بسم الله الرحمن الرحيم
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ{11}
مما يروى في سبب نزول الاية الكريمة انها نزلت لما استعجل المشركون العذاب ( تفسير الجلالين للسيوطي ) , ونستقرأها في موردين :
1- ( وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ) : يشير النص المبارك ان الله تعالى لو عجل للمشركين العذاب كما يستعجلون الخير لقضي اليهم اجلهم بالموت والهلاك , نستشف من النص المبارك عدة امور منها :
أ) المرء الذي لا يؤمن بالاخرة مثلا , ينبري لطلب اثباتات عاجلة من الذين يؤمنون بها , والا أعرضوا عنها , كأنه سوف يؤمن عند حلول عذاب عاجل ! .
ب) الانسان في طبيعته يستعجل الخير , ويطلب ويتمنى تأخر وتأخير الشر والمحذورات .
ت) الله عز وجل يمهل ولا يهمل , يعجل الخيرات , ويؤجل الشر والمحذورات , لا يخفى على احد ما لذلك من المعاني السامية , ولعل ابرزها ( المهلة ) حتى يعي الكافر وغيره ما هم عليه .
2- ( فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) : تضمن النص المبارك امهالا للذين لا يؤمنون بيوم البعث والنشور في ظلمهم واجحافهم متخبطين , متحيرين .
وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ{12}
نستقرأ الاية الكريمة في ثلاثة موارد :
1- ( وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً ) : من عادات الانسان وطبائعه , ان يشعر بالضعف عند نزول الملمات , كالفقر والمرض وغيرها , فيتوجه الى قوى يعتقد انها اقوى الموجودات , يمكنها دفع ما هو فيه من البلاء والشدة , كغريق يبحث بجد عن ما يمكنه ان يتشبث به , فلن يجد غير الله القدير المقتدر , فيتوجه اليه بقلب مخلص , وايمان بالغ , على اي هيئة كان ( لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً ) .
2- ( فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ ) : يبين النص المبارك حقيقة من حقائق الانسان ( ليس جميع الناس , بل ربما الاعم الاغلب ) , انه بعد ان يكشف الله تعالى ما كان يشكو , مر على كفره وطغيانه , كأن شيئا لم يحدث , وهذه تضاف ايضا الى طبائع الانسان , فهو سريع النسيان , سريع الغفلة ! .
3- ( كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) : بنفس الطريقة , كما ان هذا الانسان يتذكر وينيب ويتضرع الى الله تعالى في وقت الشدائد وفي محل الابتلاءات , لكنه ينسى ويغفل ويتغافل نعمة المنعم وشكره عليها , عندما يهيئ الله تعالى له اسباب النجاة منها , كذلك هو الحال بالنسبة للمسرفين , الذين اسرفوا في التجريء والاعتداء بكل الصورة المتاحة لهم في الكذب على الله تعالى ورسله وانبيائه وغيره .
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ{13}
تبين الاية الكريمة ان الله تعالى اهلك الامم السابقة كعاد وثمود وغيرهم , وتذكر سببين لاهلاكهم :
1- ( لَمَّا ظَلَمُواْ ) : بالشرك والمعاصي .
2- ( وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ ) : يشير النص المبارك ان الله تعالى لم يهلكهم من غير حجة او بينة , فقد ارسل لهم الرسل , ومعهم المعاجز الباهرة والبراهين القاطعة , لكنهم لم يؤمنوا رغم ذلك كله .
فكان الهلاك هو الجزاء الاوفى في حقهم ( كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ) , الذي ( نوع الهلاك ) كان يعتمد على نوع الجرم , وسبل تطهير الارض من ادرانه ( كما اشرنا الى ذلك مسبقا ) .
ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ{14}
يتبين من الاية الكريمة ان الله تعالى عندما يأمر بهلاك قوم يستخلف غيرهم , حتى وصل الامر ( بالاستخلاف ) الى اهل مكة , ( لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) , يلاحظ ( لِنَنظُرَ ) , حيث وضع النظر مكان الرؤية , ان المصدر من ( لِنَنظُرَ ) يشتمل على عدة معاني فمنها الرؤية ومنها الانتظار , فيكون بذلك اعم واشمل من المصدر ( رأى - يرى ) .
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ{15}
تبين الاية الكريمة , ان الرسول الكريم محمد (ص واله) عندما يتلو عليهم ايات القرآن الكريم بالبيان اللازم والمطلوب , يجد ويكتشف الذين لا يؤمنون بلقاء الله تعالى في يوم الحساب انها تتضارب وتتقاطع مع مصالحهم , مبتغياتهم واهوائهم , فيردون عليه (ص واله) ( ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ ) , اخرج اواظهر لنا غير هذا القرآن , او بدله من تلقاء نفسك , لكي يتوافق مع مصالحهم واهوائهم ولا يتقاطع معها , فيأت الرد منه جل وعلا لرسوله الكريم ( ص واله) ان يقول :
1- ( قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي ) : في هذا النص المبارك اثباتا لنبوته (ص واله) , فلو كان القران الكريم منه (ص واله) لاستجاب الى طلب القوم , وبدل وغير فيه بما يتناسب واذواقهم , لكنه (ص واله) اثبت انه من عند الله تعالى , فلا يسعه (ص واله) التغيير والتبديل .
2- ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ) : {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى }النجم4 .
3- ( إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) : النبي الكريم محمد (ص واله) بعيد كل البعد عن معصية الله تعالى , وبذلك هو في مأمن من العذاب ( بل لا يمكن ذلك ) , فيبدو انه (ص واله) اراد الاشارة الى انه هو شخصيا قد يتعرض الى العذاب حين مخالفته اوامر الله جل وعلا , فما بال غيره (ص واله) من العصاة من الناس ! .
قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ{16}
يستمر التوجيه الرباني للرسول الكريم محمد (ص واله) في افحام الكفار والرد عليهم , ( قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ ) , امر نزول القرآن الكريم وتلاوته والابلاغ به متعلق بمشيئته عز وجل , ( وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ ) , وكذلك تعليمه لكم , ( فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ ) , المعلوم ان النبي الكريم (ص واله) كان في الاربعين من العمر عند نزول القران الكريم عليه , امضاها في العيش مع اهل مكة , ولو كان القرآن الكريم قد اظهره (ص واله) من تلقاء نفسه لاظهره قبل تلك المدة , ( أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) , افلا عقلتم ذلك وتأملتموه وتدبرتموه ففهمتموه .
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ{17}
نستقرأ الاية الكريمة في موردين :
1- ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ) : يؤكد النص المبارك ان لا ظلم اشد واكثر غلظة من موردين :
أ) ( مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً ) : الافتراء على الله تعالى كنسبة الشريك والابن والبنت له تعالى عن ذلك علوا كبيرا .
ب) ( أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ) : القرآن الكريم .
2- ( إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ) : يحكم النص المبارك عليهم بحكمين :
أ) ( إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ) : ان هؤلاء ( المفترين على الله تعالى والمكذبين بآياته ) لا يفلحون .
ب) ( الْمُجْرِمُونَ ) : ان النص المبارك عدهم وادرجهم في جملة ( الْمُجْرِمُونَ ) .
مما يروى في سبب نزول الايات الكريمة ( 15 – 17 ) , انها ( نزلت في عدة نفر من عبدة الاوثان الذين قالوا : ان ما ورد في هذا القرآن من الامر بترك عبادة اصنامنا الكبيرة , اللات والعزى ومناة وهبل , وذم هذه الالهة , مما لا يمكن ان نتحمله , فأذا اردت ان نتبعك فأت بقرآن اخر لا يوجد فيه هذا الذم والتوبيخ لالهتنا ) ."مصحف الخيرة / علي عاشور العاملي".
وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ{18}
نستقرأ الاية الكريمة في ثلاثة موارد :
1- ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ) : هؤلاء المشركين اتخذوا آلهة لا تضرهم ان لم يعبدوها , ولا تنفعهم عبادتها في شيء .
2- ( وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ) : كان المتعارف لدى مشركي مكة , انهم يقولون ( انما نعبد هذه الالهة لتقربنا الى الله , فيكونوا لنا شفعاء عنده ) .
3- ( قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) : كان مشركي مكة ينسبون الشريك له تعالى , وكذلك يدعون ان الملائكة بنات الله , تعالى عن ذلك علوا كبيرا , فلو كان ذلك صحيحا لعلمه جل وعلا الذي لا تخفى عليه خافية في السموات ولا في الارض .
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ{19}
نستقرأ الاية الكريمة في موردين :
1) ( وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ ) : يشير النص المبارك على نحو التأكيد ان الناس كانوا على ملة ودين واحد ( من لدن آدم إلى نوح ، وقيل من عهد إبراهيم إلى عمرو بن لحيّ ) "تفسير الجلالين للسيوطي" , حتى وصلوا الى نقطة الاختلاف والتفرق , ثبت بعضهم , ليكفر البعض الاخر .
2) ( وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) : ولولا وعده وكلمته جل وعلا بتأخير العذاب الى يوم القيامة لقضي بين الناس في الدنيا .
وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ{20}
نستقرأ الاية الكريمة في موضعين :
1- ( وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ) : تضمن النص المبارك اقتراحا لاهل مكة , يقترحون فيه ان ينزل الله تعالى عليه (ص واله) آية من ربه , كما كان للاقوام السابقة من ايات كناقة صالح وعصا موسى (ع) ... الخ .
2- ( فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ) : تضمن النص المبارك الرد على مقترحهم , وفيه توجيهين :
أ) ( فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ ) : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً{26} إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً{27} ) سورة الجن .
ب) ( فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ) : الانتظار هنا يشير الى امرين :
1- انتظار الثواب للمؤمنين .
2- انتظار حلول العقاب على الكافرين
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
بسم الله الرحمن الرحيم
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ{11}
مما يروى في سبب نزول الاية الكريمة انها نزلت لما استعجل المشركون العذاب ( تفسير الجلالين للسيوطي ) , ونستقرأها في موردين :
1- ( وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ) : يشير النص المبارك ان الله تعالى لو عجل للمشركين العذاب كما يستعجلون الخير لقضي اليهم اجلهم بالموت والهلاك , نستشف من النص المبارك عدة امور منها :
أ) المرء الذي لا يؤمن بالاخرة مثلا , ينبري لطلب اثباتات عاجلة من الذين يؤمنون بها , والا أعرضوا عنها , كأنه سوف يؤمن عند حلول عذاب عاجل ! .
ب) الانسان في طبيعته يستعجل الخير , ويطلب ويتمنى تأخر وتأخير الشر والمحذورات .
ت) الله عز وجل يمهل ولا يهمل , يعجل الخيرات , ويؤجل الشر والمحذورات , لا يخفى على احد ما لذلك من المعاني السامية , ولعل ابرزها ( المهلة ) حتى يعي الكافر وغيره ما هم عليه .
2- ( فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) : تضمن النص المبارك امهالا للذين لا يؤمنون بيوم البعث والنشور في ظلمهم واجحافهم متخبطين , متحيرين .
وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ{12}
نستقرأ الاية الكريمة في ثلاثة موارد :
1- ( وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً ) : من عادات الانسان وطبائعه , ان يشعر بالضعف عند نزول الملمات , كالفقر والمرض وغيرها , فيتوجه الى قوى يعتقد انها اقوى الموجودات , يمكنها دفع ما هو فيه من البلاء والشدة , كغريق يبحث بجد عن ما يمكنه ان يتشبث به , فلن يجد غير الله القدير المقتدر , فيتوجه اليه بقلب مخلص , وايمان بالغ , على اي هيئة كان ( لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً ) .
2- ( فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ ) : يبين النص المبارك حقيقة من حقائق الانسان ( ليس جميع الناس , بل ربما الاعم الاغلب ) , انه بعد ان يكشف الله تعالى ما كان يشكو , مر على كفره وطغيانه , كأن شيئا لم يحدث , وهذه تضاف ايضا الى طبائع الانسان , فهو سريع النسيان , سريع الغفلة ! .
3- ( كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) : بنفس الطريقة , كما ان هذا الانسان يتذكر وينيب ويتضرع الى الله تعالى في وقت الشدائد وفي محل الابتلاءات , لكنه ينسى ويغفل ويتغافل نعمة المنعم وشكره عليها , عندما يهيئ الله تعالى له اسباب النجاة منها , كذلك هو الحال بالنسبة للمسرفين , الذين اسرفوا في التجريء والاعتداء بكل الصورة المتاحة لهم في الكذب على الله تعالى ورسله وانبيائه وغيره .
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ{13}
تبين الاية الكريمة ان الله تعالى اهلك الامم السابقة كعاد وثمود وغيرهم , وتذكر سببين لاهلاكهم :
1- ( لَمَّا ظَلَمُواْ ) : بالشرك والمعاصي .
2- ( وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ ) : يشير النص المبارك ان الله تعالى لم يهلكهم من غير حجة او بينة , فقد ارسل لهم الرسل , ومعهم المعاجز الباهرة والبراهين القاطعة , لكنهم لم يؤمنوا رغم ذلك كله .
فكان الهلاك هو الجزاء الاوفى في حقهم ( كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ) , الذي ( نوع الهلاك ) كان يعتمد على نوع الجرم , وسبل تطهير الارض من ادرانه ( كما اشرنا الى ذلك مسبقا ) .
ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ{14}
يتبين من الاية الكريمة ان الله تعالى عندما يأمر بهلاك قوم يستخلف غيرهم , حتى وصل الامر ( بالاستخلاف ) الى اهل مكة , ( لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) , يلاحظ ( لِنَنظُرَ ) , حيث وضع النظر مكان الرؤية , ان المصدر من ( لِنَنظُرَ ) يشتمل على عدة معاني فمنها الرؤية ومنها الانتظار , فيكون بذلك اعم واشمل من المصدر ( رأى - يرى ) .
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ{15}
تبين الاية الكريمة , ان الرسول الكريم محمد (ص واله) عندما يتلو عليهم ايات القرآن الكريم بالبيان اللازم والمطلوب , يجد ويكتشف الذين لا يؤمنون بلقاء الله تعالى في يوم الحساب انها تتضارب وتتقاطع مع مصالحهم , مبتغياتهم واهوائهم , فيردون عليه (ص واله) ( ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ ) , اخرج اواظهر لنا غير هذا القرآن , او بدله من تلقاء نفسك , لكي يتوافق مع مصالحهم واهوائهم ولا يتقاطع معها , فيأت الرد منه جل وعلا لرسوله الكريم ( ص واله) ان يقول :
1- ( قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي ) : في هذا النص المبارك اثباتا لنبوته (ص واله) , فلو كان القران الكريم منه (ص واله) لاستجاب الى طلب القوم , وبدل وغير فيه بما يتناسب واذواقهم , لكنه (ص واله) اثبت انه من عند الله تعالى , فلا يسعه (ص واله) التغيير والتبديل .
2- ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ) : {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى }النجم4 .
3- ( إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) : النبي الكريم محمد (ص واله) بعيد كل البعد عن معصية الله تعالى , وبذلك هو في مأمن من العذاب ( بل لا يمكن ذلك ) , فيبدو انه (ص واله) اراد الاشارة الى انه هو شخصيا قد يتعرض الى العذاب حين مخالفته اوامر الله جل وعلا , فما بال غيره (ص واله) من العصاة من الناس ! .
قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ{16}
يستمر التوجيه الرباني للرسول الكريم محمد (ص واله) في افحام الكفار والرد عليهم , ( قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ ) , امر نزول القرآن الكريم وتلاوته والابلاغ به متعلق بمشيئته عز وجل , ( وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ ) , وكذلك تعليمه لكم , ( فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ ) , المعلوم ان النبي الكريم (ص واله) كان في الاربعين من العمر عند نزول القران الكريم عليه , امضاها في العيش مع اهل مكة , ولو كان القرآن الكريم قد اظهره (ص واله) من تلقاء نفسه لاظهره قبل تلك المدة , ( أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) , افلا عقلتم ذلك وتأملتموه وتدبرتموه ففهمتموه .
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ{17}
نستقرأ الاية الكريمة في موردين :
1- ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ) : يؤكد النص المبارك ان لا ظلم اشد واكثر غلظة من موردين :
أ) ( مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً ) : الافتراء على الله تعالى كنسبة الشريك والابن والبنت له تعالى عن ذلك علوا كبيرا .
ب) ( أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ) : القرآن الكريم .
2- ( إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ) : يحكم النص المبارك عليهم بحكمين :
أ) ( إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ) : ان هؤلاء ( المفترين على الله تعالى والمكذبين بآياته ) لا يفلحون .
ب) ( الْمُجْرِمُونَ ) : ان النص المبارك عدهم وادرجهم في جملة ( الْمُجْرِمُونَ ) .
مما يروى في سبب نزول الايات الكريمة ( 15 – 17 ) , انها ( نزلت في عدة نفر من عبدة الاوثان الذين قالوا : ان ما ورد في هذا القرآن من الامر بترك عبادة اصنامنا الكبيرة , اللات والعزى ومناة وهبل , وذم هذه الالهة , مما لا يمكن ان نتحمله , فأذا اردت ان نتبعك فأت بقرآن اخر لا يوجد فيه هذا الذم والتوبيخ لالهتنا ) ."مصحف الخيرة / علي عاشور العاملي".
وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ{18}
نستقرأ الاية الكريمة في ثلاثة موارد :
1- ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ) : هؤلاء المشركين اتخذوا آلهة لا تضرهم ان لم يعبدوها , ولا تنفعهم عبادتها في شيء .
2- ( وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ) : كان المتعارف لدى مشركي مكة , انهم يقولون ( انما نعبد هذه الالهة لتقربنا الى الله , فيكونوا لنا شفعاء عنده ) .
3- ( قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) : كان مشركي مكة ينسبون الشريك له تعالى , وكذلك يدعون ان الملائكة بنات الله , تعالى عن ذلك علوا كبيرا , فلو كان ذلك صحيحا لعلمه جل وعلا الذي لا تخفى عليه خافية في السموات ولا في الارض .
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ{19}
نستقرأ الاية الكريمة في موردين :
1) ( وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ ) : يشير النص المبارك على نحو التأكيد ان الناس كانوا على ملة ودين واحد ( من لدن آدم إلى نوح ، وقيل من عهد إبراهيم إلى عمرو بن لحيّ ) "تفسير الجلالين للسيوطي" , حتى وصلوا الى نقطة الاختلاف والتفرق , ثبت بعضهم , ليكفر البعض الاخر .
2) ( وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) : ولولا وعده وكلمته جل وعلا بتأخير العذاب الى يوم القيامة لقضي بين الناس في الدنيا .
وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ{20}
نستقرأ الاية الكريمة في موضعين :
1- ( وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ) : تضمن النص المبارك اقتراحا لاهل مكة , يقترحون فيه ان ينزل الله تعالى عليه (ص واله) آية من ربه , كما كان للاقوام السابقة من ايات كناقة صالح وعصا موسى (ع) ... الخ .
2- ( فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ) : تضمن النص المبارك الرد على مقترحهم , وفيه توجيهين :
أ) ( فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ ) : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً{26} إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً{27} ) سورة الجن .
ب) ( فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ) : الانتظار هنا يشير الى امرين :
1- انتظار الثواب للمؤمنين .
2- انتظار حلول العقاب على الكافرين
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat