كيف تفقد الشعوب المناعة ضد الاستبداد ! ؟ الجزء الخامس
مير ئاكره يي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
مير ئاكره يي

كلمات موجزة :
________
مذ أقدم العصور التاريخية لبني الانسان في المعمورة كلها ، حتى يومنا هذا والاستبداد يشكّل أعظم خطر وأكبر معضلة سبّبت للمجتمعات البشرية مآسي وكوارث وويلات لاتعد ولا نحصى . إذ لم تراق وتستنزف دماء ودموع مثلما أريقت وسالت في طريق الاستبداد من قبل المستبدين لبني جنسهم . وذلك حفظا على سلطانهم الجبري الجوري وسلطاتهم القمعية القهرية للشعوب والنهبية لثرواتها وخيراتها ! .
لاشك أن للرئيس المستبد آليات متنوعة ووسائل مختلفة وملتوية يعمل عبرها في ترويض المجتمع ، وفي تسكينه وتخديره وتنويمه ، وفي قتل مشاعر العزة والأُباة والكرامة والحرية والفطرة لديه . إن الرئيس المستبد ، إضافة الى أجهزته القمعية والبطشية المتمثلة في البوليس السري والظاهري ، وفي الأمن والمخابرات والمباحث ، وفي الحرس الخاص والقوات الخاصة فإنه أيضا يمتاز بصفات رديئة وسلوكيات مشينة أخرى كالتمثيل والتلوّن والحربائية والخداع والكذب المستمر على الناس ، وهو يلعب كل هذه الأدوار المكشوفة لدى ذوى الألباب والثقافة لأنه مُتخم بجنون العظمة ومرضها والتقديس الذاتي ، بل التأليه الأنوي لشخصه الزائلة الفانية ولو بعد حين ! .
وفي كل ذلك فللرئيس المستبد القمعي النهّاب أعوان ومستشارين باعوا ضمائرهم وحريتهم وكرامتهم وإنسانيتهم ومجتمعهم وبلادهم ، لأجل رضا السلطان وما يغدق عليهم من ثروات الشعب ، حيث هم يمدّون كبيرهم المستبد أكثر فأكثر من دروب الحيل والتحايل وفنون الخداع ، ومن التطور في المناورة والكذب والدجل والرياء لكي يبقى المجتمع على ما هو عليه من سكون وتسكين وتخدير ، ومن ذل وإذلال وهوان ، ومن فقدان للحرية والكرامة والعزة والارادة والسيادة والثروات ! .
على هذا ، هناك أكثرمن طرف في المجتمع يمكن توجيه اللوم والعتاب والتقصير الشديد لهم وتحميلهم المسؤولية والأوضاع البئيسة التي آلت اليها المجتمع / المجتمعات في ظل حكم الاستبداد والمستبدين ، لأنهم العامل في بقاء الرئيس المستبد فترة أطول في سدة الرئاسة وهم ؛ قسم من المثقفين والمتعلمين ، وقسم من شيوخ وفقهاء وعلماء الدين ، بالاضافة الى البرلمان الصوري والشكلي والتصفيقي الموظّف أولا وأخيرا لخدمة حضرة السلطان وعائلته وحاشيته . ومن الحيف والاجحاف إطلاق مصطلح البرلمان على هكذا برلمان الذي آرتضى لنفسه العبودية المختارة ، كما يقول لابواسييه ، لأن هذا الصنف من البرلمان هو برلمان مُسيّر ومُستعبد ومحتل ومغتصب من قبل الرئيس المستبد الحاكم . لذا فهكذا برلمان فاقد لخاصية البرلمان وخصائصه ومهامه الكبرى ووظائفه العظمى وأبعاده الهامة للشعب والوطن . وهذا النوع من البرلمان لايوجد في قاموسه ، ولا في جدولة أعماله الاعتراض والمعارضة وسحب الثقة من الحكومة ، أو من الرئيس الحاكم اذا ما جاروا وآستبدوا وناقضوا القوانين ومصالح الشعب والبلاد ، واذا ما نهبوا الثروات الوطنية نهبا وآستعبدوا المواطنين إستعبادا ، بل بالعكس فإن هذا النمط من البرلمان تخصّص في التبريك والمباركة والمبايعة الدائمة للرئيس الحاكم السلطان والابتهال له ، مع الموافقة والمسايرة الدائمة له والتصفيق الحار له ولو كان على حساب البلاد والعباد ، وعلى حساب دمائهم وآهاتهم ومظلوميتهم ومظالمهم ومعاناتهم !.
__________________________________________________
مقالة العبودية المختارة !
____________
بقلم : الفيلسوف الفرنسي إيتيين دي لابواسييه
_________________________
[ أما طغاتنا نحن فقد نثروا في فرنسا رموزا لا أدري كنهها كالضفادع ، والزنابق ، والقارورة المقدسة ، والشعلة الذهبية ، وكلها أشياء لا أريد أيّا كانت ماهياتها أن أثير التشكك فيها ما دمنا ، وما دام أجدادنا ، لم نر مدعاة للارتداد عن تصديقها ، إذ وهِبنا على الدوام ملوكا طيبين في السلم ، شجعان في الحرب ، حتى ليخال المرء أنهم وإن ولدوا ملوكا لم تُسوِّهم الطبيعة على غرار الآخرين ، وإنما إختارهم الله القدير قبل أن يولدوا لحكم هذه المملكة والحفاظ عليها . وحتى لو لم يكن الأمر كذلك لما أردت الخوض في الحديث عن صحة قصصنا ، ولا نقدها نقدا دقيقا ، حتى لا أفسد جمالا قد يتبارى فيه شعراؤنا أمثال رونسار وباييف وبلاي ، الذين لا أقول إنهم حسّنوا شعرنا ، بل خلقوه خلقا جديدا ، وبذا تقدموا بلغتنا تقدما يجعلني أجرؤ على الأمل في ألاّ تعود بعد ذلك لليونانية واللاتينية مزية عليهم سوى حق الأقدم . فلا شك في أني سوف أسيء الآن الى نظْمنا ، ولا أنكر أني أستخدم هذه الكلمة طواعية ، لأنه اذا كان من الحق أن البعض قد جعل من النظْم صنعة آلية ، فمن الحق أيضا أن هناك عددا كافيا من القادرين على إسترجاع نبله ومقامه الأول ، أقول إني أسيء الآن الى نظْمنا لو أني جرّدته من حكايات الملك كلوفيس الجميلة ، بعد أن رأيت بأيّ رشاقة وسهولة يسبح فيها وحي رونسار في فرنسوياته . إني أحس أثر الرجل في المستقبل ، إني أعرف توقّد فكره وأعلم لطفه ، لسوف يوفي الشعلة الذهبية حقها مثلما صنع الرومان بدروعهم ، دروع السماء الملقاة على أرضنا .
كما يقول فرجيل ، لسوف يرفق بقارورتنا الأثينيين بسلّة أريكتون ، ولسوف يجعل الناس تشيد بشعاراتنا مثلما شاد الأثينيون بغص الزيتون ، الذي لا زالوا يحفظونه في برج مينرفا . لهذا كنت أتجاوز الحد يقينا لو أني أردت تكذيب كتبنا وجريت في مراتع شعرائنا . ولكني لكي أعود الى موضوعي الذي لا أدري كيف أفلت مني خيطه ، ألحظ أن الطغاة كانوا يسعون دائما كيما يستتب سلطانهم ، الى تعويد الناس على أن يدينوا لهم لا بالطاعة والعبودية فحسب ، بل بالاخلاص كذلك . فكل ماذكرته حتى الآن عن الوسائل التي يصطنعها الطغاة ليعلّموا الناس كيف يخدمونهم طواعية إنما ينطبق على الكثرة الساذجة من الشعب .
إني أقترب الآن من نقطة هي التي يكمن فيها على ما أعتقد مفتاح السيادة وسرها ، وفيها أيضا يكمن أساس الطغيان وعماده . إن من يظن أن الرمّاحة والحرس وأبراج المراقبة تحمي الطغاة يخطيء في رأيي خطأ كبيرا . ففي يقيني أنهم يعمدون اليها مظهرا وإثارة للفزع لا إرتكازا عليها . فالقوّاسة تصد من لا حول لهم ولا قوة على إقتحام القصر ، ولكنها لا تصد المسلحين القادرين على بعض العزم .
ثم إن من السهل أن نتحقق أن أباطرة الرومان الذين حماهم قوّاسوهم يقلون عددا عمن قتل حراسهم ، فلا جموع الخيّالة ، ولا فرق المشاة ولا قوة الأسلحة ، تحمي الطغاة . الأمر يصعب على التصديق للوهلة الأولى ، ولكنه الحق عينه ، هم دوما أربعة أو خمسة يبقون الطاغية في مكانه ، أربعة أو خمسة يشدّون له البلد كله الى مقود العبودية ، في كل عهد كان ثمة أربعة أو خمسة تصيخ اليهم أذن الطاغية ، يتقرّبون منه أو يقرّبهم اليه ليكونوا شركاء جرائمه ، وخُلاّن ملذاته ، وقواد شهواته ، ومقاسميه فيما نهب . هؤلاء الستة يدرّبون رئيسهم على القسوة نحو المجتمع ، لا بشروره وحدها ، بل بشروره وشرورهم . هؤلاء الستة ينتفع في كنفهم ستمائة يفسدهم الستة مثلما أفسدوا الطاغية ، ثم هؤلاء الستمائة يذيلهم ستة آلاف تابع ، يوكلون اليهم مناصب الدولة ويهبونهم إما حكم الأقاليم ، وإما التصرّف في الأموال ، ليشرفوا على بخلهم وقساوتهم ، وليطيّحوهم بهم متى شاؤوا ، تاركين إيّاهم يرتكبون من السيئات ما لا يجعل لهم بقاء إلاّ في ظلّهم ، ولا بعدا عن طائلة القوانين وعقوباتها إلاّ عن طريقهم . ما أطول سلسلة الأتباع بعد ذلك ! .
إن من أراد التسلّي بأن يتقصّى هذه الشبكة وسعَهُ أن يرى لا ستة آلاف ، ولا مئة ألف ، بل أن يرى الملايين يربطهم بالطاغية هذا الحبل ، مثل جوبيتر ، إذ جعله هوميروس يتفاخر بأنه لو شد سلسلته لجذب اليه الآلهة جميعا . من هنا تضخّم مجلس الشيوخ في عهد يوليوس ، وجاء خلق المناصب الجديدة ، وفتح باب التعيينات والترقيات على مصراعيه ، كل هذا يقينا لا من أجل إصلاح العدالة ، بل أولا وأخيرا من أجل أن تزيد سواعد الطاغية . خلاصة القول إذن ، هي أن الطغاة تُجنى من ورائهم حظوات ، وتجنى مغانم ومكاسب ، فإذا بالذين ربحوا من الطغيان ، أو هكذا هُيِّىء اليهم ، يعدلون في النهاية من يؤثرون الحرية . فكما يقول الأطباء ؛ إن جسدنا لا يفسد جزء منه إلاّ إنِ آنجذبت أمزجته الى هذا الجزء الفاسد ، من دون غيره ، كذلك ما إن يعلن ملك عن إستبداده بالحكم إلاّ إلتفّ حوله كل أسقاط المملكة وحُثالاتها ، وما أعني بذلك حشد صغار اللصوص والموصومين الذين لا يملكون لبلد نفعا ، ولا ضرا ، بل أولئك الذين يدفعهم طموح حارق وبخل شديد ، يلتفون حوله ويعضدونه لينالوا نصيبهم من الغنيمة ، وليصيروا هم أنفسهم طغاة مصغّرين في ظل الطاغية الكبير ! .
هكذا الشأن بين كبار اللصوص ومشاهير القراصنة : فريق يستكشف البلد ، وفريق يلاحق المسافرين ، فريق يقف على مرْقَبة ، وفريق يختبيء ، فريق يقتل وفريق يسلب . ولكنهم وإن تعدّدت المراتب بينهم ، وكانوا بعض توابع وبعض رؤساء ، إلاّ أنه ما من أحد منهم إلاّ خرج بكسب ما ، إن لم يكن بالغنيمة كلها فيما إنتشل . ألا يحكي أن القراصنة الصقليين لم تبلغ فقط كثرة عددهم حدا لم يجعل بُدا من إرسال < بومبي > أعظم قواد العصر لمهاجمتهم ، بل هم فوق ذلك قد جرّوا الى التحالف معهم عددا كبيرا من المدن الجميلة ، والثغور العظيمة ، التي كانوا يلوذون بها بعد غزواتهم لقاء بعض الربح مكافأة على إخفاء أْسْلابهم !؟
هكذا يستعبد الطاغية رعاياه بعضهم ببعض ، يحرسه من كان أولى بهم الاحتراس منه لو كانوا يساوون شيئا ، وهكذا يصدق المثل : لا يفلأّ الخشب إلاّ مسمار من الخشب ذاته ، هاهو ذا يحيط به قوّاسته وحرّاسه وحاملو حرباته ، لا لأنهم لا يقاسون الأذى منه أحيانا ، بل لأن هؤلاء الضالّين الذين تخلّى الله عنهم ، وتخلّى عنهم الناس ، يستمرئون إحتمال الأذى حتى يردّوه لا الى من أنزله بهم ، بل الى من قاسوه مثلهم من دون أن يملكوا إلاّ الصبر . غير أني إذ أنظر الى هؤلاء الضالّين الذين يجْرون وراء كُرات الطاغية ، حتى يحققوا مآربهم من وراء طغيانه ، ومن وراء عبوادية الشعب على حد سواء يتملكني أحيانا كثيرة العجب لردائتهم ، وأرثي أحيانا لحماقتهم : فهل يعني القُرب من الطاغية ، في الحقيقة ، شيئا آخر سوى البعد عن الحرية وإحتضانها بالذراعين ، اذا جاز التعبير ؟ . ]
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat