الحوار الوطني التونسي والحاجة لمبادرة استثنائية
محمد الحمّار
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
محمد الحمّار

هنالك سؤال كنا عاقدين العزم على طرحه على الرباعي الراعي للحوار الوطني أثناء الندوة الصحفية التي عقدها في يوم السبت (21 سبتمبر الجاري) لكن للأسف لم يتسنّ لنا ذلك :
"ألا ترون أنّ تسييس الرباعي الراعي للحوار يشكل عائقا أمام تقوية المعارضة من حيث إمكانية توليدها لتصورات سياسية تقلب الأوضاع لفائدتها ولفائدة هدف الوفاق بينها وبين الترويكا التي تقودها النهضة، وهل أنّ هذا ليس سببا في تمادي النهضة في المماطلة والتسويف؟"
لا ننكر أنّ سؤالنا كان من الصنف الاستنكاري والذي يحمل الإجابة في طياته. لذا سوف نحاول الاستناد إليه في مرحلة أولى لإبداء بعض الملاحظات حول تسبب الوساطة الرباعية (اتحاد الشغل ومنظمة الصناعة والتجارة ورابطة حقوق الإنسان وهيئة المحامين) في تعقيد الوضع السياسي العام أكثر من تسهيلها لحلحلته، وفي مرحلة موالية لمحاولة التعرض إلى الحواجز التي تحول دون الوفاق.
بادئ ذي بدء نعتقد أنّ تربع الرباعي على عرش الحوار الوطني وتسييره يعتبر من جهة تخليّا لهذه المنظمات عن استقلاليةٍ لطالما جلبت لها الاحترام والتقدير، ومن جهة أخرى وصايةً على المعارضة وفسخا لدورها الأصلي والمتمثل في التواصل المباشر مع منظوريها ومع الشعب كله.
كما أنّ تأكيد الأمين العام لاتحاد الشغل على أنّ الحوار لا يمكن أن يتمّ دون مشاركة "أكبر حزب في البلاد" لم يثنِ قياديي الحزب نفسه عن اتهام المنظمة الشغيلة وأمينها العام بالانحياز وعدم ملازمة الحياد (سجلنا ذلك من خلال مختلف ردود الفعل الفورية على مضمون الندوة من خلال بلاتوهات التلفزة والمواقع الاجتماعية في ليلة السبت). وهذا مما يلخص كل التناقض المنجرّ عن اختيار هذه المنظمة (وبقية الرباعي) الاضطلاع بدور الحكَم والخصم في الآن ذاته. فالنهضة تهاجم الاتحاد كخصم، وهي محقة في ذلك إجمالا، والمعارضة تؤيدها بصفتها حكَما، مع شكّنا في كونها محقة في ذلك.
أما تشديد الأمين العام لاتحاد الشغل، أثناء المؤتمر الصحفي، على أنّ النهضة أكبر حزب في البلاد وعلى أنّ الحوار لا يمكن أن يتواصل من دونه، لئن كان في ظاهره عادل ويؤشر على الواقعية السياسية إلا أنه لا يتناسب مع معطى أساسيا لولاه لما تأسس الرباعي ولما توجّب الحوار. والمعطى يتمثل في فشل هذا الحزب في الوفاق مع المكونَين الآخرين للترويكا من جهة وفي تسيير دواليب الحكم من خلال حكومة نالت سخط الفئات العديدة من الشعب.
إنّ ازدراء الرباعي بهذا المعطى و إسناده لحزب النهضة حجما يفوق حجمه الحقيقي الذي يتسم به في الآونة الحالية، دليل على سوء قراءة للواقع (المحلي والإقليمي وعلى الأخص أثار اندثار النسخة الأصلية من الفكر الإخواني في مصر) من طرف الرباعي، مما دفع به إلى الترددّ والتذبذب في مواقفه وذلك باتجاه الرضوخ للمماطلة والتسويف الذي فرضه حزب النهضة على المسار الحواري.
فهل أنّ كِبرَ حزب النهضة، و أيّ حزب آخر، يقاس بمعايير نتائج الانتخابات السابقة أم بمعايير النتائج الملموسة لسياسته الحالية؟ وأليس في التنكر لهذا المعطى تدعيم منحاز و غير منطقي لما يسمى بالشرعية (والتي غمرتها شرعيات و"مشروعيات" وأفقدتها معناها الأصلي) وبالتالي تدجين للمطلب الرئيسي للشعب الذي تأكد بعد اغتيال الشهيد محمد البراهمي والذي يتمثل في المطالبة بحل المجلس التأسيسي والحكومة وسائر الهياكل المنبثقة عن المجلس؟ أي أليس تغييب المعطى الآني تنكّرا لمشروعية المطلب الشعبي الآني على حساب شرعية تعود إلى سنتين خلت؟ وأليست المماطلة التي أضحت محسوبة أيضا على الرباعي الراعي هي النتيجة الطبيعية لهذا التناسب الغريب بين التغاضي عن مشروعية الحاضر (كسببٍ حقيقي لكنه غير معلن) وفشل الحوار (كنتيجة معلنة).
ومن الملاحظات الأخرى التي سجلناها على إثر معاينة التعثر الجديد والمتجدد للحوار الوطني نذكر تشبث كل الأطراف، بما فيها النهضة، بمقاربة خاطئة في تعاملها مع الوضع السياسي، وهي المقاربة التي ترتكز على عقيدة خاطئة مفادها أنّ حزب النهضة الديني يتساوى مع الأحزاب غير الدينية في طريقة التفكير السياسي وفي طريقة التحاور وبالتالي فإنّ لا شيء حسب هذا المنطق يمنع النهضة من مواصلة الحوار مع الفرقاء وأنّ لا شيء يحول دون أن تتغير مواقفها فتقبل بخارطة الطريق لمبادرة وطنية واضحة.
لقد أكدت الأحداث، لا سيما العودة إلى نقطة الصفر بخصوص تطور الحوار كما ثبت من خلال الندوة الصحفية وما تلاها من تفاعلات، أنّ هذه العقيدة خاطئة لأنها قفزة على المساواة بين الأحزاب. وذلك مردّه أنّ المؤمنين بها يريدون أن يعدلوا بين هذه الأخيرة دون اعتبار الفوارق بين الأحزاب المدنية من جهة والحزب الديني من جهة ثانية. إنهم يريدون أن يعدلوا دون اعتبار عامل المساواة. ما من شك إذن في أنّ العقيدة التي تسند هذا الموقف إنما هي وَهم معطل لتطور الحوار ولنيل الوفاق.
إنّ الأطراف الفاعلة، بما فيها النهضة، لا تدرك أنّ بمفعول هذا الوهم لم يعد الوفاق المنشود مسألة سياسية بقدر ما هو مسألة ميطا- سياسية تتطلب تهيئة الطرفين أو الشقين الكبيرين، المدني والديني. وهنا يكمن الوجه الاستثنائي للسياسة في تونس، وفي المجتمع العربي الإسلامي عموما، مقارنة بما ألِفناه من علم السياسة المستورد عن الغرب. وهو استثناء ذي طبيعة منهجية و بُعد حضاري وليس مسألة عرَضية أو إجرائية أو تقنية.
في هذا السياق، إن كان الطرف المدني يستوجب نقد الفكر الذي تنبثق عنه سلوكيات حزب النهضة السياسية، وهو فكر ذو مرتكزات من أهمها "الحاكمية لله" و"تطبيق الشريعة"، فإنّ الطرف الديني النهضوي بحاجة ماسة للتدرب على نقد الفكر غير الديني لفرقائهم (نمتنع بشدة عن استعمال مفردة "علمانية" لما تحمله من بذور الفرقة والشقاق) عساهم يثبتوا للشعب أنّ هذا الفكر غير معبّر عن الشخصية والهوية العربيتين الإسلاميتين.
بالنهاية ولكي نكون عمليين، كما يريده لنا الإسلام الحنيف، نقترح أن يتوفر لدى كافة الأطراف النخبوية الفاعلة فكر الاستثناء وكذلك ثقافة الاستثناء. ومن ثمة فلا مفرّ من إدراج مبادرات استثنائية تعنى بالواجهة الميطا – سياسية التي بقيت يتيمة مع أنها روح القرار وروح الوفاق.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat