صفحة الكاتب : السيد يوسف البيومي

حكم العقل.. أم حكم النقل
السيد يوسف البيومي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين..
ما دفعني لأن أكتب في هذا الموضوع على كثرة من بحث في مثل هذه المواضيع التي قد يوصف مذهب إسلامي ما أنها أصل في مذهبه ومذهب آخر ينفى حجية هذا الأصل في مذهبه واعتبارها أنها بدعة ولا يمكن القبول بها.. ومع علمي أن علماؤنا الماضون (رحمهم الله) والحاضرون منهم (أيدهم الله) قد استفاضوا في نقاش مثل هذا الأمر ولم يتركوا دليل عقلي أو نقلي إلا وساقوه لإثبات مثل هذا الأصل..
ولكن مع هذا فإن سائر المذاهب التي لا تأخذ بحجية العقل أم حجية النقل، أردت أن أضيأ على خلل ما في نظرة هؤلاء تجاه حجية (حكم العقل) ولماذا هو ضروري ومهم؟! على أهمية النقل التي لا ننكرها ولكن التي يجب أن نأخذها على ما هي عليه، ولأن هناك الكثير من الأمور النقلية التي تحتاج إلى تدقيق وإمعان في نظر بها، وتأكد من صحتها، ولا يكون ذلك إلا من خلال قواعد تبين الحق منها أمام الباطل، والصحيح منها مقابل الغث.. ومن هنا فإننا نبدأ بالتعريف بكل من العقل والنقل ومن ثم نتحول إلى النقاش الذي دار حولهما.. ومن الله نرجو التوفيق..
العقل:
أصل العقل في اللغة، بمعنى المنع والحجر والنهي والحبس، كعقل البعير بالعقال لمنعه من الحركة، ولدى الانسان قوة تسمى بالعقل، وهي التي تصونه من الجهل وتحميه من الانزلاق فكراً وعملاً, ولهذا قال رسول الله "صلى الله عليه وآله": (العقل عقال من الجهل).
وقد استعمل لفظ (العقل) في النصوص الإسلامية وقد أُريدَّ به معانٍ مختلفة. فقد ذكر المحدث الشيخ الحر العاملي (رحمه الله) في كتابه (نهاية باب وجوب طاعة العقل ومخالفة الجهل) حول معاني العقل ما يلي:
 "العقل يطلق في كلام العلماء والحكماء على معان كثيرة, وبالتتبع يعلم أنه يطلق في الأحاديث على ثلاثة معان:
ـ أحدها: قوة إدراك الخير والشر والتمييز بينهما، ومعرفة أسباب الأمور, ونحو ذلك, وهذا هو مناط التكليف.
ـ وثانيها: حالة وملكة تدعو الى اختيار الخير والمنافع واجتناب المضار.
ـ وثالثها: التعقل بمعنى العلم، ولذا يقابل بالجهل لا بالجنون، وأحاديث هذا الباب وغيره أكثرها محمول على المعنى الثاني والثالث. والله أعلم"(1).
وقال أبو هلال العسكري عند كلامه في الفرق بين العقل والنفس والروح: قال بعض المحققين: "العقل جوهر مجرد عن المادة، وهو الذي يدرك المعاني الكلية والحقائق المعنوية، مشتق من عقل البعير عقلاً، إذا شدّه، سمي به لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب ما لا ينبغي مثل العقال، وهذا الجوهر سمي نفساً باعتبار تعلقه بالبدن، وهي النفس الناطقة، ويسمى عقلاً باعتبار نسبته إلى عالم القدس لما فيه من معنى الاشتقاق. وأما الروح: فهي ما به الحياة، وقد تطلق على النفس أيضاً"(2).
وقيل لغة: "العَقْلُ ما يكون به التفكيرُ والاستدلالُ وتركيبُ التصوُّرات والتصديقات، العَقْلُ ما به يتميز الحسَنُ من القبيح، والخيرُ من الشر، والحق من الباطل"(3).
هذا عن التعريف اللغوي، أما عن التعريف الاصطلاحي، فقد اختلفت وتضاربت أو تداخلت التعاريف في شأنه، ولكن قد اجتمعت التعاريف والتقت تلتقي على نقطة مشتركة ألا وهي: اعتبار العقل هو العنصر الاساسي في الفعل المعرفي البشري، وهو القاعدة الأولى التي ينطلق منها الإنسان متأملاً وناظراً ومستنبطاً ومدركاً لحقائق الأشياء، وهو الوسيلة الوحيدة للاهتداء إلى الصواب، ولكن بشرط أن يعمل بعيداً عن المؤثرات السلبية.
وقد قيل عن العقل في المصطلح: "العلم الضروري، الذي يقع ابتداءاً ويعمّ العقلاء وهو العلم الضروري الذي يلزم نفس المخلوق بحيث لا يمكنه الانفكاك منه، ولا الخروج عنه".
النقل:
النقل في اللغة: "نَقَلَ الشيءَ نَقَلَ نَقْلاً : حوَّله من موضع إِلى موضع. 
و نَقَلَ الكتابَ : نَسَخَهُ.
و نَقَلَ الخبَرَ أَو الكلامَ : بلَّغَه عن صاحبه"(4).
وعن معنى النقل في الإصطلاح فهو:  هو ما تم نقله من الأحاديث والمرويات عن سبيل السماع أو التدوين عن النبي (صلى الله عليه وآله) وعن الأئمة الأطهار من أهل بيته (عليهم السلام) ـ وهذا ما اختص به أتباع المذهب الجعفري ـ وقيل أيضاً  هو نقل الصحيح من الأدلة السمعية، أي ما وصلنا وصحَّ سنداً ومتناً ودلالة من القرآن الكريم والسنة الشريفة.
وفي مقدمة بسيطة وهي للتأمل فقط، فقد جاء الإسلام ليحرر عقل الإنسان وتفكيره من الأغلال المتراكمة الموروثة التي توارثها قهرا من الأجيال الماضية، فهو يخاطب العقل ويدعوه إلى التأمل والتفكير، ويخاطب القلب والضمير بما حوله من الأدلة الناطقة، ويكفي في بيان هذا أنه تم ذكر  مادة " العقل " بمختلف صورها ( 47 ) مرة ، و " التفكر " ( 18 ) مرة، و " اللب " ( 16 ) مرة و " التدبر " ( 4 ) مرات و " النهى " مرتين في كتاب الله القرآن الكريم . ويكون بذلك قد نهى عن التقليد وحث على التعقل ببيانات مختلفة.
فالوحي يخبر عن الله خالق العقل والذي جعل الحجة للإنسان والرسول الباطني، وإذا خالف الله العقل فمعناه حصول التناقض عند الإنسان، حيث أن الرسول الباطني أو العقل يرشده إلى شيء والرسول الخارجي يرشده إلى ما يناقضه، فيقع الإنسان في الحيرة وعدم القدرة على الامتثال، لذا فإن التعاليم الإلهية النازلة عن طريق الوحي لا تتعارض مع العقل.
وإن حجية العقل محصورة بمدركاته القطعية كحسن العدل وقبح الظلم وأمثالها، وحجية القطع ذاتية، إذ بالقطع يكون انكشاف المقطوع به للقاطع، وما كان كذلك كانت الحجية حاصلة له بالذات، فانّ العقل إذا قطع (على سبيل المثال) بلزوم الامتثال لأمر المولى فلا بد هنا من تحقق هذا الامتثال بسبب هذا القطع وإلا أصبح من ثبت له ذلك عاصياً..
 وقد اعترف القرآن والسنة بحجية العقل في مجالات خاصة بُينت في كتب اصول الفقه، كاستقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان، الملازم لعدم ثبوت الحرمة والوجوب إلا بالبيان، وأيضاً استقلاله بلزوم الاجتناب عن أطراف العلم الإجمالي في الشبهات التحريمية ولزوم الموافقة القطعية في الشبهات الوجوبية وغير ذلك.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "كن مع الحق حيث كان, وميّز ما اشتبه عليك بعقلك فإنَّ حجة الله عليك وديعة فيك وبركاته عندك"(5).
 وعن الإمام علي (عليه السلام): "العقل رسول الحق"(6).
 وعن الامام الصادق (عليه السلام): "حجة الله على العباد النبي, والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل"(7).
وإلالزام باتباع النص إنما يكون بعد افادته العلم والقطع دون الظن أو الشك، وقد علمنا ان حجية القطع ذاتية لا يصح سلبها عنه، وأيضاً يلزم اتّباع النص الذي يفيد الظن الراجح وهو ما التزمت السيرة العقلائية بالأخذ به كخبر الواحد العادل أو الثقة، فمرجع الإلزام بالنص هو ما ذكر، ولا يعد هذا طمسا للعقل، بل هو تطبيق صادق لمدركاته.
وفي النهاية، إن العقل الذي نعتمد عليه في إثبات أصول الدين ليس هو العقل الشخصي (الذي قد لم يلتفت إليه المستشكل) الذي هو محل الاختلاف والاذواق, فمثل هذا العقل من أين تتأتى له الحجية؟ وإنما نعتمد على العقل النوعي الذي هو حجة وحجيته مستفادة من القطع.
والقطع في الدليل العقلي نأتي به عند طريق الإستدلال المنطقي الذي هو اليقين والبرهان، حسب الضوابط التي قررها العلماء في علم المنطق والمناهج المعرفية التي يجب سلوكها في هذا الطريق للوصول إلى النتيجة اليقينية.
ومن هنا، يكون الحاكم والفاصل بين (عقلك وعقلي) هو الضوابط والقواعد المقررة في البرهان التي تفيد القطع وليس شيئاً آخر..
السيد يوسف البيومي/الرضوي.
في 20 من محرم الحرام 1435 هـ.ق.
الموافق له 25/11/2013م.
 
_________________
(1): موسوعة وسائل الشيعة ج15 ص208، وص209.
(2): كتاب الفروق اللغوية، لأبي هلال العسكري، ص519.
(3): المعجم الوسيط في اللغة العربية، جذر كلمة (عقل).
(4): المعجم الوسيط في اللغة العربية، جذر كلمة (نقل).
(5): كتاب كشف الخفاء،ج 2، ص135.
(6): كتاب غرر الحكم، ص272.
(7): كتاب الكافي، ج1، ص25.
 
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


السيد يوسف البيومي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/11/26



كتابة تعليق لموضوع : حكم العقل.. أم حكم النقل
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net