسه، ص13
(8) المصدر نفسه، ص14
(9) المصدر نفسه، ص27ـ28
(10) المصدر نفسه، ص28


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


صالح الطائي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2014/11/11



كتابة تعليق لموضوع : مملوك ومؤرخ وسيرة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net