صفحة الكاتب : مكتب سماحة آية الله الشيخ محمد السند (دام ظله)

زيارة الأربعين والمدينة الفاضلة
مكتب سماحة آية الله الشيخ محمد السند (دام ظله)

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 إنَّ معسكر الأربعين هو عبارة عن تجسيد المجتمع والمدينة الفاضلة أمام مرأى البشر، وهذا التجسيد يتجدد في كل عام من قبل المؤمنين، وأحد تفسيرات المدينة الفاضلة التي فسرت من قبل الحكماء وأصحاب العلوم الاجتماعية هي التي لا تحتاج إلى رئيس وموجه، فكأنما البشر فيها قد وصلوا إلى مرحلة البلوغ العقلي والروحي والإداري والعلمي، فإن نسيجهم الطبيعي هو الذي يدبر نفسه بنفسه، وهذا في الحقيقة هو غلبة العقل والنور على الغرائز، لأن الغرائز الهابطة الأرضية كما يصفها القرآن الكريم {وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}([1]) منشأها هو الحرص والطمع وهذا ما بينه الكتاب الكريم {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}([2]).

فإذا كان العقل والنور والقلب يطغى فسوف تكون هناك جنة وأمان، ولهذا السبب نرى أكثر الحكام الجبابرة والأنظمة الحاقدة على مذهب أهل البيت يتخوفون من هذه الظاهرة الحسينية وهذا ما أشارت إليه التقارير الدولية التي تراقب هذا الحدث بخفية وغير خفية.

فلا يمكن أن ننظر إلى زيارة الأربعين كطقوس عبادية محضة بقدر ما هو عبادة بناء مجتمع وبناء رؤية ثاقبة، ومرآة ناصعة للبشرية.

فلو نلاحظ مفهوم التكامل ومفهوم التضامن وكل المفاهيم الأخلاقية وليس على الصعيد الفردي والأسري بل على الصعيد المجتمعي تتجسد في زيارة الأربعين، كحل الأزمة الاقتصادية، وحل الأزمة الأمنية، وحل الأزمة العنصرية والتمييز العنصري وغير ذلك من الأمراض الكثيرة التي تعاني وتقض من مضجع البشرية كل هذه الأزمات حلولها في مدرسة ومنهاج الحسين(ع) فتعالوا واشهدوا هذا المجتمع الفاضل والمجتمع النوري، والذين يعيشون أيام مسيرة الأربعين يعيشون في الواقع حالة الصفاء الروحي والنوري ويتمنى كل فرد منهم أن يعيش هذه الحالة طول عمره.

ولهذا نرى المؤمن إذا دخل في معسكر هذه الأجواء للشعائر الحسينية يعيش حياة هذا المجتمع النوري الفاضل ولكن إذا رجع إلى مدينته أو بيته وتناسى الحسين(ع) فبقدر ما نبتعد عن الحسين(ع) نبتعد عن هذا النور وعن هذه الجنة والجنان والمثالية، وبقدر ما نعيش ونقبل على الحسين(ع) نعيش هذه الجنان الحسينية كما روى عنهم(ع): من أقبل علينا أقبلنا عليه ومن أدبر عنا أدبرنا عنه.

فبقدر ما يقبل المؤمنون على مدرسة أهل البيت(ع) يعيشون الصفاء والنور والثمار، وفي نفس الوقت يجسدون حاضرة متمدنة لم تشهدها إلى الآن البشرية، فهناك تحدي بين قيادة سيد الشهداء وتأثير سيد الشهداء وتربية سيد الشهداء للبشرية وبين كل الحضارات والأنظمة والمدارس البشرية وكل المصلحين البشريين بما فيهم المسلمين والمؤمنين.

فلا يوجد أي مصلح غير الحسين(ع) يمكنه أن يربي ويصهر النفوس على مسار ذهبي ولو كان عالماً مؤمناً.
الحسين عليه السلام أسوة قدماً:

ففي حديث عظيم لأمير المؤمنين(ع) وهو يصف ولده الحسين(ع): يا أبا عبد الله أسوة([3]) أنت قدماً([4]).

يعني أنت منذ القدم أسوة وقدوة حتى للأنبياء والرسل، وهذه منقبة ومعجزة لسيد الشهداء(ع) كما أنه برهان عصري نشهده الآن، فباب الحسين(ع) وسفينته أوسع وأكبر، وما نشاهده الآن في المجتمعات البشرية المضرم فيها التكالب والتطاحن والحروب والعداوات والتي تأن من الظلم الاقتصادي بسبب الأزمة المالية الراهنة الآن، ومن الظلم والتمييز الهمجي، وكل الأنظمة التي حكمت وجاءت بالاشتراكية والرأسمالية والشيوعية والديمقراطية إلى الآن لم تقدم أي حلول لهذه الأزمات، وفي ظل هذا نرى هناك بيعة وانقياد بشري طوعي سلمي سلس وسنوي لسيد الشهداء(ع) والقريب والبعيد والعالم وغير العالم تأثر في هذه المدرسة وفي هذه الدولة التي رقعتها النفوس والبشر وليس الجغرافية، هذه الدولة قائمة ومبنية على يد سيد الشهداء(ع) فكم هي قدرة قيادة الإمام الحسين(ع) للمجتمعات.

وقول أمير المؤمنين(ع) يا أبا عبد الله أسوة أنت قدماً يعني أن الحسين(ع) تأثيره ليس فيما بعد واقعة عاشوراء بل قبل، حيث علم به الأنبياء والأوصياء، فماذا صنع بهم الحسين لكي يكون لهم أسوة؟!

حيث أن الله عَزَّ وَجَلَّ كان يوحي ويقص على الأنبياء ما يجري على سيد الشهداء(ع) في واقعة عاشوراء لكي يعضهم ويربيهم على الصبر([5]) وعندما يستعرض لهم واقعة عاشوراء كان يأخذهم البكاء، وهذا نوع من الآلية والبرنامج التربوي من الله عَزَّ وَجَلَّ لأنبيائه كي يكامل بهم إلى المعالي، ومن هنا كانت مواقف سيد الشهداء في الطف التي هي بالقياس للأنبياء مستقبل.
الحسين يربي الأنبياء:

وبذلك أصبح سيد الشهداء(ع) بهذا التقدير من الله عَزَّ وَجَلَّ منذ القدم إماماً للأنبياء والرسل لما سيقوم به، وليس يقتصر ذلك على جانب الصبر والتحمل في الدين وجانب الإخلاص والخلوص وغير ذلك من الكمالات العظيمة، ولكن أيضا أحد الجوانب الأخرى وهو أن بكاء الأنبياء على سيد الشهداء(ع) نفسه هو برنامج تربوي روحي، فكما يبكون خوفاً من الله فبكائهم حزناً على الحسين يكامل ذلك البكاء، لأن البكاء يوجب رقة الروح، ويوجب تواضع الإنسان، ويوجب كبح هيجان الغرائز بل له فوائد للعقل لأن العقل يعمى بالشهوة، هذا بالنسبة إلى الأنبياء.

وأما بالنسبة إلى الأئمة(ع) فقد تطالعنا الروايات المستفيضة أن سيد العابدين(ع) قضى أربعين سنة من عمره في البكاء على أبيه الحسين(ع) حتى عد أحد البكائين الخمسة.

فعن أبي عبدالله(ع) قال: البكاؤون خمسة (آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمد، وعلي بن الحسين) وأما علي بن الحسين(ع) فبكى على الحسين عشرين سنة أو أربعين سنة وما وضع بين يديه طعام إلا بكى، حتى قال له مولى له: جعلت فداك يا ابن رسول الله’: إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني لذلك عبرة([6]).

فقد صنع الإمام الحسين(ع) لأبنه السجاد(ع) جواً تربوياً وقلب حياته إلى رياضة ذكر الله تعالى عبر توجهه بالبكاء على أبيه إلى الله تعالى وهي أسلوب للشكاية من الظلم بتوجيه الشكاية إليه تعالى.

بل لنترفع أكثر، هناك روايات ومن مصادر الفريقين قد أحصاها الشيخ الأميني([7]) في خمسة عشر مجلس أقامه النبي’ بكاءاً على سيد الشهداء(ع) وكذلك السيد شرف الدين([8])، فقد أقام النبي’ يوم ولادته وقبلها ويوم السابع من مولده وبعده في بيت فاطمة وفي حجرته وعلى منبره وفي بعض أسفاره وتارة يبكيه وحده، ومرة هو والملائكة، وأحياناً هو وعلي وفاطمة، وكان النبي’ يجهش في البكاء، فبكائه’ تعالي روحي، وان كان سيد الأنبياء أعظم شأناً من سيد الشهداء ولكن نور الحسين يؤثر على نفس النبي’ كما أن نور النبي’ أعظم من نور الحسين ولكن نور الحسين(ع) يؤثر على بدن النبي’ ويؤثر على النفس النازلة للنبي’ يعني «حسين مني وأنا من حسين» ولا يخفى أن بدن النبي’ وروحه ونفسه أعظم من بدن وروح الحسين(ع) لكن نور الحسين(ع) إذا قيس إلى النفس النازلة للنبي’ حسب بيانات أهل البيت(ع) هو قبل مقام النفس النازلة للنبي’ صدوراَ في عالم الخلقة لأنه أول ما خلق الله نور النبي ثم نور علي ثم نور فاطمة ثم نور الحسن ثم نور الحسين ثم الأئمة التسعة المعصومين(ع)([9]).

وهذا شبيه ما ذكرناه في مقامات فاطمة الزهراء÷ بالنسبة لتسمية النبي’ لفاطمة÷ بأم أبيها، فكيف تكون السيدة الزهراء÷ أماً لأبيها المصطفى وهو أبوها وسيدها، فإن نورها شيء والنفس النازلة للنبي’ شيء آخر.

وهكذا الأمر في القرآن والعترة، ففي بعض الروايات أن القرآن هو الثقل الأكبر، وفي بعضها أن العترة هم الثقل الأكبر، وهذا ليس تناقضاً في الروايات وإنما كل طبقة صفتها هكذا، فهناك طبقات في العترة إذا قيست مع الطبقات النازلة من القرآن فإن العترة هي الثقل الأكبر، والطبقات العليا في القرآن إذا قيست مع الطبقات النازلة في العترة فالقرآن هو الثقل الأكبر، وإن كان من حيث المجموع سيد الأنبياء هو سيد الأنبياء، ولذلك ورد في الروايات «يا أحمد لولاك لما خلقت الأفلاك ولولا علي لما خلقتك ولولا فاطمة لما خلقتكما»([10]).

وهذا ليس معناه تفضيل فاطمة على النبي وعلي أو تفضيل علي على النبي(ع) ـ والعياذ بالله ـ وإنما المقصود هو ما بيناه سابقاً، وهذا نظير «علي مني وأنا من علي»([11]) و «حسين مني وأنا من حسين»([12]) وورد «حسن مني وانا من حسن».

إذن تداعيات نهضة الحسين(ع) أورثت للنبي’ حالات روحية خاصة، وإلى الآن يقيم النبي’ وعلي وفاطمة وذريتهما الرثاء لسيد الشهداء(ع) بل يزورونه هم وجميع الأنبياء، فإن أرواح النبيين(ع) تستأذن الله في زيارته فيأذن لهم كما ورد ذلك في الروايات([13]).

وهكذا صنع سيد الشهداء(ع) مع باقي الأئمة(ع) حتى قال الإمام المهدي(عج): «فلأندبنك صباحاً ومساءا ولابكين عليك بدل الدموع دما» فلم يزل سيد الشهداء أسوة قدماً من الزمن الأول وإلى الآن كما ورد في قول أميرالمؤمنين له، وإذا كان هذا صنع الحسين(ع) بالمعصومين الأربعة عشر فكيف صنعه بالأنبياء السابقين، فحقاً كان سلوة وأسوة لهم في الصبر والتحمل والزهد في الدنيا وهو قول أمير المؤمنين(ع) يا أبا عبدالله أسوة أنت قدماً.

([1]) سورة الأعراف: الآية 27.

([2]) سورة البقرة: الآية 30.

([3]) الأسوة: القدوة، وما يأتسي به في الاستقامة أمام الشدائد والبلايا، أي ثبت قديماً أنك أسوة الانبياء والخلق يقتدون بك، أو يأتسى بذكر مصيبتك كل ممتحن مبتلى بالصعاب.

([4]) كامل الزيارات: 149، الباب /23 ح:3.

([5]) راجع بحار الأنوار ج44: 222، الباب (30) إخبار الله تعالى أنبيائه ونبينا’ بشهادته.

([6]) البحار ج46: 108.

([7]) سيرتنا وسنتنا للعلامة الأميني صاحب كتاب الغدير.

([8]) المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة.

([9]) بحار الأنوار ج53: 142.

([10]) مجمع النورين للمرندي: 14.

([11]) روضة الواعظين: 11.

([12]) كامل الزيارات: 116 ح127.

([13]) التهذيب ج6: 49، الوسائل ج 10: 365، نور العين: 100.
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


مكتب سماحة آية الله الشيخ محمد السند (دام ظله)
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/12/10



كتابة تعليق لموضوع : زيارة الأربعين والمدينة الفاضلة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net