النحو الأعرابي بين الصنعة الشخصية والوظيفة الموضوعية
ماجد عبد الحميد الكعبي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
تفتخر دول العالم بوجود أناس محترفين في المهن كافة ، بدءا من الأيدي العاملة وانتهاء بالرياضيين والفنانين ، فهؤلاء يشكلون ثروة تضاهي الثروات الاخر ، لقد اثبت الحرفيون تمكنهم من حرفتهم بالممارسة والتطبيق ، فاللاعب (ميسي ) لم يدخر مهاراته من اجل الابتزاز والحصول على أموال الاحتراف ، بل حولها الى أهداف رائعة نالت رضا الجماهير في كل مكان ، ولاسيما الجماهير العراقية !، وكذلك نجد الآخرين ، هناك وسيلة وهناك غاية والاهم من ذلك : الوظيفة ، فكل المهن التي لها وظيفة ( جمالية او أخلاقية او تعليمية ...) تكون مقبولة الا اذا كانت المهنة ذات وظيفة شخصية بداية ثم تكون الغاية منها تعليمية في النتيجة بمرتبة تالية، فان الممتهن في هذه الحالة يتحول الى محتكر، والمحتكر لابد ان يشك في نواياه ، ولنذكر مثالا لكي تتضح المقاصد ، هناك بعض التراكيب التي احتلت عنوانات لكتب مهمة مثل : صنعة الرواية ، صناعة المسرحية ، صنعة الشعر ، صناعة السينما ، صناعة الاعلان ..فالصنعة والصناعة مصطلحان ايجابيان الا في النحو فانهما سلبيان ، لانهما يشكلان بلاء على مستهلكيهما ، فعندما يتحول النحو الى صناعة يفقد النحو وظيفته الموضوعية ، لان اساس الصناعة يبنى على غاية يكون المستهلك ( المتعلم ) الشرط الاول لنجاحها ، فاذا لم ينتفع منها المتعلم يكون مصيرها الهجران والنسيان ، وهذا ما تم حقا عندما تحول النحو الاعرابي الى مهنة شخصية وصناعة عقلية ، ففقد غايته الوظيفية ..
كلنا يعلم ان نشاة النحو العربي كانت بدوافع تعليمية ، لكن سرعان ما تحول هذا النحو الى صناعة لغاية ذاتية وليس لغاية تعليمية تؤدي الى وظيفة تقويم اللسان المعوج ، عندما نريد ان نعلم الناس يجب ان نذلل لهم الصعوبة لا ان نجعل السهل صعبا والصعب غامضا في سبيل ان يقال : فلان عالم وفلان يستحق ان يكون مؤدب اولاد الخلفاء ، والحكاية التي يرويها الجاحظ خير دليل على تحول النحو العربي من غايته التعليمية الى نحو اعرابي الغاية منه شخصية ، يروي الجاحظ في الحيوان انه تعرض للاخفش- الذي احتكر كتاب سيبويه- سائلا : (( انت اعلم الناس بالنحو فلم لا تجعل كتبك مفهومة كلها ؟ ومابالنا نفهم بعضها ولا نفهم اكثرها ( الجاحظ الذي عاش في القرن الثالث الهجري وهو الاديب الموسوعي المعروف يشكو من الفهم لكثير من قضايا نحو الاخفش ، فما بال طلابنا اليوم !!) وما بالك تقدم بعض العويص وتؤخر بعض المفهوم ؟ فاجابه :
- انا رجل لم اضع كتبي هذه للـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه !!!!
وليست هي من كتب الديـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن !!
ولو وضعتها هذا الوضع الذي تدعوني اليه قلــــــًــــــــــــــــــــــــــــــــــــت حاجتهم الي فيها ، وانما كانت غايتي المنالة ، فانا اضع بعضها هذا الوضع المفهوم لتدعوهم حلاوة ما فهموا الى التماس فهم ما لم يفهموا ، وانما قد كسبت في هذا التدبير ، اذ كنت الى التكسب ذهبت )) اذن الغاية ان يتكسب وليس المهم الفهم ، يصنع صناعة يتكسب منها بصرف النظر عن الوظيفة الافهامية ، هذا هو ديدن النحاة العتاة ،الذين نكن لهم التقديس والاحترام .
يقول بعض المتوهمين ان اغلب الشواهد الشعرية لم تكن مصنوعة ، واقول ان 50% من الشواهد الشعرية جاء مذيلا بعبارة : (( هذا البيت من شواهد سيبويه التي لا يعلم قائلها )) او بعبارة : (( البيت احد الشواهد المجهول قائلها )) او بـ (( هذا الشاهد من الابيات المجهولة نسبتها وكل ما قيل فيه انه لراجز من طي )) او (( هذا البيت من الشواهد التي استشهد بها النحاة ولم ينسبوها الى قائل معين )) وخير دليل على ذلك هو : مراجعة باب الاضافة في كتاب شرح ابن عقيل ، الذي حرص محققه على تنوع عباراته فمرة لمجهول ( الهوية ) واخرى غير معلوم ( النسب) ليتخلص من الوقوع في الرتابة والتكرار ، واذا ما اخذنا النصف الاخر من الشواهد وهو الذي ينسب الى شعراء باسمائهم ، اتضح :
ان كل الشعراء المستشهد بشعرهم هم من الذين عاصروا بني امية مثل الفرزدق وجرير والراعي النميري ورؤبة وابوه العجاج ، او من شعراء الجاهلية مثل : النابغة والاعشى وزهير والملك الضليل ( لا يظن القارئ الكريم ان هناك اختلافا سلوكيا او قيميا بين الطائفة الاولى من الشعراء والاخرى ، فكلهم منغمسون في الجاهلية الى الاذقان ) .
قيل ان سبب حصر عصر الاحتجاج بشعراء بني امية ، ان هؤلاء الشعراء لم تتمكن الاعجمية من لسانهم فحافظوا على فصاحتهم ، وبذلك نات الاعراب بنفسها عن الفتنة التي وقع فيها اصحاب الحاضرة العباسية ، ولنحسن الظن بما قالوا !
من المشهور جدا في كتب النقد وبعض كتب اللغة ، رواية تحكى عن خصومة الفرزدق الشاعر الاعرابي الذي عاش في عصر الاحتجاج ، والنحوي المولى المعروف عبد الله ابن ابي اسحاق الحضرمي ، الذي كان يتتبع كبوات الفرزدق اللغوية والنحوية ( والله مصيبة ! اعرابي صليبة يخشى من نحوي مولى ( اعجمي) ) !
فهجاه الفرزدق بقوله :
- فلو كان عبدالله مولى هجوته ولكن عبد الله مولى مواليا
و الاغرب من ذلك قول ابن سلام نقلا عن يونس : (( وكان ابن ابي اسحاق وعيسى بن عمر يطعنان على العرب ))( اخبار النحويين ، السيرافي ، 78) فكيف جمع الحضرمي وابن عمر بين حب العربية والطعن على العرب ؟؟!!
واذا كان الفرزدق يخطا في النحو - وهو القريب عهدا من الجاهلية والمتمثل حبا لقيمها - فكيف بابناء العرب الذين يعيشون عصر السايبر في القرن الواحد والعشرين عفوا: ( الحادي والعشرين) ؟؟ !
ولكي نقف على سر الصنعة النحوية الاعرابية نذكر الرواية الاتية :
(( وروى الاصمعي عن يونس ،قال : قال : لي رؤبة بن العجاج : حتام تسالني عن هذه البواطيل وازخرفها لك ؟ اما ترى الشيب قد بلع في لحيتك ؟ ))( اخبار النحويين ، السيرافي ، 84)
كيف نوفق بين هذه الروايات ؟؟ سؤال اترك اجابته الى القارئ الكريم الذي لا اشك في حسن فطنته وذكائه لمعرفة الحقيقة ..
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
ماجد عبد الحميد الكعبي

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat