ما بين ذخائر المال في مدح المصطفى والآل وديوان الحلة رحلة طويلة للشاعر الدكتور سعد الحداد في الأدب الحلي خاصة فمن موسوعة أعلام الحلة الى محمود مرجان والسيد محمد علي النجار والشيخ محمد حيدر والخليعي وغيرها من الأسماء مروراً بالحسين في الشعر الحلي وتراجم شعراء بابل ففي هذه المآثر وسواها ساهم الدكتور الحداد بشكل جاد وحريص في المحافظة على تراث الحلة وصيانته من الضياع، وكتابه هذا (ديوان الحلة- انطولوجيا الشعر البابلي المعاصر) من منشورات بابل 2012م خير دليل على حبه للشعراء من أبناء الحلة الفيحاء.
وما جاء في مقدمة الديوان : " من حقنا أن نحتفي بشعرائنا وإبداعاتهم ومن حق الآخرين أن يقيموا هذا المنجز من وجهات نظر مختلفة فذاك سيسعدنا حقاً " دعاني للبحث عن (هوية الحلة) في الديوان الذي ضم أسماء (79 شاعراً في 347 صفحة من الحجم الكبير).
فمن حيث الموضوع والصور الفنية الى جانب طريقة التعبير تقف قصيدة (سيرح) للشاعر جبار الكواز في مقدمة القصائد التي تحمل (هوية الحلة) لن لم تكن في مقدمة قصائد الديوان. فالأستاذ جبار الكواز شاعر مشهود له بالتجديد قبل عقود استطاع أن يجعل قصيدة (سيرح) واسطة ننظر من خلالها الحدث بعيداً عن السرد والتقرير لأنه يعرف جيداً انه يكتب الشعر وان مهمته كشاعر. حازت القصيدة اهتمام النقاد في مربد هذا العام وكتبت عنها أكثر من دراسة فالقصيدة حلية بامتياز.وقد سألت الشاعر عن بعض طلاسمها فأخبرني ان (سيرح) أخر يهود الحلة توفيت فيها والساعاتي حلي اسمه (حسين أبو علي). جاء في القصيدة.
تك / تك / تك / ت ت ت ك / ساعتها وسادة لوم / (اولما / فلكا / رولكس / رأس كوب) ما زالت تحرس جدران الالهة / وتقلم اظافر الساعاتي بالتمني (الساعاتي يحفظ أسماء القتلى ويشاركس الصبايا بالتكتكات).
تفرد الشاعر جبار الكواز في بناء قصيدته على (التداعي ـ الحوار الداخلي) فالشاعر يتحدث والصوت الاخر وضعه بين قوسين. الى جانب توظيفه لحكاية صوت الساعة (تك) فهو غير مسبوق كذلك تضمينه للموروث الثقافي الفني والاستفادة من دلالته في قوله:
حين أهدت عباءتها لعليا وعصام / ومرآتها لفترة وعبله / وخفها لفريد الأطرش وقنديلها لأحدب نوتردام وهم الآن دخان يمسك الرياح في السماء.
والقصيدة ذات إيقاع جميل ربط الشاعر مقاطعها التسعة بإحكام فجاءت غاية في الانسجام علماً أن القصة السينمائية لقلم (عليا وعصام) للشاعر الحلي أنور شاؤول.
ثم تأتي قصيدة (نقوش على جبة الدرويش) للشاعر عمار علي الشره التي تبدأ بالمكان : (ما بين الفرات وبوابة المعمل) شط الحلة ومعمل الكولا، الشركة العامة للمشروبات الغازية في الجامعين : (لمحت وجها سومرياً) الشاعر الراحل محمد سالم البيرماني : (في االيمنى عليً على ناصية الحوض) هذا الشطر فيه أشارة لقول البيرماني الاتي ذكره اعني كتاب الحافظ البرسي رجب الذي ذكر فيه أحاديث وحكايات وأخبار غريبة عجيبة على حد قول الخاقاني والكتاب اسمه : مشارق أنوار اليقين في حقائق أمير المؤمنين (ع).
وتقف الى جانب قصيدة الشلاه قصيدة الراحل الشاعر محمد سالم البيرماني (ما أقضى به الدرويش) والتي نجد فيها :
التاريخ وذلك قوله : الذي بني الصوبين، اسمه.... صدقه.
والجغرافية : قرية (العتائق) ـ شط الحلة ـ مملحة الكفل.....
والتراث وذلك قوله : الحلة ايضا عاصمة الحبر والمطر... !!!
أم الامتياح والانزياح من بئر السحر.... !!
أم مشارق أنوار اليقين...!!!
الى الجانب الحاضر : (اضرعا من اجل مجلس الشلاه) وهو مجلس الأستاذ حسام الشلاه وقوله (واسم وزيره في حديقة الحكومة....) أشارة للراحلة خادمة الحسين (ع) المله وزيره.
والقصيدة بنيت على سبعة عشر مقطعاً أطولها الرابع عشرة اشطر وجاء المقطع الخامس شطر واحد وكذلك الأخير. وليت الشاعر حذف منها الاشطر الثلاثة الأولى من المقطع السادس اعني قوله (بعضهم يقول.....) ففي الكلام سعة عنها.
الى جانب غموض المقطع العاشر :
انظرا... من قال : أن العود ليس من رمل حضر موتيّ....!!!
ولا يسقى من ماء دمشقيّ.....!!!
ولا يفرع من عطر حرمليّ ؟
أقول : تحمل القصيدتان (البيرماني قد أخذت مساحة أوسع من تاريخ الحلة وحاضرها الى جانب لفتها وما تحمله من دلالات فهي بحق كما قال عنها الشاعر عمار الشلاه.
ها هو وهج الكلمات المكتنزه بالإيحاء
يضيء عتمته النفس
يتدفق من روح تفيض بالنقاء
والى جانب هذه القصائد الثلاث التي تحمل (هوية الحلة) نجد في ديوان الحلة للدكتور سعد الحداد ثلاثاً أخرى فيها أشارات لاماكن حلية.
المكان الأول : جسر الحلة ذكره الشاعر محمد كاظم جواد في المقطع السادس من قصيدته (الطائر الذي ابتل بماء السماء) يتألم الشاعر لما آل إليه حال الجسر القديم و (شاطئه المتعب) ولقد أجاد في ختام المقطع إذ يقول :
الجسر الذي استوعب كل الخطى
صار الآن مأوى
للبائع والجائع والضائع
وإذا كان الجسر القديم قد حظي بمقطع مستقل نجد المكان الثاني (كنيسة العذراء) التي تقع في تقاطع ساحة الأم من جهة حي الشاوي ظهرت (غريبة) في قصيدة سلام مكي التي ختمها بقوله :
والمسيح قريب منا
لكنه غريب !!
غربة الصليب
في الأم
أما المكان الثالث فهو مدينة بابل الأثرية ذكرها الشاعر وليد الزبيدي في قصيدته (تسونامي بابل) بقوله :
من بابل الخراب والخرائب..
فقد نقّبت فيها السرفات
وأحذية الجنديات..
اللواتي علقن (.....)
وفي المعبد كان (...)
إلا أن ما جاء في هذين الشطرين (اللواتي.. والمعبد...) ليس من لغة الشعر وللشاعر في المجاز والكناية والتورية متسع ومثلهما ما جاء في قصيدة الشاعر ذياب شاهين وذلك قوله (فلا منأى..).
الى جانب هذه الأماكن نقرأ في انطولوجيا الشعر البابلي المعاصر للدكتور سعد الحداد اسم (الحلة) في مرآة الماء لعلاء مظلوم إذ يقول :
أعطوني وطني
أن عصافير الحلة وهي رماد تخرج من حبل الشنق
وتقرأ اسم (بابل) في قصيدة شوق لعلي الحسيني وذلك في قوله : وتطلعت / أن (بابل) تأتيك / تسهر في راحتيك.
وبما أن الحلة وريثة بابل فما هي الأسماء البابلية في (ديوان الحلة) للدكتور سعد الحداد والتي تشكل (هوية الحلة) في قصائد الديوان ؟
سأبدأ بملحمة جلجامش ثم بابل القديم:
لعل حكايات قديمة للشاعر والناقد الراحل عبد الجبار عباس المكونة من سبعة مقاطع والتي وظف فيها ملحمة جلجامش واختار منها أحداثاً رئيسه ليقول من خلالها ما يريد (على خطى السياب) أفضل نصوص انطولوجيا الشعر البابلي المعاصر استثماراً للأساطير خاصة مقاطع (الكورس) إذ استطاع الشاعر من خلالها الوصول الى هدفه ناهيك عن لغته الجميلة وموسيقاه فهو يقول :
هي أفعى فاحذر ملمسها
باب لا يصمد للريح
قتلت تموز وتبكيه
والحارس مسخته ذئبا
أما الشاعر شريف الزميلي فهو يقول في قصيدته زهرة جلجامش وكلكامش الآن مستنفرا
يبتني حول اوروك سورا
وأوروك تبني لكلكامش العمر مجدا
أقول : غني عن البيان أن الشاعر كلكامش والزهرة مدينته (حبيبته) وقد اختار الشاعر هذا الرمز (كلكامش) ليس تعبيراً عن الخلود فحسب وإنما ليضيف إليه الحب والمشاركة في البناء ناهيك عن موجة الحداثة في استثمارها للأسطورة.
ويشترك ساطع الجميلي مع الزميلي في استخدام (أوروك) رمز للمدينة وقد بدا متعباً فهو يقول في قصيدته على أنقاض الغابرين : هذا أنا نزلت في أوروك مثل زهرة بلا ماء.
قنديل بلا عيون
ويبدو أن الشاعر باقر محمد جاسم وفق في غناء الأنهار وذهب الى مسافة ابعد من الزميلي والجميلي في استثمار ملحمة جلجامش اسمعه أولا يقول :
وموتي حادث قديم...
ذكرته الأساطير في كل الحضارات......
لا أرجو الخلود....... بل أخشاه كما الجذام
فأنا امسك حبلا سرياً يصلني بالعشب
فالشاعر هنا ير ندي جلبات جلجامش بل يتفوق عليه لأنه لا يرجو الخلود ويصل للعشب (النبات الذي يجدد الشباب) يسألني درب التبانه :
أتبكي كما بكى أنكيدو ؟ فإلام ؟
أما الشاعر سلام مكي فقد ارتدى جلبات انكيدو عندما اختار لقصيدته هذا العنوان : أخر ما قاله أنكيدو
ويقف الى جانب سلام الشاعر مؤيد عليوي في قصيدته :
انكيدو أكثر الناس أدمانا
واذا كنا لا نجد لا نكيدوا مكانا في قصيدة سلام فان مؤيد يقول :
أدمن انكيدوا الليل يحكُ جلد النهار
في فجرٍ من الأزلْ
عبقُ من سومر.
إلا أن الشاعر صباح العسكري استطاع استثمار اسم انكيدو وبشكل واضح في قصيدته دموع من حجر فهو يقول :
لم يأت انكيدو....
أو..... أحد من أحفاده
أو.... أحد من أتباعه
فأنكيدوا الذي جاء لينقذ أهل أوروك من ظلم جلجامش لم يأت لينقذ مدينة الشاعر....
والى جانب ذلك نجد علي الاسكندري في ختام قصيدته الغرين يقول :
هذا الفتى الحكيم....
هو الذي / أعطى / هو الذي / علم / (هو الذي رأى)
فهنا يبدو أن الشاعر اختزل قصيدته التي تتحدث عن الوطن بما جاء في مقدمة ملحمة جلجامش : هو الذي رأى
فوطنه هو وطن جلجامش...
أما الشاعر عمار الشلاه فقد اختار (اوتو نابشتم) بطل الطوفان الذي دل جلجامش على العشب الذي يجدد الحياة اختاره الشلاه ليضعه في العين اليسرى لصديقه الشاعر الراحل محمد البيرماني وذلك قوله :
في اليسرى اوتو نابشتم يمسك بدفة السفينة
والى جانب استثمار الأسطورة في ديوان الحلة للدكتور سعد الحداد نجد شعراء آخرين اعتمدوا أسماء بارزة في تاريخنا الحضاري القديم فهذا عواد الشقافي مخاطباً الدنيا في قصيدته طائر العنقاء يقول :
وبد عناكِ حضارةْ....
منذُ انكيدوا وجلجامش من خلف العصورْ
وحمورابي ودستور النجاة....
وبنو خذ نصر دانت له الأرض بإحراق الجذام.
كذلك الشاعر عبد الأمير خليل مراد فقد أجاد الاختيار لحمورابي في قصيدته البدوي إذ يقول
لم يعرف حمورابي لأنه / البارحة
حصد مسلته على رؤوس / الأشهاد
واتخذ عبد الحسين الحيدري اسم حمورابي عنواناً لقصيدته التي تحدث فيها عن الوطن فهو يقول :
هو ليس لي وحدي وأبنائي....
ولكنا نفخنا روح بابل فيه فانبثقت ينابيعا
وزرعاً مثقلا ومفاوزا مرجان
ويشترك فوزي الطائي مع الحيدري عندما سمى قصيدته : طقوس الأميرة البابلية فهو يقول :
همساتك أحلى الأميرات نغمة
وهذي بلا بل بابل
شائقه مثل عينيك
وغني عن البيان ان مثل هذه الأسماء (الشائعة) بما تحمله من دلالات متشعبة خير ما يغني به الشاعر قصيدته إضافة الى كونها (هوية حلية) يجدها القارئ في ديوان الحلة- انطولوجيا الشعر البابلي المعاصر للدكتور سعد الحداد.