العدالة الاجتماعية والمساواة القانونية الجزء الثامن
مير ئاكره يي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
مير ئاكره يي

[ بحث موجز في علم الاجتماع ]
مبدأ { من أين لك هذا !؟ } :
________________
إن هذا المبدأ الشرعي والقانوني هو بالأصل مقالة تاريخية معروفة أطلقها ونفّها زعيم حكومة الخلافة الراشدة ، الخليفة الثاني أمير المؤمنين الامام عمر بن الخطاب – رض – [ 634 – 644 ] ، وإنه تولّى أمر الخلافة الراشدية بعد موت الخليفة الأول أبو بكر الصديق – رض – [ 632 – 634 ] . وقد حكم عمر عشرة أعوام ونصف الى أت أُغتيل في مسجد رسول الله محمد [ ص ] خلال إمامته لصلاة الفجر من قبل شخص فارسي يُدعى [ أبو لؤلؤة . وكان أبو لؤلؤة هذا يعمل حدادا ونجارا لدى الصحابي المغيرة بن شعبة وغلاما له .
كما يبدو من السياقات التاريخية المتعددة والكثيرة ، وكما يبدو للقراءة المتمعّنة فيما بين سطورها فإن عمرا أغتيل – برأيي – في ظروف تلفها الشبهات ، وتكتنفها الغموض ، وتحيط بها الشكوك ، وهي أيضا مثار للعديد من الأسئلة وعلامات الاستفهام من كل جانب . على هذا الأساس فإن قضية الاغتيال هذه بحاجة الى بحث وتدقيق وتحقيق وإجابة على الأسئلة والشبهات والشكوك المحيطة بها ، لأنه كيف يعقل أن رجلا فارسيا يقيم غريبا ووحيدا ، مع عدد محدود جدا يُعدّون على رؤؤس الأصابع من الفرس المغمورين الغرباء الذين كانوا يعملون كخدم ، أو في بعض الحرف المهنية عند بعض من أثرياء الصحابة في المدينة المنورة مركز الخلافة والحكومة الاسلامية وعاصمتها بالجزيرة العربية ؛ أن يقدم لوحده على إغتيال رأس الحكومة وزعيمها وخليفتها وإمامها ! ! ؟
وبما إن هذا البحث أفردته كله حول قضية العدالة الاجتماعية والمساواة القانونية ، مع التحدث بطبيعة الحال عن خلافها من القضايا كالاستبداد الاجتماعي والسياسي والمفاسد الحكومية والادارية ، وما تلقي بأثراتها وتبعاتها سلبا وإيجابا على تطور المجتمع وإزدهاره وتقدمه ، أو تخلفه وإنحطاطه . لهذا لا أريد الخوض أكثر في هذه القضية التي هي في مهب الكثير من علامات الاستفهام والأسئلة والشكوك كما ذكرت قبل قليل ، حيث أحيلها الى وقت مؤات آخر ! .
وعودة الى بحثنا الأصلي فقد تجمع المصادر التاريخية للمسلمين على أن الخليفة الثاني الامام عمر بن الخطاب – رض – كان حاكما عادلا ، قائدا عملاقا ومحنكا ، زعيما أمينا ، رئيسا حازما وشجاعا ، إماما ورعا وتقيا ، وكان متواضعا وبسيطا وزاهدا في حكمه . وهكذا فإنه كان شديد الحرص على أمن الناس ومصالحهم وحقوقهم وكرامتهم على الصعد الدينية والدنيوية ، المادية والمعنوية ، لذا يضرب المثل بعدل الامام عمر وحكومته العادلة .
علاوة على ماورد فقد كان للامام عمر – رض – إجتهادات إبداعية جريئة ، في قضايا متعددة طرأت على المجتمع المسلم الأول يومذاك مثل ؛ تعطيله النص تجاه السارق في عام المجاعة ، وقطعه الفيء [ الفيء هو الأرزاق والمعونات ] عن المؤلفة قلوبهم مع وجود النصوص في الكتاب والسنة حولهما ، لكنه أقدم على تأويل النصوص القرآنية والحديثية بحسب المصالح والظروف الطارءة على مجتمعه ، وعلى حكومته آنذاك . لذا نشاهد إن نمط الحياة والحكم وتفسير الأحكام الشرعية في فترة حكومة الامام عمر لم يكن بالشكل الذي كان في عهد خليفة رسول الله أبي بكر الصديق – رض – وحكومته !
والى جانب ماورد فقد كان الامام عمر – رض – رحبا في تفكيره ، واسعا في نظراته وآرائه ، وإنه لم يكن مستبدا في حكمه ، بل إنه كان يطبِّق مبدأ الشورى المُلزمة . لهذا فإنه كان كثير المشورة والاستشارة بأهل الحل والعقد ، وبأهل النظر والخبرة رجالا ونساء . حتى إن الامام عمر أسس مجلسا للشورى لحكومته الراشدية . وقد كان مجلس الشورى يتألف من كبار الصحابة وأعيانهم ، وفي طليعتهم الصحابي العالم والحكيم الامام علي وعثمان بن عفان وعبدالله بن مسعود والزبير بن العوام وغيرهم رضوان الله تعالى عليهم .
وعليه فقد كان خلفاء وزعماء حكومة الخلافة الراشدة كلهم هكذا خلال فترة حكمهم التي آمتدت نحو ثلاثة عقود ، بإستثناء النصف الثاني من حكم الخليفة الثالث عثمان بن عفان – رض – [ 644 – 606 ] ، حيث حصلت فيه خروقات وسلبيات ومفاسد حكومية وإدارية أدّت بالنهاية هذه العوامل الى مصرع الخليفة عثمان وإستشهاده ، ومن ثم تصدّع الفكر الاسلامي وتشعّبه ، مع إنشطار الفقه السياسي الاسلامي والمجتمع المسلم وقتذاك بشكل عام ، ولأجل ذالك نعتت هذه الأحداث المأساوية حينها ب[ الفتنة الكبرى ] !! .
وهكذا فقد كان الامام عمر دقيقا وحازما ومتواضعا في آن واحد ، في حكمه ورئاسته . بالاضافة إنه كان واسع الصدر يتقبل النصح والنقد والاعتراض من أيّ شخص مهما كان حاله ، أو وضعه الاجتماعي ، أو جنسه ، وهو القائل في النقد : [ رحم الله آمرءا أهدى إليّ عيوبي ] . وكذلك فإنه كان خلال فترة حكمه كلها يتمتع بخصلة هامة وخاصية راقية أخرى أضاف بها الى خصاله الرفيعة وهي ؛ إنه لم يستغل الزعامة والرئاسة لجمع وكنز الملايين من الثروات ، أو لأغراض شخصية وعائلية وقبلية ، إذ إنه لم يوزّع المناصب والمسؤوليات أو الثروات على أبنائه أو أفراد عائلته قط . وبهذا نحن قلّما نجد هذه الخصلة الحميدة والخاصية العظيمة متجسّدة عمليا في الزعامات الحكومية والحزبية اليوم في الشرق المنكوب المبتلى ، وفي دول العالم الثالث عموما . إذ أضحت الرئاسة والمسؤولية في بلداننا – للأسى البالغ – وسيلة للثراء والمليونيرية ، إضافة الى الاستبداد والارعاب والاستعلاء والاستكبار والاحتكار والوراثية السياسية والرئاسية والظلم الاجتماعي !! .
ولأجل متابعة أحوال المسؤولين والولاة في جميع الولايات والبلدان والأمصار بصورة دقيقة وصحيحة فإن عمرا أسس جهازا ، أو مكتبا خاصا بهذا الشأن . واذا ما ثبت لديه بأن واليا من ولاته ، أو مسؤولا من المسؤولين في إحدى ولايات الحكومة الراشدة قد إستأثر بمنصبه ومسؤوليته ، أو إنه أساء إستخدامها ، أو أنه ظلم وبغى ، أو أنه إستغل المسؤولية المناطة به في جمع الثروات ونهبها وكنزها فإنه كان لايغض البصر عنه مهما كان وزنه ووضعه الاجتماعي وحسب ، بل إنه كان يحاسبه ويعزله عن المسؤولية ، وللمثال إنه [ جاء رجل من مصر الى عمر بن الخطاب متظلّما فقال يا أمير المؤمنين ؛ هذا مكان العائذ بك . قال له ؛ عُذتَ بمعاذ ، ما شأنك . قال ؛ سابقت ولد عمرو بن العاص بمصر فسبقته فجعل يُعنِّنفني بسوطه ويقول ؛ أنا إبن الأكرمين ، وبلغ أباه ذلك فحبسني خشية أن أقدم عليك ، فكتب الى عمرو ؛ اذا أتاك كتابي هذا فآشهد الموسم أنت وإبنك .
فلما قدم عمرو وإبنه دفع الُدرة [ أي العصا ] الى المصري وقال ؛ إضربه كما ضربك ، فجعل يضربه وعمر يقول ؛ إضرب إبن الأمير ، إضرب الأمير ، يردّدها ، حتى قال يا أمير المؤمنين ؛ قد إستقدت منه ، فقال وأشار الى عمرو ؛ ضعها على صلعته ، فقال المصري ؛ يا أمير المؤمنين إنما أضرب من ضربني ، فقال ؛ إنما ضربك بقوة أبيه وسلطانه فآضربه إن شئت ، فوالله لو فعلت مامنعك أحد منه ، حتى تكون أنت الذي تتبرع بالكفّ عنه ، ثم قال ؛ يا إبن العاص متى تعبّدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا !؟ . وفي رواية ثانية قال عمر لبن العاص ؛ متى إستعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا . ] !؟ ( 23 )
علاوة فقد كان الامام عمر – رض – حين تعيين المسؤولين كان يُحصي أموالهم ويحقق فيها قبل مباشرتهم بالمسؤولية ، مع إشتراطه عليهم شروطا جمّة بشهود جماعة من الناس ، منها ؛ عدم الاعتداء والظلم بأفراد المجتمع من النواحي الجسدية والمالية وغيرها ، وعدم إستغلال المنصب لجمع ونهب الثروات له ولعائلته وأقربائه وحاشيته ! .
وعلى ضوء هذه السياسة الحكيمة والأمينة والعادلة فإن عمرا إن علم بأن أحدا من المسؤولين قد خرق موازين العدل ، أو نكث بالشروط والعهود ، أو إستغل منصبه لمآرب ذاتية فإنه كان لايساوم قط على العدالة ، وعلى حقوق الناس ومصالحهم ، وللمثال ؛ إن الامام عمر صادر أموال أبي هريرة الذي كان واليه على البحرين حينما علم وتوثّق لديه إنه بعد فترة من ولايته على البحرين قد بلغ حدا كبيرا من الثراء . لذلك إستدعى الامام عمر أبي هريرة وقال له ؛ [ ألا تعلم أني إستعملتك على البحرين وأنت حاف لا نعل في رجليك ] !!! . وبعدها صادر عمر أموال أبو هريرة وعزله من جميع المسؤوليات ! .
بالاضافة فقد صادر الامام عمر ثروات العديد من ولاته ومسؤوليه التي كسبوها وجمعوها خلال تصدّيهم لمسؤوليات إدارية وحكومية . ومن المسؤولين الذين صادر عمر أموالهم وثرواتهم أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص والحارث بن وهب وأبي هريرة كما ذكرنا قبل قليل ، وللأسباب المذكورة آنفا . وهكذا فقد كان عمر يحقق معهم ويحاكمهم ، ويوجه لكل واحد منهم هذه الخطاب ؛ [ من أين لك هذا !؟ ] ، أي من أين جئت بالأموال ، وكيف جمعت هذه الثروات وأنت قبل المسؤولية لم تكن تملكها !!؟ ، فكان المسؤول يجيب بأنه قد جمعها عن طريق التجارة ، لكن عمر كان يرفض هذا التعليل بشدة فيرد عليه بسرعة ؛[ والله ما بعثناك للتجارة ] ! ، وبعدها كان يصادر أموالهم التي جمعوها بطرق غير مشروعة . ( 24 ) .
إن الفقه السياسي الاسلامي قائم على الاجتهاد والتجديد والابداع والعدل والمساواة والتصويت والشورى الملزمة ، مع مراعاة الزمان وتطوراته ومقتضياته ومتغيراته . على هذا الأساس فالاسلام يرفض السلطة الدينية المطلقة والاستبداد والدكتاتورية والظلم الاجتماعي . ومن يقول بغير ذلك فهو يريد عودة حكم يزيد بن معاوية ومروان بن الحكم وإبنه عبدالملك وحفيده الوليد وواليهم الحجاج وغيرهم من حكام القهر والظلم والفساد والاستبداد والدموية . إن الاسلام لم يجعل الحكم والحكومة في عداد الأركان والأصول والثوابت غير القابلة للاجتهاد والتغيير كأركان الاسلام والايمان ، لأن الحكم والحكومة والسياسة غير ثابتة ، وإنها تخضع لعوامل التطور والتغير والتجديد والاضافة بحسب الأزمان والبيئات والتطورات التي تترى عليها ! .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat