صفحة الكاتب : د . صادق السامرائي

العيد في سامراء!!
د . صادق السامرائي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

سامراء مدينة الطفولة والصبا والثقافة والحياة  , ومدرسة الآداب المعارف والتأريخ , والتي كان العيد فيها سعيدا حقا.
فكنا صغارا نستعد للعيد بكل طاقاتنا وخيالاتنا وتفاعلاتنا الإنسانية الجميلة البريئة الواعدة.
وكانت الأيام التي تسبق العيد ذات نكهة خاصة وتتميز بالحيوية والنشاط , فالأسواق تعج بالمشترين , وقد إمتلأت الدكاكين بالبضائع , وإزدحم الناس في محلات الملابس والأحذية , فالحذاء الجديد كان مهما وأساسيا , وكذلك الملبس الجديد الذي يتم تدشينه في صباح العيد.
وتنشغل العوائل السامرائية  بعمل (كليجة العيد) خصوصا في ليلة العيد , حيث تُعمل (صواني الكليجة) بتعاون ومساعدة الأقارب والجيران , وتكون هذه الفعالية ذات مذاق إجتماعي لطيف. وعندما يكتمل تحضير (الصواني) , يتم حملها إلى فرن (حمد حار) الذي كان الفرن الرئيسي في المدينة. ويبقى العاملون به ساهرين الليالي التي تسبق العيد وأثناء ليلته , لكثرة (الصواني) القادمة إليهم.
وكانو يقولون (كليجة توها طالعة من الفرن) أو (كليجة توها طالعة من التنور). ولأن صناعة الكليجة بالتنور تستغرق وقتا , فأن الفرن هو المفضل.
وفي صباح العيد تزدحم شوارع المدينة بالناس بملابسهم الجديدة الزاهية , ووجوههم المبتسمة المستبشرة , ونظراتهم البهيجة الوادعة.
ويتحرك الأطفال بفرح وسرور, وكل منهم يسعى نحو (العيدية) , فيتسابقون لزيارة الأقارب والأصدقاء , ويفرحون (بالعيدية).
وكانت العادة أن نتقدم إلى الأقارب ونقول: أيامكم سعيدة , ويكون الجواب : وأيامك من أسعد الأيام , وعيدك مبارك , ويتم التهليل بالأطفال وتقديم العيدية لهم, وهي النقود.
وكانت جدتي (منتهى العباس) , والدة أبي , وهي مقعدة , كلما أزورها في يوم العيد لمعايدتها , وأقول لها (أيامك سعيدة بيبي) , ترمي إليّ بدرهم أو درهمين أو أكثر , وفقا لطبيعة مزاجها , فأصبح غنيا بالقياس إلى الآخرين.
وكنا نشتري ما يحلو لنا بالعيدية وبعضنا يدخرها.
وكان الإحتفال بالعيد في سامراء , منحصرا في منطقة تسمى (الوقفة) أو (الوكفة) , وهي ساحة لبيع المواشي والأسماك.
ويحاذيها من الشرق مدخل سوق المعتصم , ومن الغرب محطة البنزين الوحيدة آنذاك والمقبرة القديمة , ومن الجنوب سوق مريم , ومن الشمال الطريق المؤدي إلى باب السور القديم.
فتُنصَب فيها المراجيح ودولاب الهواء , وينتشر فيها عدد من الباعة المتجولين وأصحاب الألعاب المتنوعة. وهناك سيارات (بيك أب) تأخذ الأطفال إلى الملوية , والتي كانت تبدو بعيدة وقتذاك , ويردد أصحابها (روحة وجية للملوية بعشرة فلوس).
وحول الملوية يجتمع الأهالي والزائرون ويحتفلون بالعيد , والناس صاعدة ونازلة منها.
وكانت (دبكة الجوبي) , مشهورة ولها خبراؤها ومَهرتها والبارعين بأصواتهم الشجية , وهم يرددون الأشعار الشعبية السامرائية على أنغام (المطبك).
وكان لتلك الدبكات والأنغام تأثير ساحر وبهيج , وكم كنت أمضي الوقت الطويل منسجما معها , ومعجبا بأصوات وألحان منشديها العذبة الطيبة السمحاء.
وفي ليلة العيد وأيامه تحتشد العوائل السامرائية في مرقد الإمام علي الهادي (ع) لتأدية زيارة ليلة العيد أو العيد , فزيارة الإمام والصلاة فيه ركن مهم من أركان وطقوس الإحتفال بالعيد.
وفي تلك الليلة يصدح صوت (طالب السامرائي) بالتراتيل القرآنية والموشحات والمدائح النبوية , وتسمى تلك القراءة (التمجيد). ومع صوته الجهوري المؤثر,  تكاد المدينة بأسرها أن تتفاعل مع روح السماء الفياضة.
وكانت صلاة العيد في الجامع الكبير المجاور للصحن من الجهة الشمالية , ويئم فيها الشيخ (أيوب الخطيب) رحمه الله , ويقدم الخطبة بأسلوبه وصوته المتميز الذي يؤثر في القلوب والنفوس , وبعد الصلاة يتبادل المصلون التهاني والتبريكات ويذهبون لزيارة جدهم علي الهادي (ع).
وتمضي أيام العيد بفرح وسرور ومرح , ما بين التزاور واللعب وتبادل التهاني وحضور الولائم.
وفي طفولتي كنت أرافق والدي الذي لا بد له أن يزور أخواله جميعا , لإعتزازه بهم وتقديره لقيمتهم الإجتماعية ودورهم في الحياة السامرائية.
وكنت أذهب معه لزيارة خاله (الشيخ كامل العباس) رحمه الله , والذي يكون متواجدا أما في البيت أو في الديوان معظم صباحات العيد , وقد إجتمع وجهاء سامراء من حوله.
وكانت معظم نشاطات مدينة سامراء تبدأ في الديوان الذي كان الملتقى الدائم لرجالات المدينة.
ولا بد من زيارة جدتي أو بيبيتي ومعايدتها , لأنها تسكن في البيت المقابل لبيت أخيها.
كانت تلك الأيام ذات نكهة وجمال وصفاء وألفة ومحبة وقوة إنسانية , وتفاعل حضاري أخلاقي مشحون بالقيم والأعراف والتقاليد النبيلة الصادقة. وكنت أرقب الكبار من حولي , وهم يتفاعلون بإحترام وتقدير كبير لبعضهم البعض.
وكان إهتمامهم بالأطفال واضحا ومتواصلا ومسؤولا, فيقدمون لنا المثل الأعلى عن حسن السلوك والخلق , ويرشدوننا ويعلموننا الصدق والإخلاص والوفاء والإحترام ومحاسن السلوك وضوابطه.
فكانت أيام العيد مهرجان أخلاقي تربوي وتفاعل إنساني منير.
ولا زالت تلك الأيام محزونة في ذاكرتي , وتذكرني بروعة الإنسان عندما يمتلك الأخلاق الحميدة , ويكون ضمن نظام إجتماعي يفوح منه أريج القيم والتقاليد السامية , التي حافظت على الوجود الإجتماعي رغم الويلات والأحداث والتطورات.

تحية لسامراء في يوم العيد الذي تشتاق فيه الملوية للوجوه المستبشرة , ولدبكات الجوبي والأغاني والأهازيج ولذلك الفرح البهيج.
وتحية للأخوّة العراقية والألفة الوطنية التي تتحدى , وتبقى خالدة متجددة مهما تعرضت للضغوط والصولات الغاشمة من أعداء المحبة والرحمة والمودة الوطنية والسلام .
وأطيب الأماني والتبريكات والقبلات على جبينك الوضاء , يا أخي العراقي الطيب القلب والنفس والروح , فلنصنع الحاضر والمستقبل السعيد بنا جميعا.
أللهم إحفظ سامراء وأهلها من شرور الآثمين , وإحفظ النجف وكربلاء والبصرة والموصل وكركوك والسليمانية وأربيل وبغداد والحلة والأنبار , وجميع مدن العراق وأهلها وحواضرها وتأريخها ومراقدها , أللهم إرحم العراقيين فقد طفح كيل العناء , وإن بعد العسر يسرا , فيسّر أللهم يسّر , لكي يكون عندنا عيد!!
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . صادق السامرائي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2014/10/03



كتابة تعليق لموضوع : العيد في سامراء!!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net