صفحة الكاتب : د . محمد تقي جون

المنامة الثانية والستين متشاعر ومتقاص
د . محمد تقي جون
حين سقط الأدب من عليائه ورفعته بالحداثة الغثة إلى منخفضه وهبوطه، تلقفته أيدي القصار، ودارت به كلَّ مدار. انه ببساطة اختصار العملاق بقزم دحداح، كما تختصر المشاريع العملاقة بالموديل والكاتلوج. اختصرت شروطه الصعبة التي ترشح الاديب وتمنع الغريب، فانفسح مجال وانثال ابتذال، وأصبح الادب هوية ثبوتية قابلة جداً للتزوير. 
وكانت الموضات الحديثة المستوردة، حملت بدائل رديئة القيمة رخيصة الثمن، فاستعيض عن المتنبي وجرير بسرفانتس وشكسبير، أو ترك البعير إلى الخنزير. وقدم الأدب بعد ابداعه المتجدد كليشهات جاهزة أو معدلة قليلا، يتفيهق بها المتشاعر ويتشدق بها المتقاص.
لقد كانت خيبة أمل كبيرة جداً لابن سيا أن يرى هذا التردي في التندّي وهو يتابع صالات الشعر وصالونات القصة والعيادات الفكرية والورش الثقافية، التي كذب طنينها وصدق أنينها. ونتاج ذلك كله دخوله في غيبوية ما يفيق منها حتى يغمى عليه في غيرها، وهي بين ولهان تفكيري وسرحان تكفيري.
" كما حال البلاد، صار الأدب منفلتاً بكل معنى الانفلات؛ فلا أسس ولا قوانين ولا معايير. انه إغراءات فحسب جذابة وچذابة معاً، كأصناف طعام متداخلة الطعوم، يترك اختلاف والتفاف مذاقاتها في العيون إرباكاً وفي النفوس انهماكاً، ولكن لا تقع اليد على شيء تقع عليه العيون. فإذا فتشت فيه لا تجد طائلاً ولا تنال نائلا... والطعام المختلف الألوان والطعوم ليس سوى صورة جامدة لا واقع حياتياً فيها".
وخرج ابن سيا من تأملاته كمن تنفس بعد غوص. ثم عاد يتأمل أو رجع يغوص..
" إن القصاص والشعراء يكتبون ولا يقرؤون، وهم يرددون مقالة غريبة لأديب غربي تقول:( القراءة أصعب من الكتابة).. لأنها مقالة تفيدهم وقالة تؤيدهم، لعجزهم عن القراءة.. فانقطعوا؛ فلا هم قدُموا بقراءة أدب العرب القديم، ولا هم تقدموا بالقراءة الواعية للأدب الغربي الحديث.. بل فقط سحروا وانبهروا وسكتوا وأحصروا.. أو كما يقول المثل الشعبي (طافوا على ماي الكروش). 
إنهم خلـَف بلا سلـَف أو (سلخ)؛ فسلفهم ترك الثقافة اليعربية وركبها غربية بالمقلوب والمايل. وهم ركبوا أسلافهم وركب بعضهم بعضاً، ولا ضير من تزاحف الالفاظ فهم يتناسلون بشكل شاذ. فماذا سيكون نتاجهم ونوع إنتاجهم اذاً؟! حتماً غرابيّ المشية ضبابيّ الغشية.
وعاد كمن صحا بعدما غفا.. وسرعان ما عاد.
" كان حفل توقيع لشاعر.. كانت الطاولة تضع بين عينيه كتابه (المسخ) الذي ظل يتهرب منه إلى الحاضرين المغلوبين على حضورهم. ثمة انقطاع بين بصره وفكره؛ فبصره يجول في الحاضرين المحتفين، وفكره يطير إلى تقمص المشهورين يعيش الانتماء اليهم! وبخيلاء وزهو يرفع رأسه وينفخ نفسه.. ولكن يا لسوء السوء إن الكتاب أمامه يذكره بالندامة والسخف ويخيفه من سرعة الكشف.. وكلما سقط عليه بصره وعاد إلى رشده يفشّ من بعد النفش، كالطاووس المتبختر حين ينزل بصره إلى قدمه الخلاسية. 
كان ابن سيا يحتملها في نفسه، ولكن ليس الى أمد بعيد. فصعد المنصة بعد أن قرأ الشاعر المحتفى به نصّه، والمحتفون بهم منه غصّة. فأطلقها عليه قصيدة أو رصاصة (في الگصة):
 
لما على (الحاكي) وقفْ ألقى القصيدة القرفْ
ففزعوا لأنـــــــــــها قذيفــــة وهم هــدفْ
فهربوا وهربـــــــت إذ فرغـــتْ كلّ الغرفْ
وغادرَ المكانَ والزمانَ، والكـــــــــــــــونُ انصرفْ
فصار في (اللاشيء) والشعــــــرُ الذي كان اقترفْ
                         لكنــــــــه الآن عرفْ وانه الآن اعترفْ
بأنها غازاتُ قولٍ حصـــــــــــــــــــــــــــرته فقذفْ
يا من ترقى شاعراً  فطأطأ الرأسَ أسفْ
الشعرُ ليس مهنة أو حرفة من الحرفْ
لكنها الروح على اللســـــــــــــان تجري فيصـفْ
وكل حرف يختفي من الخيال في حرُفْ
اثنان: إما شاعر محترف أو منحرف
فان عجزت هاتفاً كنت صدىً لمن هتفْ
ستسكن الكهــــــــف مع الآلاف (أصحابِ الكهفْ)
 
وأخرى كانت حفلة توقيع قاص لمجموعته القصصية التي لا يقرؤوها غير مجموعته. فهم يقرؤون بعضهم لبعض، ويحتفي بعضهم ببعض.. فهاج بابن سيا الشعر ونفد منه الصبر.. وما جاء هو للاحتفاء أصلاً وإنما جلبه إيصاله أمانة لمحتفٍ من المحتفين.. فدخل القاعة وسمع الرقاعة، فقالها صفـَّاعة، ولم يبخس بضاعة:
 
 
 
وقصةٍ لمتقاصْ سطا فقالوا: يتناصْ
شخبطها لخبطها خبَصها كلَّ انخباصْ
فأصبحت (مگموعة) في الاتحادِ وهو قاص
والله لو للفنّ شرعٌ قدّمـــــــــــــــــــــوه للقصاصْ

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . محمد تقي جون
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/05/28



كتابة تعليق لموضوع : المنامة الثانية والستين متشاعر ومتقاص
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net