وا مانديلاه يا عراق؟!!
د . صادق السامرائي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
جميعنا يذكر نظام الحكم العنصري في جنوب أفريقيا والذي امتد لعقود متلاحقة, دفعت ثمنه باهظا الأكثرية من أهل البلاد.
حيث السجن والقتل والعناء الشديد ومصادرة الأراضي وقمع الحريات.
وقد تصدى لذلك النظام رجل نعرفه جيدا مع عدد من رفاقه إسمه "نلسن مانديلا".
ولد الرجل في عام 1918 وهو يحمل درجة البكالوريوس بالقانون إضافة إلى العديد من الشهادات الفخرية من جامعات العالم المختلفة.
وقد بدأ مانديلا في المعارضة السياسية لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا , الذي كان يصادر الحقوق السياسية والإجتماعية والإقتصادية للأغلبية.
وفي عام 1942 إنضم إلى المجلس الأفريقي القومي الذي يدافع عن حقوق الأغلبية.
وأصبح مانديلا قائدا لحملات المعارضة والمقاومة لسياسات الفصل العنصري.
وكان يدعو للمقاومة الغير مسلحة في البداية , ولكنه بعد إطلاق النار على المتظاهرين عام 1960 فتح مع رفاقه بوابة المقاومة المسلحة.
وقد أصبح رئيسا للجناح العسكري للمجلس الأفريقي القومي.
وفي عام 1962 حكم عليه بالسجن لخمسة سنوات ومن ثم مدى الحياة.
وخلال سنوات سجنه الستة والعشرين عاش مناضلا حيا في قلوب أبناء بلده , يبث فيهم القوة على المقاومة والكفاح , وكانت مقولته المشهورة عام 1980 "إتحدوا وجهزوا وحاربوا, إذ ما بين سندان التحرك الشعبي ومطرقة المقاومة المسلحة سنسحق الفصل العنصري".
وبقي مانديلا في السجن لغاية 11\2\1990 حيث أطلق سراحه بأمر من رئيس الجمهورية فريدريك كلارك والذي نال جائزة نوبل للسلام معه عام1993.
شغل مانديلا منصب رئاسة المجلس الأفريقي من 1997-1991وأصبح أول رئيس جمهورية أسود لجنوب أفريقيا من1999-1994 وأعلن تقاعده عام 1999 ومضى في تحركه للمطالبة بحقوق الإنسان في العالم.
هذا القائد الذي عانى من نظام الفصل العنصري وأمضى شبابه في السجون والحرمان من أجل أهدافه النبيلة , عندما خرج مزهوا بنصره وقطف ثمار نضاله الصعب , لم يفتح السجون ليرمي بها مَن أذاقوه وشعبه الأمرين , ولم ينتقم ولم يقرر أن يمارس ذات السياسة , التي إستخدمها النظام ضده وأغلبية أبناء شعبه.
بل أنه عفا وغفر لكنه ما نسيَ ما عاناه , ومضى نبراسا للخير والمحبة والعمل من أجل السلام والوئام بين أبناء البشر في الوطن الواحد وفي الأرض كافة.
فتغيرت جنوب أفريقيا وراحت تحث الخطى نحو التعليم والتطور والبناء والتقدم , بعيدا عن الأحقاد والجراحات والمآسي وسفك الدماء.
وما بقي في الحكم طويلا بل قرر أن يفسح المجال للآخرين لكي يساهموا في بناء البلاد, فما كان الكرسي يعني شيئا عنده , بل الذي يعنيه الوفاء للمبادئ التي نذر حياته من أجلها , والسعادة التي غمرته وهو يرى ما كان حلما يتحقق واقعا حيا في بلاده.
فإكتسب تقدير العالم وإعجابه بما قام به وأقدم عليه , من أمثلة إنسانية راقية ومؤثر في حياة الشعب , فصار مثالا يحتذى به في دروب الخير والمحبة وإستتباب الأمن , وتحقيق الأخوة بين أبناء الشعب الواحد والشعوب المتطلعة للخير والسلام.
ترى هل نحن بحاجة إلى روحية مانديلا وقدوته؟
إن البلاد الطامحة للقوة والرقاء والألفة, بحاجة لرجل يحمل هذه الروح الإنسانية الصادقة , والقلب الرحيم والقدرة على الإيمان بالمبادئ الكبيرة , وإستصغار الكرسي وإحتقاره , وعدم الجلوس عليه فترة أطول مما يجب الجلوس.
إلى قائد يضع الوطن في قلبه وروحه وعقله وضميره , ويسعى لإسعاد أبنائه وتخفيف معاناتهم وفتح بوابات المستقبل مشرعة أمامهم لكي يتقدموا ويزهو الوطن بهم.
ويحارب الفقر والجوع والجهل والمرض, فينعم الناس بالحياة الحرة الكريمة الآمنة , التي تتوفر فيها لقمة العيش بسهولة مع متطلبات الحياة اليومية الرغيدة , ويشعرون بأن هناك قانون للضمان الإجتماعي يكفل الحفاظ على كرامتهم .
إلى مَن لا يعرف مفردة تعلو على إسم الوطن , ولا يرغب إلا بوطنه وبشعبٍ موحد متلاحم متفاعل ومتحاب "كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
إلى قائد يعشق بلاده بجميع أطيافه , ويكون دينه ومذهبه وعقيدته الوطن والمواطن.
قائد بحجم الوطن , يرفض كل مفردة دخيلة تسعى لبث التفرقة وبذر الأحقاد والكراهية بين أبناء الشعب الواحد , ويدعو لغسل القلوب بقطر الصفاء والمحبة والإخاء , ويأسو الجراح بالرحمة والرأفة والحنان , ويقدر فيعفو , ولكنه لا ينسى لكي يعتبر ويحفظ البلاد من تكرار الشرور وتحقق الأوجاع والظلم والإضطهاد.
إن النسيان لا يفيد بل العفو هو المفيد , فالماضي عليه أن يبقى حيا أمامنا بدروسه وعبره المستخلصة منه , لكي لا نكرره ولا نسقط في ويلاته.
إن مصيبة الحياة عندنا في نسيان الماضي وعدم إستخلاص العِبر والدروس منه , أو إستخدامه بأسلوب منحرف لتوريث المزيد من الويلات والصراعات المؤذية ولتبرير الأزمات.
فلماذا لا نتعلم من تجربة القائد مانديلا ونحقق الحياة الأفضل لأبناء شعبنا بلا إستثناء؟
فهل قرأنا تجارب الشعوب؟
وهل أدركنا أن لا أحد يعلو على هامة الوطن؟
وهل قرأنا:
"خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين" الأعراف 199
"فاصفح الصفح الجميل" الحجر 85
"كتب ربكم على نفسه الرحمة" الأنعام 54
"من أتاه أخوه متنقلا(معتذرا) فليقبل ذلك محقا كان أم مبطلا" حديث نبوي
"إن رحمتي غلبت غضبي" حديث قدسي
"أعقل الناس أعذرهم للناس" الإمام علي (ع)
"أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة" الإمام علي (ع)
"إحصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك" الإمام علي (ع)
ترى كيف نقرأ هذه الآيات والأحاديث والأقوال؟!
هل نقرأها بصدق أم نحوّلها إلى مسوغات ومبررات , لقتل الصدق وتحقيق الظلم والإضطهاد , وزرع الأحقاد وتدمير البلاد وقهر العباد؟!
أللهم إرزقنا بمانديلا لكي تتوحد كلمتنا وتتفتح عقولنا , ونكون عونا لبعضنا ونبراسا للخير والبناء والتقدم , والتكاتف والتلاحم على طريق الخير والسؤدد.
أللهم طهّر قلوبنا من الشرور , وأغدق علينا الرحمة وإجعلنا أهلا للعفو والمغفرة , والإيمان بتحقيق الحياة الأفضل للناس كافة يا أرحم الراحمين.
أللهم إمنحنا السكينة والأمن والأمان ووحد قلوبنا وخلصها من أمّارات السوء التي فيها.
ألا بذكر الله تتوحد القلوب وتتطهر النفوس وتتجلى الأخوة والمودة والمحبة والنقاء.
"لا تظلمن إذا كنت مقتدرا فالظلم مرتعه يفضي إلى الندم
تنام عينك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم "
*هذه المقالة منشورة قبل أكثر من ثمانية سنوات ويبدو أنها لا تزال وكأنها لم تُنشر!!