لماذا يعادون السيستاني ؟

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
يواجه آية الله السيستاني بين حين وآخر انتقادات لاذعة من قبل متشددي السنّة والشيعة معاً، حيث إن كل من الفريقين يطلب منه الخوض في تيار الإسلام السياسي لمصلحة الأيديولوجية المذهبية التي ينادي بها. هذا والسيستاني التزم طوال مرجعيته بمبدأ فصل الدين عن السياسة والاكتفاء بدعم الحكم المدني المنطلق من الإرادة الحرة للشعوب.
تعتبر منهجية السيستاني المعتدلة إحدى الخصائص التاريخية لحوزة النجف التي تمثل المؤسسة التقليدية للشيعة في العالم. وعليه لم ينادِ أي من مراجع النجف بمشروع الإسلام السياسي والمطالبة بتأسيس نظام إسلامي وفقاً للنماذج المختلفة للأصوليات الدينية السائدة حالياً في المنطقة.
وترتبط الرؤية السياسية للنجف بالمبادئ اللاهوتية لعلمائها حيث اعتبروا أن ليس لأي أحد، أياً كان، أن يفرض إرادته على الآخرين بالقهر والسلطة، ما يعبر عنه فقهياً بأصل «عدم الولاية»، والذي يقول إن «الأصل الأولي هو عدم ثبوت ولاية أحد على أحد إلا في ما ثبت بدليل قطعي»، والدليل القطعي يشمل حالات الضرورة فقط التي لا يختلف فيها أحد، كولاية الأب على أولاده الصغار أو الولاية على القاصرين وذوي الحاجات الخاصة وغيرهم. فالإنسان وليّ نفسه، حرّ بطبيعته ومن حقه التعبير عن إرادته وتقرير مصيره.
وقد طور السيستاني فكرة حرية تقرير المصير، حيث عتبر أن الإنسان وليّ نفسه وليست هناك قيمومة لأي شخص على آخر. وعليه طالب باندماج المكونات الشيعية في العالم ضمن مجتمعاتهم من دون الانخراط في مشاريع الأيديولوجيات السياسية، وحضّهم على اتباع الطرق السلمية في المطالبة بأي حق يرون أنه قد أُخذ منهم، وشدّد في الوقت نفسه على احترام القوانين المشرّعة والالتزام بها وفق الآليات الديموقراطية وإن لم يرضوا بها.
وقد اعتبر فقهاء النجف أن التصدي لتطبيق الشريعة ليس من صلاحيات أي فقيه أو حاكم في العصر الحاضر، بل إن له تداعيات على المجتمعات الإسلامية، ما يفسر اجتناب السيستاني المطالبة بحكم إسلامي في العراق، بل إصراره وإلحاحه المستمر على إجراء الانتخابات وتشريع دستور ديموقراطي يضمن إقامة نظام مدني يحترم الهوية الثقافية للشعب العراقي في أسرع وقت ممكن.
وبما أن النجف لم يدع إلى حكومة دينية، بل كان وما زال يطالب بحكومة مدنية، لم يسمح السيستاني لأتباعه من رجال الدين بالتصدي لمناصب الدولة، وهذا نابع من اعتقاده بأن الدين حالة أبوية روحانية للبشرية جمعاء، وهو طالما حضّ على التماشي مع النظريات العصرية والقوانين الدولية والديموقراطية، وحق الشعوب في تقرير المصير، والتداول السلمي للسلطة.
وقد ساهم السيستاني بوقف نيران الحرب الطائفية في العراق بتحريم العمل الميليشياوي والقيام بردّ فوضوي على استهداف مناطق ذات غالبية معينة. وصرّح مراراً بأن أهل السنّة ليسوا فقط إخواناً للشيعة، بل هم الشيعة ذاتهم، ونادى بوجوب حماية المكونات الدينية في البلد وضمان حرياتهم الدينية والمدنية ومقدساتهم ورموزهم الاجتماعية.
وفي السياق نفسه منع المحاولات السياسية للعمل التبليغي الديني الذي من شأنه أن يثير حساسيات طائفية، قائلاً: «ليبق كلّ على دينه ومذهبه الذي يرضاه، مع احترام الآخر وقبوله والتعايش معه بمودّة وأخوّة». وبخصوص الأزمة السورية، اعتبر أن حق تقرير المصير من الحقوق الثابتة لكل الشعوب من دون استثناء، وأنه ليس للشيعة أن يتدخلوا في القتال الطائفي في سورية لمصلحة أي جهة من الجهات، وأن من يذهب هناك للقتال يخالف توجيهات المرجعية.
جعلت تلك المواقف الإنسانية والحكيمة من السيستاني رجل المحبة والسلام في منطقة تعيش أحد أسوأ حالات القتال الطائفي في تاريخيها القديم والحاضر. وهو رجل يعيش في دار بسيطة في أزقة المدينة العتيقة في النجف، ويذكرنا بمنهجه وأسلوب حياته بعمالقة السلام العالمي من أمثال المهاتما غاندي. لقد أوقف دوامة العنف في العراق ومنع الانجرار نحو الهاوية، وهو بهمّه الإنساني لا يفرق بين مسلم ومسيحي أو غيرهما من أي انتماء آخر، ممتنعاً عن الخوض في الخلافات السياسية الضيقة وفي الصراعات الطائفية، ما جعل لصمته أحياناً دلالات وتأثيرات أعمق من تصريحاته.
هذا الموقف الإنساني والصمت البليغ المتمنع عن الدخول في فتنة تيارات الإسلام السياسي المتصارعة، جعل تلك التيارات ألدّ أعداء السيستاني، فانتقده متشددو السنّة لعدم إصداره فتاوى جهاد ضدّ هذا وذاك كما يفعل رجالهم بكل سهولة، واعتبره أتباع متشددي الشيعة بأنه متهاون وصامت وضعيف. وفي آخر تصريح لأحد طلاب العلوم الدينية في قم، في القناة الرسمية الإيرانية، وهو من أتباع ولاية الفقيه، اعتبر مراجع النجف في غيبوبة عن الشأن العام لأنهم يجتنبون الخوض في تفاصيل العمل السياسي ويمتنعون عن إصدار الفتاوى في شأن الأحداث الجارية هنا أو هناك.
هذا، في حين أن ما يجري في المنطقة من صراع طائفي دموي راح ضحيته مئات الآلاف حتى اليوم، لم يتحمل مسؤوليته سوى تلك التيارات المتشددة من السنّة والشيعة الذين ليس لهم همّ إلا إقامة نظام ديني طائفي لا يوجد أي نموذج إيجابي عنه في السابق والحاضر. 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/08/10



كتابة تعليق لموضوع : لماذا يعادون السيستاني ؟
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net