صفحة الكاتب : عماد يونس فغالي

أبو نواس من المعاناة إلى التوبة
عماد يونس فغالي

إذا ذكرتَ "شعرَ الخمرة" ولم تزِدْ"، لا يحتاج سامعُكَ سؤالاً أو استزادة. ففي ذاكرة العامّة، ودون أهل الفكر والأدب حتى، منذ العصر العبّاسيّ إلى يومنا، بل إلى انقضاء الدهر، اسمٌ واحدٌ يُلهِب: أبو نواس. فقيل: "أشعَر الناس في وصف الخمرة ثلاثة: الأعشى والأخطل وأبو نواس". غير أنّ الأخير برز "الزعيمَ الأكبر الذي تؤوب الخمرة إلى كنفه في مجال الاعتداد". ذاك أنّه خصّص قصائدَ بكاملها، لاهبةً في وصف الخمرة التي احتلّت معه مكانةً إنسانيّةً، أصبحت شقيقةَ روح، وأضحت كائنًا حيًّا له أشكالُه البديعة ومفعوله العجيب":

"خلَوتُ بالراحِ أناجيها آخذ منها وأعاطيها"

وفي مخزون الناس الفكريّ أبياتٌ لأبي نواس يوافونكَ بها في نقاشاتهم وتحجّجاتهم، ولو في محفوظهم غيرُ سالمة! فمقولاته الشعريّة تحتلّ مكانة الحكمة البشريّة في عالم الخمرة واللهو، ولا عجب! فشاعرُنا يتلألأ علَمًا في فنّه، لِما أطلقَ من محظورٍ صار في الشعر لونًا أدبيًّا، وفي السلوك الإنسانيّ منحىً متَّبعًا مستساغًا. فلمّا جاء الإسلام، شدّد كتابه الكريم على الخمرة الخناق. فصار يشربها الناس، بعضُهم، سرًّا، لأنّها في مفهوم القرآن "إنّما الخمر... من عمل الشيطان..." وأعرض عنها شعراء عصر صدر الإسلام في شعرِهم، ولو شربها البعض في الخفاء كحسّان بن ثابت مثلاً. وفي العصر الأمويّ، عندما برز الأخطل، وهو غيرُ مسلم، يشرب الخمرة ويصفها ممعنًا في شعره، متتبِّعًا آثار الأقدمين، كالأعشى على سبيل المثال، لم يخصّها بقصائدَ مستقلّة. وقد يكون هذا من باب احترام البيئة الإسلاميّة، أو خوفًا من الجهر بذلك في أجوائها. لتصير خصوصًا في شعر أبي نواس كما ذكرنا، فنًّا خاصًّا ونوعًا أدبيًّا تجد له القصائد، لا تصفه فحسْب، بل تقيم الخمرةَ سيّدةً إلهة، لها الإكرام حتى العبادة: 

ما زلتُ أستلّ روحَ الدنّ في لطُفٍ وأستقي دمه من جوف مجروحِ

              حتى اثنيتُ ولي روحانِ في جسدٍ      والدنّ منطــــــرحٌ جسمًا بــلا روحِ

وراح في هذا المجال حتى الدعوة إلى احتساء الخمرة علنًا، متحدّيًا كلّ تعليمٍ دينيّ وتحريمٍ إسلاميّ يطالها:

ألا فاسقِني خمرًا وقلْ لي هي الخمرُ ولا تسقِني سرًّا إذا أمكنَ الجهرُ 

غير أنّ صيرورة الشاعر إمامًا في عالم الخمرة وسيّدًا في أدبيّاتها، لم يأتِ خيارًا منه حرًّا. بل تَشكَّلَ نتيجةَ ظروفٍ قاسية، تألّبت على طفولته، وعاثت بشخصيّته الطريّة فسادًا مجتمعيًّا وإنسانيًّا فاضحًا، تملّكت في نفسه ألمًا مستشريًا ومعاناة مريرة، لاذ بالفرار منها إلى عالمٍ صار رائدَه! 

كان لموت أبيه وهو بعدُ ابنُ سنتين، طَبْعُ مصير قاتم على مجرى يفاعه الذي الْتَوَى. فالأمّ الجانحة دفعت بأمومتها عنه وسلّمته مهبّ الحياة الهادرة. هناك، بعيدًا عن كلّ وقاية، حيث نفاث موبقات الناس سمٌّ زعاف، التقى فتانا والبةَ بنَ الحُباب، الذي وجد فيه نجابةَ الأذكياء وبواكير النوابغ، فضمَّهُ إلى مجالسه الملأى بالفساد، تحت ستار الأدب والشعر، فغشي فيها، وما كان له "من سكرَين من بدِّ". وانحازت الملَكة الشعريّة في نفسه، جاريةً مطواعةً لسيّدة حياته ومتنفّس وجوده. فبات ينظم للخمرة ومجالسها، وكيف لا، وهو في حالةٍ دائمة يُتعتعه السكرُ. وما كان ينقصه في غمرة انحداراته إلاّ مقتل ملجئه، الخليفة الأمين، الذي عاش في كنفه محاطًا مكرَّمًا، ليفقدَ كلّ أملٍ بحياةٍ آمنة سعيدة، على ما قيل:

أعلّل النفسَ بالآمال أرقبها ما أضيقَ العيشِ لولا فسحةُ الأملِ

ملكت على نفس أبي نواس إذًا، منذ اليفاع، نزعتان أحكم لهما كيانه جسدًا وفكرًا: الخمرة والأدب، حتى تماهيا، فصار أبو نواس شاعر الخمرة بامتياز والخمرة سيّدة شعره وملهمتَه. وأهمّ ما يُلفت في تكوّن اللون الشعريّ في القصيدة النواسيّة، تحرّرٌ مطلق من كلّ تقليد. تمزُّقُ كلّ رباطٍ بشعر ما قبل. فلا بعدُ وقوفٌ على الأطلال ولا إنشاد بطولات، بل فقط وصف خمرةٍ ومجلسِ سكر، وازدراءٌ فاضح بما تقدّم. هوذا شاعرنا يهتف:

فقل لمن يبكي على رسمٍ درسْ واقفًا! ما ضرّ لو كان جلسْ

وقال أيضًا:

عاج الشقيّ على رسمٍ يضارسُه وعجتُ أسألُ عن خمّارةِ البلدِ

وفي معرِضٍ آخر:

لا تبكِ ليلي ولا تطربْ إلى هندِ واشربْ على الوردِ من حمراءَ كالوردِ

ولنا في مطوّلاتٍ خمريّة جنائنُ غنّاء في عالم تحلّ فيه صهباؤه مكانةَ الإله، ويستحيل مجلسها طقوسيّةً  يقدّم في محفلها للراح عبادةً! وقمّة التصوّف في حضرة "الإلَهة" سكرٌ متواصل وانغماسٌ في الموبقات! وكأنّي بالصحو عنده، وهو حالةٌ مريرةٌ لِما يذكّره بقساوة الدنيا وظلم دهره، بعَضُ كفر! بديهيٌّ القول هنا إنّ شاعرَنا عاذرٌ نفسَه لِما هو فيه. وهو في طبيعة الحال مُلامٌ دومًا من المجتمع "الواعي" الذي حوله، خصوصًا أئمّة الدين والمتديّنين. فهو إن كان هنا، لأنّ خشونة الظروف التي عاناها فرضت عليه "انزلاقه" هذا. وأيّ وقوفٍ إلى جانبه وَجد ممّن نصبوا أنفسهم في خدمة المجتمع والإنسان! فأيّة مسؤوليّة يُراد أن يتحمّل جرّاءَ ما تعرّض له! "مسكين أبو نواس! ظنّ أنّ مزج الهمّ بالخمرة يُذيب همّه، غير عالمٍ أنّ الكأس تفرغ من الخمر وتبقى الهموم في قرارتها، جاثمة لا تزول". 

لكنّ الأمر لم يكن قاتمًا على الدوام. فكانت للشاعر أويقاتُ صحوةٍ تنضح بارقاتِ إيمانٍ بل توبة، ملأى أحيانًا بالمبادئ العليا، لم تكن لتُسمَع أنغامها في ضجيج الشهوات وصخَب الممارسات الشاذّة! في صحواته المريرة، حيث شعورٌ بالألم العميق الذي تملّكَ في حياته، ها هو يدرك حقيقةً فرضت نفسها على شعره، بل غيّرت تباعًا مجرى حياته نحو العُلى، حيث التوجّه قلنا، طريقٌ وحيد يرجوه شبهَ أكيد. وضحت في رؤيا الشاعر صورةُ النهاية، انجلى وجه الموت وما يقود إليه. قال:

ألا يا موتُ لم أرَ منكَ بُدًّا قسوتَ فما تكفّ وما تحابي

كأنّكَ قد هجمتَ على حياتي كما هجم المشيبُ على الشبابِ...

... سأُسألُ عن أمورٍ كنتُ فيها فما عذري هناكَ وما جوابي؟

بأيّةِ حجّةٍ أحتجُّ يوم الحسا بِ إذا دُعيتُ إلى الحسابِ؟

 هذا الوعي المرّ لواقع الموت ولّد في الشاعر رعبًا من المصير الآتي، ما أدّى به إلى توبةٍ تستجير بالرحمة الإلهيّة الكبرى. وهو على يقين أنّ رحمة الله أكبرُ من الفظائع التي أتاها، طامعًا بقدرتها على المحو والعفو:

تعاظمَني ذنبي فلمّا قرنتُه بعفوكَ ربّي، كان عفوُكَ أعظما!

ورُبّ معتقِدٍ أنّ توبة أبي نواس ليست حقيقيّة، ولا تنبع من عودةٍ صادقة إلى الأحضان الإلهيّة، إنّما هي 

عجزٌ عن المتابعة في الانغماسات وعن مواصلة التلذّذ بالشهوات. وهي تخبُّطٌ في الواقع الآثم الذي بدأ يرذله، لِما أرسى في جسده من عاهاتٍ لا بُرءَ منها! وهو القائل:

دبّ فيّ السقامُ سفلاً وعُلْوا وأراني أموت عضوًا فعضوا

لهفَ نفسي على ليالٍ وأيّا                مٍ قضيتُهنّ لعبًا ولهْوَا 

وأسأنا كلّ الإساءةِ يا ربّي فصفحًا عنّا إلهي وعَفْوَا

إنّ هذا في ظاهره لَممكن! لكنّ من يقرأ شعر أبي نواس في هذه المرحلة ، ومن الناحية التي نحن في صددها، يجد أنّه على الرغم من التراث الشعريّ في الإباحيّة الذي يلهبه التهتّك الفاجر، يترك لنا في الزهد أقوالاً تنضح باليقظات الدامعة، فيلتقي العهر والطهر، وتلتقي االخمور بالعطور! بتعبيرٍ آخر، إنّكَ تقرأ نفحاتٍ إيمانيّة يفوح منها شذا الحكمة الواعظة، وتدعو إلى العودة عن الطيش إلى إصلاح الذات:

حتى متى يا نفسُ تغتّرّ ينَ بالأكل الكَذوبِ

يا نفسُ توبي قبلَ أن لا تستطيعي أن تتوبي

واستغفري لذنوبكِ ال رحمنَ غفّارَ الذنوبِ 

 

لستُ في ما سبق، أقدّم دفاعًا عن أبي نواس، الشاعر الذي خَلُد، وصاحب القصيدة الخمريّة التي طبعت على الدوام، أدبَ اللهو والخمرة، بطابع الفنّ الإبداعيّ بامتياز. وهو كما سبق وذكرنا أعلاه، راحت مقولاته في هذا اللون، موضع الحكمة والإرشاد الإنسانيّ. ولكن، حقَّ لشاعرنا الذي تمرّس "بالآفات" بحسب الواقع المجتمعيّ والدينيّ الذي عاش فيه، أن يُنظرَ إليه إنسانًا قبل كلّ شيء. وإنسانًا لم يعِشْ طفولةً صحيحة وشبابًا طبيعيًّا  ليُحكمَ عليه وفق طبيعة المجتمع والسلوك الدينيّ الذي انتمى إليه. خصوصًا أنّ معاناته والظروف التي رمته في وحول الحياة، جاءت أساسًا من حيث تخرجُ الملامة. وفي هذا بعض تجنٍّ!

حريّ الإقرار أنّنا أمام عظيمٍ من شرقنا ترك في مآثره إرثًا لا يموت. زخرًا أدبيًّا مميّزًا في لونٍ قلّ ما تجد له 

ثقافتنا العربيّة مثيلاً من جهة، وأمثولةً إنسانيّة في التربية المجتمعيّة التي يليق بروّادها أن ينظروا بمسبّباتها والمفاعيل، من جهةٍ أخرى. علّ أجيالاً بشريّة تسمو في ارتكازها إلى سقطاتٍ وعثرات!  

في 30 أيلول 2013


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عماد يونس فغالي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/10/09



كتابة تعليق لموضوع : أبو نواس من المعاناة إلى التوبة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net