الثنوية الفكرية في أشعار غني العمار ( من مجموعته الشعرية للحديث بقية )
د . رحيم الغرباوي

 يبدو أنَّ الشعر انتزاع للبواطن الماكثة في عوالم  لاوعي الإنسان  الذي دأب يجمع ما في خطاه عبر صراعه الطويل من أجل العيش في بحبوحة الأمل , لكنَّ أغلب ذلك الجهد الذي مرَّ عبر الأجيال , لم يورق له سوى آلآم وحسرات وإحباطات ظلت عالقة في  ذاكـرتة  الجـمعية , فصارت هذه  التراكمــات رافداً معطـاءً ,ينهـل مـنه  الحادسون  والمستبصرون ,  وهم يهبطون  الى عوالم  اكتشفتها حدوسهم من خلال توقهــم اليها ؛ لتشيع لهم فكراً ومعنىً  , فهي شبكة مـن الـرؤى التي منحت  الانبياء  والفلاسـفة والمتصوفين , وكذلك الشعراء  أسرار وخفايا العوالم السرية الماكثة في دواخل الوجود الانساني .

        وغني العمار من شعراء واسط الذي نافح  مهمَّة الشعر تلك الرسالة ذات الزمن الوجودي الخالد , إذ ارتأى أن يبث من خلاله شكوى ضمير الإنسان لمن يعيش إنسانيته  وكانت وسيلته في ذلك  دمع والدته وانتظارها لإبنها الذي لن يعود كما نستشعرها في أشعاره , فضلا عن ذلك حنينه الى  مُلك والده الممثَّل بتراثه القيَمي الخالد  , فقد أنار لنا في مجموعته الشعرية ( للحديث بقية ) جوانب مهمة  من أعماق اللاشعور الباطن من عويل وصراخ تؤجج جذوته وتلهبها ثنـوية التفكير الانساني الـذي  يعيش من خلالها الصراع الحتمي عبر التاريخ البشري , والذي يمكن تفسيره : من أنَّ " الذات هي الحقيقة , وأنَّ غير الذات ، هي المظهر, وقد نقول أيضا : أنَّ الحقيقة  , هي الجوهر , وأنَّ المظهر هو العرض , ... والظواهر تدل على البواطن . فالطبيعة الباطنية الحقيقية التي  تكشف عن نفسها بالظواهر الخارجية  , هي طبيعة ليس لها عمق ولا أصالة , وكذلك الظواهر الخارجية  التي لاتكون صادرة من طبيعة باطنية حقيقية لاتخرج عن كونها انتفاضات هوجاء لاوازع لها " ومن خلال استقراء أشعار العمار فقد لمسناها نابعة من جذوة عوالم المأساوي تلك التي جللتها قدسية الأم ووشائج رابطة  الأخوَّة بعدما تجلل أحد طرفيها بالدماء التي غالتها سكاكين رعاة العبودية , والشاعر لايمكنه الغوص ليتمكن من استلال لآلئ الرؤى من مكنوناتها ما لم  يعنه   صدق التجربة التي ينظم من خلالها قصائده مُظهراً فيها نزيف الأمة, أمَّا من يتكلَّف المعاناة الشعرية ,  ليس بمقدوره أن يكشف لقارئه أية حقيقة من حقائق تجارب الأمم الغاطسة في أعماق اللاشعور والمودعة لدى الشاعر نفسه .

 

 

      وقد استطاع   شاعرنا أن يفتح نافذة للرؤيا,  وهو يطل على عالمه (الجواني) عبر عدسة حدوسه   ؛  ليرسم شفرات لنصوصه تعين القارئ  من خلال بعض الرموز المألوفة ومنها الشخصية والانسانية  , مما فتح مجالات أكثر اتساعاً لتشخيص معاناته وإدراك سر التجاوب المنعقد بين رؤياه وإحساسه , إذ حقق الشاعر عبر تجاربه الذاتية ما كان يأمله , وما ينتظره بالمقابل من أسىً ولوعة , وهو يخالج معاناة أمِّه التي ظلت لسنين طويلـــة , وهي بانتظار الغائب الذي لايعود , لذا نجده طيلــة مجموعته الشعريـــة يعيش في وهج المتناقضــات , فإذا حلَّ أحدهمــا تعــذر حضور الآخر , فالظلام ليس له محل في عالم الضياء , والقبيح لايكون جميلاً , والمتضادات في صراع دائب كما هو الحال لدى هيجل وماركس في الجدلية المادية في الصراع  بين ما هو إنساني ولا إنساني ...  فالانسـان  مجبول بحكم الطبيعة إن يفكر عن طريق التضاد والمفارقة " لأنَّه يرى نفسه كما لو أنَّه محور هذا التناقض ,ويرى أنَّ العالم حوله كما لو أنَّه مجموعة من الاشياء والقوى التي لاتنفك عن عدوانهـا عليه  ، فهـو والعـالم شيئـان   متناقضـان  "وهذا التناقـض المتلبِّـد في الانسان مردُّه الى حقيـقة  واحـدة  تجمعهمـا أُطلـق  عليهـا ( اللوجوس ) الذي يضمن  الاتـزان النهائي , لكنهـا تظهـر  في الانسان كصور من الأضداد , إذ يطالعنا الشاعر غني العمار في قصيدته  ( تأخرت أيها المطر) ,  إذ نجد وسيلته في إيصـال معانيه  من خلـال استعمـال الاضـداد التي شاعت   في معـظم مجموعته فشكَّلت لدية ظاهرة أسـلوبية  , تمتعت بها نصـوصه الشـعرية ,  فهو يقول :

       للبكاءِ لغةُ الجفنِ

  ولي كلُّ هذي الدموع

     هل أتفيأ ظلَّك وظلُّك سكين

    سأجرح قلبي الذي انتظرك

      ..............

    التي رحلت مفتَّحة العينين

     بانتظار لا أحد

     لا أحد .....

     فهو يرسم بالكلمات صراع الأضداد ,   فنجد أنَّ الـظلَّ الذي ألفنـاه موطنـاً للراحة والاطمئنـان والأمـان من حرارة الشمس , فإذا به سكين  جارح  ,  لكنَّ الجامع بين النقيضين ,هو ذلك القلب الذي يبحث عن ظلٍّ فإذا بالسكين !... أما مَن هي كانت مفتحة العينين , ويعني بها والدته التي  تترقب ولدها المنتَظر  فلم يعد اليها طيلة مضي ظلٍّ وظلّ ,  حتى تحول هذا الظل الى نار لاهبةٍ رمضاء   تقطع القلب ,و قد مظهَرَ الشاعر تلك النار على هيأة سكين , كونهما صادرين من نفس الجوهر  , فلغة المفارقة والتضاد كما يرى ( كلينث  بروكس) " هي لـغة المواربة , وهي قـاسـية بـارعة وطريـفة , وكلـمـا توافرت لـغة  الشعـر على هـذه الخـصـائص استطاعت أن تعبِّـر بدينـاميكية عن تناقضـات الحالة الواحدة وتـستدعي غناهـا الداخلي، وتقدمها بنسق متماسك , لكنَّه ممتلئ ومتشعب الدلالات " لذلك أراد العمار من خلال هذه اللغة أن يرسل رسالته : من أنَّ الكثير من الامهات لم يرينَ أبناءهن بفعل القسوة المميتة ضدَّ كلِّ صوت من أصواتهم قد نشدَ الحرية في زمن عزًّت فيه الحرية من أن تعطي ثمارها , وبابها مدجج بالقضبان وفتك السلاح .

         إنَّ ظاهرة التضاد شكَّلت مساحة واسعة في أشعار العمار, إذ نلمسها واضحة  

     في قصيدة ( تاريخ ليس للطغاة ), فقد استعمل  الشاعر ألفاظه  المتضادة( اهبط –

     أعلاها , أول – آخر , العسلان – الغزلان ) , فالهبوط  يمثل في القصيدة العزلة

    والانزواء  والنزول الى أدنى المراتب , كذلك  الانسلاخ من تحمُّل المسؤولية  بعيداً عن

    المجتمع، بينما العلو فموفور بالرفعة والسمو, وقيادة  الناس والاحساس بفاعلية الذات

    وفي رقيـِّهـا من بين البرايـا , أمـا الأول  والآخر ,  فالأول هنـا يرمز للبـداية والطفـولة

    والبكارة , بينمـا الآخر, فيمثل  نهـاية  المطاف , والحضارات دائماً تبدأ كالطفـل ثم  

    تصير  فتية , وآخرها تهزل , ثم تموت , بينما العسلان ( الحيوانات  الجارحة

    والكواسر), فهي  نقيض الغزلان تلك التي تتمتع بالدعة والرقة والجمال . فالعمار

    استطاع أن يقارن بين رموز الحضارة , وأضدادها من رموز التخلف والهمجية

    والعدوانية  , والأم هي  المركز الذي يدور حوله القطبان المتناقضان , إذ يتوحد فيها

    البناء والهدم ، في قوله :

ألهمني القهرُ

أعطاني النهرُ

أرضعني الشعرُ

            وصرَّح إهبط من أعلاها ...

    وهل الشاعر الملهَم بالقهر , والرافد من النهر , والراضع من الشعر عليه أن يهبط من أعلى قمة , وهو ينظر الى أسفل دائماً بفعل الامتلاء كالشجر المثمر , ومثل هبوط آدم من جنته العليَّة , ليحيي الأرض بالحياة ؟, فقد يرى الشاعر أنَّ عالم الشعري , هوعالم ُ تميُّز بحدِّ ذاته ,وأنَّ سكانه , هم ليسوا أرضيين برؤاهم بل من سكان عالم الشعرى , وهذا العالم حسب رؤية الدكتور خزعل الماجدي الذي يرى " أنَّ الهدف الرئيس من الشعر ,هو الكشف عن أعلى مراتب اللوغوس الذي هو المطلق ، إنَّه انطلاق  خارج الانسان  نحو العقل الأول وإذا افترضنا أنَّ الانسان هو العقل الثاني , فسيكون عند ذاك تدرجاً في النوع لاخروجاً عليه ". لذا فالشعر, هو كتابة في المطلق فالهبوط الى عالم الأرض هو هبوط لعالم الآثام التي نزفت فيه غلالتها .

أما قوله :

أنا أول فأسٍ حفرت

وآخر من صيَّره كلكامش

شجراً للأفعى

     فالفـأس رمز للبنـاء  , ويعني بالبنـاء هنـا بنـاء الحضـارة العريـقة في بلاد وادي الرافدين , لكنَّ المصير يؤول بهذا الباني الى لقمة سائغة للأفعى  منوِّهاً الى أُسطورة كلكامش  عندما أكلت الأفعى عشب الخلود , فالشاعر أراد أن يعبِّر عمَّا في ذاته بلغةٍ تنسجم ومايعتمله من حزن وأسى  ؛ لضياع الإلفة والجمال والتطلع  الذي كانت تزخر به حياة أسرته ,كما هي الحضارة وهي ترفل بالعز والمجد والتطلع نحو ذرى المستقبل .

بينما قوله :

          أنا أوَّل من رفعتهُ العسلان

         فصارَ  يرى

         ما ليس تراه الغزلان

   فمَن رفَعَتْهُ العسلان يمثل رمزاً للقسوة المفرطة التي حلَّت به ,والتي تلَجلجَ أثرُها في أعماقه ,  فتبدَّل سلـوكه  حتى صـار يــرى مـا لاتـراه  الغـزلان تلك التي تمثـل الـدعة والشفافية , إذ استبُدِلت الى روح  الكواسر  والجوارح .

   والذي يراه التحليل:  أنَّ القصيدة عبَّرت عما يعتمل الشاعر من حنق ضد قسوة الأنظـمة السيـاسية الضاغطة على الشعـوب, رامزاً لذلك بألـفـاظ منهـا :   الجلَّاد , الأفعى , الأصفاد , الدود , السبَّابين ، الحرب المتمثلة بالترباس ,القصعة , العسلان , دمع الأم ، حرس السلطان ، يزيد , عبيد الله بن زياد , واقعة الحرة , دمع رقية , جيوش أمية .

    فهو يشكو الظلم الذي أطاح بالشعب العراقي  ,ولاسيما طالبي الحرية ودعاتها , فلم يبق زقاق الَّا وتعاورته أشباح الأصفاد , لذا فالالفاظ التي أوردها الشاعر تمثل القهر والقسوة  والاضطهاد ،بينمـا ينبض وجدان الشـاعر بالـدعـوة الى الحـرية وعـودة  المبعدين حينما تزال الغمة , فيعمُّ  الخير  والرخاء,والعيش لحياة حرة كريمة  .

   ولمَّا كانت اللغةُ نظاماً للعلامات " فإنَّها بالضرورة  نظامٌ يعيد تقديم العالم بشكل رمزي , إنَّها وسيط من خلاله يتحول  العالم المادي  والأفكار الذهنية الى رموز , والنصوص اللغوية ليست الَّا طرائق لتمثيل الواقع و الكشف عنه بفعالية خاصة " والشاعر غني العمار تعامل مع لغته , وهو يقدم عالمه الداخلي بشكل رمزي ,فنراه يلوُّح من بعيد بأصدائه , وقد شكَّلت ثنائياته تراسلاً يربط بعضه ببعض ,  ففي قصيدته ( يد في الماء ) نراه يطلب الثأر من قاتليه , فهو يقول :

  كيف تريدني

  أن أتجرد من دريئةٍ  علقتها أمي

  وهي تمرِّرني

  من تحت  بندقيةِ شرطي؟

  كيف تريدني أن أترك قاتلي ؟

  وهو يحدِّقُ بوجهي

  من صحن حسائي ؟

  وكلّ يوم

  كلّ يوم

  الليمون أفطر في جسدي

  وتفرَّع عوسجاً

  وصلاتي ذبح ركعاتها آذان

  ومنائري

 تعدَّدت بجلبابها

  ووئدت صوتها

  وكنائسي كوجاغِ أبي

  قُدَّاسها جمرٌ

 وشظايا مسيحٍ مغدور

    فالشاعر يلهج بالمقدس ؛ كونه يثأر لحقه المغتصب ,وهو متسلح بوسائل المجابهة رامزاً لذلك ببندقية الشرطي ,داعياً الى الثأر( كيف تريدني أن أترك قاتلي ؟ ) بيد أنَّ قاتله يحدِّق في وجهه كل يوم , حتى منحه الليمون القوَّة ,فتفرع الى عوسج ,   مومئاً الى هدفه المقدس بـ ( الصلاة , المنائر ، الكنائس .وجاغ أبيه الذي يمثِّل العزة والأنفة ممزوجاً بالجمر والشظايا, لتأخذ بثارات المسيح المغدور,  إشارة الى السيد المسيح ( ع ) حينما غدر به اليهود , كما غُدِر بأخيه , أما إشارته لقبَّة سيد الشهداء (عليه السلام) , فهو نبع عظيم من  ينبوع المقدس , و الوَرد الذي تفتَّح في حضرة الكفين المقطوعتين انتصرتا بفيض عبقهما , حتى صارتا متوهجتين بعبير الجمال السادر في دروب الخير الذي أشار اليه بالفرات . فهو يقول :

    أصابعي

   التي كوَّرتُها تحت قبة

   (سيد الشهداء )

   تفتَّحت ورداً

   في حضرة كفين مقطوعتين

   نبتتا خمائلاً

   في دربٍ حياؤه الفرات .

    مستلهماً العزيمة من صوت الحق , الذي ينسج غاياته من أسباب المقدس , كما استلهم الشاعر عزيمته وقوته من ماضي أسرته التي رمز لها بأبيه ,  فهو يقول :

     وتعب أبي

      وهو يقضي القيلولة

     فوق حصير الخوص

      كنتُ أرى نخلاً

     فوق عموده الفقري

     نخلا بلا عثوق

     تمرا بلا نواة

     عراجينا

     كخطوطنا المجهولة

    أعرف أنك تألمت كثيراً

    وترجَّلت  أكثر 

    بيد أنَّ الدروب

    ظلَّت شجراً للدفلى

    وأعرفُ أنَّك تقلَّبت كثيراً – والدي –

    في قبرِكَ

    واسودتْ يداك من الكدح

    لكنَّها ابيضَّتْ

   وستبيضُّ أمام الله

     فالشاعر طرَّز صرخته بوجه من اغتال سعادة أسرته بكفاح والده الذي ظلت يداه مبيضَّةً في عطائها الروحي , لذلك يراها مبيضَّةً أمام بارئها , نجده يؤكد على مبادئه التي لم تلوثها أيَّةِ رذيلة , وهو الذي رضع من ثدي زكي , بينما يداه قد عريت من كلِّ ما هو مدنس  , إذ يقول :

  يدي التي أتمَّت عريّها

  إلَّا من الصدق

  وحفظ المال

 وبنت الجيران

    ثم يقارن بين منزلته ومنزلة أخيه أمام الله سبحانه ,فوجد أنَّ يديه قد اسودَّت أزاء ما قام به أخوه من تضحية جليلة ,وضعته في مصاف الشهداء والصديقين لِعِظَم الموقف كما يرى الشاعر , فيقول :

 يدي التي اسودَّتْ أمام الله

 وهي توجز روح الفراهيدي

 وبدر السياب

 ليست كيديك

 ويداي في جمر الفلوات

 يداك في عسل حمورابي

 ويداي بفم أفعى كلكامش

    فهو يعيش مع السياب الذي تحمَّل الويلات  من الاضطهاد السياسي والصحي  , بينما الفراهيدي العالِم ,هو من وضع قواعد الشعر الذي يرى الشاعر أنَّه لايستطيع العيش من دون معاضلته  , بينمـا الفـلوات العربية , هي بحـق مجمرةٌ  برمضائها و صعاليكها الذين ما انفكوا قطاعاً لطريق العابرين  , أما  أفعى كلكامش التي كررها الشاعر إشارة منه الى  انعدام المستقبل  وإيقاف عجلة الطموحات والتطلعات  نحو غدٍ مشرقٍ في عصر اضطُهد فيه صوت الحق والدعوة الى الحرية , وهو يخاطب أخاه الذي   هو أعلى منه منزلة , وهو السائر ٍعلى وفق القوانين العادلة التي رمز لها بحمورابي .

  ثم يقول :

   وبما أنًّ الأيام التي عجنتك

   ألقت بي خبزاً

   في تنورها

   رحلَ من رحل

   وظلَّ العكَّاز يشير

   إلى أصابعي

   فالخبز هو النتاج النافع , بينما العكاز يومئ الى استمرار المسيرة المتمناة , و لكن الشاعر يفاجئنا بقوله :

     يا وطن الخيبات

    لماذا رُميتْ بئري

    في الظلمات

    وشربت من كأسي فارهةً

    فارغةً ؟

    سأطلق عصفوري

    وأغنِّي

    أغنِّي للوطن الحر

    بلا أسوارٍ آمنةٍ

    أغنِّي للشعب

    المتلمّض قيد البئر

    أغنِّي للجوع أبي الكفار

    وسأكفر بالبئر

    فقميصي بلَّله دمعُ  الفقراء

     فهو لم  ير الا أن تُرمى بئره في الظلمات , كناية عن الاضطهاد الذي لحقه , فهو يمازج بين بئره المظلم وبئر يوسف الذي أُلقيَ فيه  ,أما قميص يوسف الذي ألقي على وجه يعقوب (ع) هو ذلك القميص الذي يتطلع إليه الفقراء ؛ليروا من خلاله نور الحرية لكن كيف سيتحقق ذلك وهو من يمثل اولئك الفقراء و لم يشرب الَّا من كأس فارهة بيد أنَّها فارغة ؟؛ لأنَّ  المسيرة  استُبدلت بطريق  غير الطريـق الذي سـار عليه أخوه , وهكـذا هي  الثـورات لا تصبـو الى طامحيهـا ؛ كونهـا تُستبَدل بالتي هي على  وفـق  المتغيـرات  , فتطيح بأهليها فيرعى  بريقها   من تسلَّق  اكتاف صانعيها من المناضلين , إشارة الى الانتهازيين سراق الثورات ؛ مما جُعلت الشعارات والطموحات تفرغ من محتواها , بينما طموحاتة وهي ذاتها طموحات ابناء شعبه ذهبت هباءً منثوراً . فهو يقول:

           فلماذا يسميني البعض أرض سواد

           لاسواد

          سوى سواد الثوب      

    وكبرياء الدمع بعيني

 واصبح أنا ابن القباب

 أنا ابن التراب

 أنا ابن الذئاب

 أنا ابن الجذوةِ

والجذوةُ صارت حطباً

 ولأنَّ الذئب بيده مسدس البقاء

 أحرقنا صندوق الفرح

 وطحننا البحر

 وإنْ عدنا

 فقواربنا قطع

 مرافئنا وجع

 نوارسنا

 قتلتها أرتال الغزو

 ونصيح كطارق

 والبحر من ورائنا

وغُلَّ ضمائرنا أغلال .

 

     فالشاعر يعيش الفوضى الضاربة ،كما هي الفوضى في بلاده بعدماخيم غبار الاحتلال  على صفائها ,  لا كما تمنَّاه الشعب الطامح  لحياة فضلى على الرغم من التضحيات , فأمور البلاد آلتْ الى غير الذين ضحوا وشارفت اعناقهم براثن الموت اولئك هم أصحاب المسيرة الحقة , فقد هيمن الإحباط على ساحة  وطنه فلم يجن ِابناء الشعب سوى الأتعاب وشقاء الروح , لقد كانت حياته في الماضي مع أحبابه ,وهم يصارعون الظلم انذاك   فكانت  نشوتـه المقـدسة ، بينمـا الآن ، وهو يفتقـر الى ذلـك الإحسـاس  بل يعيش في وجع الاحباطات ,لهي أقسى حالة يعيش بها , محبذاً الرجوع الى ذاكرته ؛كونها تمثل (يوتوبيا )  أحلامه , فهو يقول :

  يا الله

كرة النارنج

تعكًّزتُ عليها

في دربٍ

لا شجرَ  فيه

ونزوتُ

رحلتُ

بليلٍ

لابيع فيه

لا مأوى للأيتام

يا الله

أما آن لهذا الواقف

أن يغفو

فوق وسادة نخلك

أما ازددت يقيناً

فيداك الى الماء

قوارب

ويداي أفاعٍ تتبدَّلْ

 

  فكل الذي كان يأمله الشاعر من التغيير ,وكل آمال الجياع والمحرومين ذهب أدراج الرياح  , ولم تبق سوى أحلام  , تنهض , ثم تخبو من جديـد ليس لها من  ناصر سوى  الانتهازيين الذين  يخيمون من جديد وراء كل بصيص أمل للتغيير  . لكننا شاعرنا العزيز  ,نقول كما قال الشاعر :

               نعيب  زماننا والعيبُ فينا   وما لزماننا عيبٌ سوانا

   لكنَّه يؤكِّد أنَّ الشهداء ,هم من نراهم صورةً لحلم المستقبل , أمَّا الحاضر فليس له إلا صورة الجوع والقهر , و بين هذه وتلك يتمنى أنْ ينام كلكامش :

نم ياكلكامش

فقد آلمني  ثوبي

بالله عليك

وبالقدُّوس

والاثني عشر

نم

فالنخلُ ضلاعٌ

رسَمها حصير الخوص

وأكملها الجلَّاد

شكراً للجلاَّد

شكراً للأوغاد

شكراً لحصيري

فقطار العمر مضى

وفراكين الأيام مضتْ

ومرآتي

سوَّدها وجه ٌ

لازالت بعض ملامحهِ

تحملني .

    فهو يمازج بين صورتين الأولى نقية, أما الأخرى فمدنَّسة , لكن الذي طغى على شاعرنا  أنَّهُ يعيش في متاهة الفوضى في زمنين أحلاهما مرٌّ , فمرآته قد مُلئتْ بالحسرة على فقدان الأمل الذي كان ينهجه أخوه  فصارت المأساة عصية على النسيان .لكنَّهُ يظل يرسم باب التغيير ؛ كونه يحمل في إزميل ذاكرته وجعه الذي ما انفك يحمل قوَّة أخيه في صنع مستقبلٍ  مورقٍ  بالحياة .

   ولايسعنا الا أنْ نقول أنَّ الثنوية بأشكالها المتنوعة  المتمظهرة بصور الخير  والمناقضة لها ما انفكت تتمظهر  بصور الشر, فهي جميعها في صِدام   لا مفرَّ منه في كل زمان ومكان .وأكبر الشواهد الأدبية على ذلك, هي القصة الهندية الكبيرة  المهابهراتا التي عرَّبها شعراً بطرس البستاني والتي تقوم هذه الملحمة على صراع بين قوى الخير من جهة , وقوى الشر من جهة أخرى  . لذا نرى أنَّ الصراع هو عماد الحياة الذي من خلاله يدوم التجدد , إذ لابناء ولاحضارة مع القطب الواحد ,ولاتجدد ولاحيوية  الَّا بالمنافسة  وبوجود النقيض  , فلا ليل بلا نهار, ولا بياض بلا سواد ,ولا حرية بلا عبودية .

   لايسعنا الا أنْ نقدم اعتزازنا الى الشاعر العمار مثمنين رؤيته التي أبدعتها مخيلته الناضجة راسما ً من خلالها تجربته الشعوريه التي وصلتنا بلا تكلف أو تصنُّع , لكنَّنا  نطمح  أنْ تعزز  تجاربك الشعـرية بأنغـام الموسيقى,  كي تكون أشعارك مستساغة من قبل المتلقى ؛لأنَّ الفنون جميعاً تطمح الى الحالة الموسيقية حسب شوبنهاور ؛ كونها زاد الروح  ومزادته , والشعر الكريم هو من تعلو أنغامه قدح معانيه ؛ بوصفها الماء الذي يمرُّ من خلاله الغذاء , والنور الذي يهدينا الى رؤية الأشياء .


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . رحيم الغرباوي

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2014/05/02



كتابة تعليق لموضوع : الثنوية الفكرية في أشعار غني العمار ( من مجموعته الشعرية للحديث بقية )
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net