تونس: رئيس الحكومة، اقتصادي أو لا يكون؟
محمد الحمّار
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
إنّ الفاعلين السياسيين مُنكبّون حاليا ، في إطار الحوار الوطني أثناء أسبوعه الأول وتحديدا ضمن لجنة المسار الحكومي، على الفعاليات التي من شأنها أن تؤول قبل يوم السبت المقبل إلى اختيار الشخصية التي ستكلف بمهام رئاسة الحكومة في المرحلة الانتقالية الموصلة إلى الانتخابات المقبلة.
هذا وقد تعالت الأصوات هنا وهناك لتنادي بضرورة أن يكون رئيس الحكومة 'شخصية اقتصادية' وذلك بدعوى أنّ هذا الصنف من الحكام هو القادر على إخراج البلاد من أزمة تتصف بكونها اقتصادية بالتحديد. فهل صحيح أنّ تونس بحاجة لاقتصادي في منصب رئيس حكومة؟
لمّا نتقصى السياقات التي ورد فيها هذا المطلب نلاحظ أنّ الفكرة محكومة بسياق آني وعاجل وبآخر تاريخي وبثالث عالمي وجغرسياسي. بخصوص السياق الأول فهو متداخل مع الثاني حيث إنّ الوضع الاقتصادي الكاسد والوضع والاجتماعي المتدهور الذي تتصف به الفترة الحالية قد زعفَ التونسيين ويكادُ يقضي على طموحات شرائح عديدة من المجتمع بما فيها الطبقة المتوسطة، التي كانت قبل بضعة أعوام مفخرة تونس بخصوص السياسة الاجتماعية .
من هذا المنظور وكأنّ الشعور بالإحباط قد بلغ أشُده لدى الشرائح المتضررة والمهددة إلى درجة أنهم أضحوا يختزلون الأزمة الخانقة في الشأن الاقتصادي دون سواه. كنتيجة لذلك فإنّ العبارات التي تشيع هذه الأيام والتي قد يبوح بها الناس وقد يخفونها هي تلك التي من صنف 'اعطني شغلا' و'زوّدني بلقمة العيش' و'قاوم غلاء المعيشة'. وهذا أمر مشروع إلا أنه غير كافٍ لتبرير اختيار شخصية اقتصادية، كما سنرى لاحقا.
بخصوص السياق التاريخي، ما من شك في أنّ التونسيين وهم في أغلبهم غاضبون على أداء الحكومة الحالية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، وكأنهم يجدون ملاذهم في تجربة عاشتها البلاد خلال السبعينات من القرن المنقضي وكانت تجربة ناجحة بالقياس مع تجارب أخرى. ونعني بذلك التجربة الليبرالية (المعدلة بسياسة نقابية محنكة ويقظة) التي اتسم بها ما عُرف بـ'عهد نويرة' (1970 - 1980) نسبة للشخصية الاقتصادية القوية التي قادتها ألا وهو الهادي نويرة (توفي 1993). وكأني بالتونسيين يريدون هادي نويرة جديدا ليخرج البلاد من عنق الزجاجة. لكن هذا أيضا ليس عذرا كافيا ليبرر تعيين شخصية اقتصادية على رأس الحكومة المزمع تشكيلها، كما سنشرح أسفله.
بقي السياق العالمي والجغرسياسي وهو في تقديرنا الأخطر. وهو كذلك لأنّ له من الآثار ومن السيطرة على الوضع العام في تونس أكثر مما للسياقين الاثنين الآخرين، الجاجياتي المحلي والتاريخي. كما أنّ قراءة الواقع المتأزم ضمن هذا السياق الثالث مناسبة لنتجنب التسرع وما يستبطنه من اكتفاءٍ بالأسباب المباشرة أو بتكرار تجارب سابقة وبالتالي سيعيننا على التحكم أكثر بالوضع و التفكير في حلّ للأزمة يكون أكثر جدية.
إنّ اللجوء إلى شخصية اقتصادية لترأس الحكومة في فترة تتصف بلزوم الانتقال السياسي الشامل يعني، لو نزلناه في السياق العالمي، لا فقط تقديم الفرع (الاقتصاد) على أصل المشكلة (السياسة) وإنما بالخصوص الإذعان لشروط القوى الاقتصادية العظمى، عبر آلياتها المتنفذة وعلى رأسها صندوق النقد الدولي والبنك العالمي. فالمعلوم عن الصناديق الدولية والشركات العالمية متعددة الجنسيات التي تسيّرها وتسيّر البلدان الدائنة نفسها أنها تقايض القروض التي تمنحها للدول المدينة مثل تونس بضمانة من الحجم الثقيل ألا وهي عدول هذه الدول المنتفعة بالقروض عن تصوّر وتنفيذ أية سياسة ذاتية تتميز بنسبة هامة من استقلالية القرار الوطني ومن تنمية السيادة الوطنية.
مما لا شك فيه أنّ التعامل مع تلكم الهيئات المصرفية الكبري ومع البلدان والشركات التي تمثلها وتتشارك معها وتموّلها أمرٌ واجب. لكن هل يكفي أن يكون لتونس رئيس حكومة ذا باع في الاقتصاد دون سواه لكي تتعامل تونس بكل حيطة ووقاية ونجاعة مع هيكل الاقتصاد العالمي الذي مرّت من الاقتصادي إلى السياسي حيث إنّ مجموع برامجها ومخططاتها عبر شبكة اتصالاتها الواسعة ومُحكمة التنظيم يمثل ترسانة سياسية متكاملة؟ أليست تونس بحاجة لحنكة سياسية متعددة المهارات ومتنوعة المعارف لكي ، في أفضل الحالات، تخرج سالمة من اختبار عويص، ناهيك أن تضطلع بدورٍ ذي بالٍ في بوتقة السياسة الكونية؟
مهما يكن من أمر نأمل أن يهتدي الفاعلون السياسيون المتفاوضون في إطار الحوار الوطني إلى خيار صائب. وبهذا المعنى نتمنى أن يسند منصب رئيس الحكومة إلى شخصية تتمتع بتصور شامل للحكم يتبوأ فيه البعد المغاربي و الإقليمي و العربي والإفريقي المكانة التي يستحقها وذلك بالنظر إلى ظروفٍ محلية هشة إلى أقصى الحدود وإلى ظرف عالمي يتسم بالعولمة وبالسعي إلى إرساء حكومة دولية لا تبقي ولا تذر.
فمشهد الاقتصاد الجيد الذي نرنو إليه جميعا يكون حسب اعتقادنا تتويجا لمسارٍ سياسي معقد ومتشابك ومتنوع. وهذا مما يشترط ممن سيسهرون على تأليفه خصالا سياسية جامعة وشاملة وعالمية، ولا يمكن أن يكون هذا المشهد نتاجا لخرافة شعبوية . ثم ماذا عسى أن يكون دور وزير الاقتصاد الوطني في حكومة يترأسها رجل اقتصاد؟
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
محمد الحمّار

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat