تفسير ثورة تونس والعرب بواسطة الاجتهاد الجديد
محمد الحمّار
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
اليوم وقد أصبحت الثورة تشكل أهم حدث لدى الباحث، قد تكون الفرصة سانحة لإعادة طرح مسألة الحاجة إلى اجتهاد تكميلي للاجتهاد الديني، هذه المرة إزاء حدث الثورة الخطير. وسيكون الطرح عبارة على تكييف شرعي للثورة، المراد منه إيجاد المبررات الشرعية لها حتى يقع تأمين استدامتها ومن ثمة ضمان إثمارها على المدى الحضاري البعيد.
وفي هذا السياق أشدد على صفة الانقلاب في طريقة الاجتهاد، وذلك على غرار الانقلاب في الواقع السياسي الذي أحدثته الثورة في تونس وفي مصر. وفي ضوء الملابسات التي حفت باندلاع الثورة، وفي شروط نموها يوما بعد يوم، وفي ظل غياب البعد الإيديولوجي من بوتقة الأسباب التي كانت قد أدّت إلى الثورة في أكثر من هاذين البلدين العربيين، فإنه لحريّ بالمؤمنين الثائرين اليوم أن يعفوا أنفسهم من أي جهد يدفعهم إلى البحث عن تبريرات لثورتهم من داخل المضمون القيمي والإجرائي للشريعة الإسلامية. وهنا يتمثل الانقلاب الاجتهادي.
فالانقلاب يتمثل في تفرغ المؤمنين للتدبّر، وذلك بفضل توظيف الشريعة السمحاء، لا كمصدر للمضامين القيمية والإجرائية مثلما أسلفنا (والمضمون أعتبره معطى لا جدال ولا تحوير فيه مهما كانت ومهما تعددت أشكال المطالبة بقراءة جديدة للإسلام)، وإنما كمصدر مُلهم للشكل الذي سيدرجون فيه مشاريع أعمالهم . فالشريعة تحتوي، مما لا شك فيه، وبصفة عجيبة، على عدد لا متناهٍ من الأشكال والأوعية التي تستبطن الفكرة والمشروع والبرنامج.
أمّا سرّ النجاح فيكمن في بلوغ المجتهد المعاصر مستوى من تطبيق الإسلام بهذه الطريقة المكتشفة والتي لا تعتمد تأليف الفقه واستنباط الأحكام الشرعية من أصول التشريع وإنما تعتمد تحرير الاجتهاد من سيطرة الفكر الفقهي التقليدي عليه حتى يتمكن العقل الاجتهادي العام، الموسع، من بلورة التصورات حسب إرادة المسلم ابتغاء تزكيتها بمشيئة الله.
وعندما يتحرر الاجتهاد العام يتحرر الاجتهاد الديني أيضا فيصبح المجتهد الشرعي متمتعا بمساحات جديدة من الواقع المستوجب للاجتهاد لم تكن ظاهرة له من قبل، بحُكم انعدام منهاج دائري أي مستلهم من شكل الشريعة لا من مضمونها، حسبما يوفره الاجتهاد الجديد. هكذا يكون الشكل (الدائري) قد فتح باب الاجتهاد الداخلي وذلك بتسهيل تسرّب العقل الاجتهادي الديني إلى داخل بوتقة الشريعة ليتناول محتواها حسب القواعد الفقهية المتوارثة والمتعارفة.
لنصرّف أكثر الاجتهاد الجديد: عندك فكرة مشروع تنوي إنجازه. ابدأ بتحديد هدف أو أهداف تكون مستلهمة من هدف الشريعة ومقصدها ومجسدة لمبدأ التوحيد. ثم قم بتحديد وسائل تتراوح بين ما يجوز فعله وما لا يجوز حسب ما يمليه عقلك كمؤمن. ولا يهمّ في هاته المرحلة أن تكون مقيدا بتراتيب وشروط الفقه الديني؛ فأنت لست بالفقيه في الدين بل فقيه واقع ووجود. وفضلا عن الوسائل، حريّ بك أن تفكّر في أرضية للتوازن تنسجم مع طبيعة مشروعك. ثم عليك أن تعدّل تصميمك بأية مقومات أخرى تتماشى وطبيعة مشروعك. وأخيرا وليس آخرا لم يبقَ سوى أن تكدح إلى ربك كدحا فأنت مُلاقيه بعون الله.
لو اتبعنا النموذج الاجتهادي الجديد المقترح وحللنا بواسطته مُجريات الثورة في تونس، الآن وقد مرّ على الاستقلال الثاني قرابة شهر ونصف، بصفة مندمجة أي بما يتطلبه اندماج النموذج كما تمّ توصيفه أنفا، سنرى ما يلي: غياب جَلي للأهداف (الرسالة الحضارية والغاية منها)؛ ارتباك بل فوضى في اختيار الوسائل طالما أنّ الأهداف النبيلة غائبة. وإن وُجدت الوسائل فهي ضعيفة ضُعف الأغراض قصيرة المدى التي يناضل من أجلها الشعب وحتى القيادات. فلا يوجد توازن و لا هُم يحزنون لأنّ البعد الحضاري للأهداف المفترض توفره قبل الشروع في النضال من أجل الأهداف الصغرى وقصيرة المدى غير متوفر الآن.
هكذا سيبقى الاجتهاد الديني مستعصيا على القائم به طالما أنّ النتائج التي توصل إليها الاجتهاد الجديد، الدائري والشكلي والمنهجي، لم تبلغ المستوى المطلوب لتمكين الاجتهاد الشرعي من تفعيل قابليته للتدخل. وقد يكون هذا كافيا لتفسير عجز الفقه الإسلامي حاليا عن مواكبة أخطر التطورات الاجتماعية وأحدثها، على غرار ثورة العرب. فيمكن القول إذن إنّ باب الاجتهاد قد فُتح أحدُ مصراعَيه وبقي الثاني في وضع انتظار؛ انتظار استكمال الشروط الضرورية لإتمام الثورة، والموصوفة أنفا.
الاجتهاد الثالث
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
محمد الحمّار

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat