صفحة الكاتب : المركز الاسلامي في انكلترا

دروس في تفسير القرآن الكريم
المركز الاسلامي في انكلترا

 

يلقيها الدكتور علي رمضان الأوسي
في المركز الاسلامي في انجلترا
 
المواقف والسنن الالهية
 
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ، فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ، فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ، قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ، وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}([1]).
 
تحدثت الآيات السابقة عن عناد المشركين وتعللهم بأنزال المعاجز وقد تعامل القرآن الكريم معهم على انهم سدوا منافذ الهداية فهم صمّ بكم عمي، كما تحدثت الآيات عن المشيئة الالهية وانها ليست خالقة لفعل الانسان، ثم ان هؤلاء ينتهي بهم المطاف الى انهم لا يلجأون في الشدة إلا الى الله سبحانه ويتبرؤون من معبوديهم من الاصنام والطواغيت وغيرها.
 
بين قوم النبي محمد (صلى الله عليه وآله) والاقوام السابقة:
خلاصة ما أكدت عليه الآيات ان العناد والاصرار على المعصية في تلك الاقوام أشد مما كان عليه قوم النبي محمد (صلى الله عليه وآله) وهذه تسلية أخرى للنبي محمد (صلى الله عليه وآله)، وحين لم يؤمنوا أخذهم الله بالعذاب، وهنا يتجلى بحث يدعو الى دراسة التاريخ والازمات الغابرة في تاريخ الرسل والانبياء.
 
الأخذ الإلهي:
بعد ان استحقوا العذاب أخذهم الله بالبأساء والضراء.
والبأساء: الشدة والمكروه ويكثر استعمالها في الحرب.
والضراء: سوء الحال الذي يرجع الى النفس مثل (الغمّ والجهل) أو يرجع الى البدن كالمرض أو يرجع الى كليهما كذهاب المال والجاه)[2](.
ويبدو ان هذا الأخذ يراد له ان يشكّل وعياً وفهماً لديهم حتى يتضرعوا لله سبحانه ويستسلموا له فلماذا لم يعوا هذا الدرس لكنهم بسبب ذنوبهم وعنادهم قست قلوبهم وحين رأى الشيطان منهم ذلك زيّن لهم ما كانوا يعملون.
 
بين التضرع وقسوة القلوب:
لوم آخر لأولئك الاقوام لماذا لم يتوجهوا وينيبوا الى ربهم بعد ذلك الابتلاء المزدوج (البأساء والضراء)؟ وبدل ان يفيدوا من ذلك الدرس والابتلاء عمدوا الى العناد والاصرار على الخطيئة بسبب أمرين تشير لهما الآية المباركة:
1-             (ولكن قست قلوبكم) بسبب كفركم، وهذا لا يناسب الغاية من هذا الابتلاء وهو التضرع والتذلل لله سبحانه.
2-             (وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون) وهي المعاصي والعناد فرأوها حسناً.
وقد استخدمت الآية الكريمة كلمة (لولا) وهي حث وتحضيض لهم على التضرع فهلا تضرعوا حين جاءهم العذاب، والتضرع هو الانابة والتذلل لله سبحانه يقال: ضَرعَ الرجل ضراعة أي ضعف وذلّ، قوله تعالى: (تدعونه تضرعاً وخفية)([3]).
 
سنة الاملاء (الاستدراج):
وهنا سنة إلهية جرت عليهم فبدل ان يزدادوا عذاباً لمعصيتهم وتركهم ما ذكّروا به (فتحنا عليهم أبواب كل شيء)، من النعم والخيرات إمهالاً لهم وليس اهمالاً (حتى اذا فرحوا بما أوتوا) وغلبهم العجب وانشغلوا بتلك النعم جاءهم الأخذ الالهي فجأة فجعلهم متحيرين مُبلسين (اخذناهم بغتة فاذا هم مبلسون) ويُشير كذلك الى هذه السنة الالهية في الخلق قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ،  وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} ([4]).
والاستدراج هو ان يأخذهم الله درجة فدرجة وخطوة خطوة فبينما هم في نعمة يتقلبون يفاجئهم العذاب بغتة، وهو قريب من معنى الاملاء كما في قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}([5]).
فهذه سنة الهية في الخلق ظاهرها رحمة وباطنها نقمة على من يستحق ذلك. يستدرجهم الله بها فتلهيهم النعمة ثم يسقطون في الهلاك فجأة فهي سنة لتربية النفس وتعليمها التأهب لمواجهة الأسوأ والعذاب المفاجيء حتى يبقى الانسان على يقظة ووعي وحضور لئلا يهلك.
 
حول هذه السنة:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (اذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فأنما هو استدراج ثم قرأ: فلما نسوا ما ذكروا به).
وقال الامام علي (عليه السلام): (يا ابن آدم إذا رأيت ربك سبحانه يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره).
 
الاستئصال:
وبتلك السنة الالهية استدرجوا الى عذاب الاستئصال فهلكوا عن آخرهم واستؤصلوا وانقطع أصلهم (فقطع دابر القوم الذين ظلموا) والدابر هو المتأخر والتابع والأصل.
ثم تختم الآية المباركة بالثناء لله رب العالمين على امضاء هذه السنن ونصر الرسل واهلاك الكافرين وسعادة العباد.
وبهذا أخبر الله سبحانه نبيه محمد (صلى الله عليه وآله) ان أمماً من قبلك كانوا أشد رسوخاً في الشرك وأشد إصراراً على الظلم، اما قومك فأنهم يدعون الله وحده عند شدة الضيق وينسون ما اتخذوه من أولياء وأنداد([6])، لذا فالآيات التالية تتحدث عن قوم النبي محمد (صلى الله عليه وآله).
 
خطاب النبي محمد (صلى الله عليه وآله) لقومه:
(أرأيتم) جاءت بمعنى: أخبروني وتكرر استعمالها في أكثر من مورد ومعناها هنا: قل يا محمد لهؤلاء المكذبين المعاصرين لك، أخبروني عن كذا وكذا.
 
المحاولة الأولى:
وهنا يحاول القرآن الكريم إثارة الفطرة فيهم من خلال حركة الغرائز فيهم في الدفاع عن أنفسهم، فأنْ سلب الله سبحانه حواسكم فأصمكم وأعماكم وطبع على قلوبكم فلا فهم ولا عقل فهل هناك إله غير الله يأتيكم به اذا سلبه الله منكم وهذه حجة على بطلان اصنامهم والشركاء المفترضين.
وقد خاطبت الآية مشركي العرب: (من إله غير الله) اذ كانوا يعتقدون بالله سبحانه الخالق والرازق بينما الاصنام تقربهم الى الله زلفى فتشفع لهم. فبعد هذه المحاولة انظر يا رسول الله كيف نبيّن ونغيّر صور الاستدلال بالآيات على واحدنية الله سبحانه وبعد كل ذلك تراهم يُعرضون (يصدفون) فلا يعتبرون.
 
المحاولة الثانية:
{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ}.
(أرأيتكم) أي اخبروني وهنا محاولة أخرى لأثارة الفطرة فيهم، فمن يقبل ان يهلك بعذاب الله؟ لكنْ الظالمون هم من يهلك ويخسر الدنيا والآخرة بسبب كفرهم وعنادهم.
(بغتة) أي فجأة وهي تلازم بسبب سرعة المفاجأة خفاء، وهذا الخفاء هو الذي يقابل (جهرة) في الآية بمعنى (عياناً ظاهراً) ليتناسق لفظ الآية المباركة.
 
 
رسالة الانبياء:
(مبشرين): للمؤمنين بالخير والسعادة والصلاح في الدنيا وبالجنة والرضا في الآخرة.
(منذرين): للكافرين بعدم المعصية في الدنيا وبالنار والعذاب في الآخرة.
قال سبحانه: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ)([7]).
 
فريقان:
1-(فمن آمن وأصلح) وهم المؤمنون بما أمر الله وعملوا الصالحات وهذا طريق الخلاص الذي يحقق السعادة في الدارين فالمؤمن يعيش الحياة الطيبة وان كان يعاني اكثر من الكافر في الدنيا لشدة التزامه وتمسكه.
قال الله سبحانه: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)([8]).
فهذا الفريق لا يخاف من العقاب في المستقبل ولا يحزنون على أعمالهم السابقة.
2-(وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ)، فهؤلاء كذبوا بالرسل والآيات فيصيبهم من الله عذاب بسبب فسقهم وخروجهم عن الطاعة وذلك في الدنيا والآخرة بدليل قوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} ([9]).
 
دروس اجتماعية مستفادة:
1-المتفق والمختلف بين مواقف أقوام الرسل (عليهم السلام) وبين مواقف قوم النبي محمد (صلى الله عليه وآله).
2-كيف يكون الأخذ بالبأساء والضراء مقدمة لسنة الاستدراج.
3-الابتلاء الالهي تربية للنفس والمجتمع.
4-لماذا استحقوا عذاب الاستئصال؟
5-كيف حاول القرآن الكريم تحريك الفطرة الانسانية لديهم وإثارتها؟
6-متى يتضرع القلب ومتى يقسو؟
7-(فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) من هم هؤلاء وكيف تقرأها.
 
([1]) سورة الانعام: 42-49.
([2]) انظر تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي.
([3]) سورة الانعام: 63، انظر المفردات للراغب.
([4]) سورة الاعراف: 182-183.
([5]) سورة آل عمران: 178.
([6]) انظر تفسير الميزان، للعلامة الطباطبائي.
([7]) سورة البقرة: 213.
([8]) سورة النحل: 97.
([9]) سورة طه: 124-126.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


المركز الاسلامي في انكلترا
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/07/03



كتابة تعليق لموضوع : دروس في تفسير القرآن الكريم
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net