حقائق تاريخية يجب أن تذكر
رائد عبد الحسين السوداني
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
رائد عبد الحسين السوداني

عندما تحركت بريطانيا لاحتلال العراق عسكريا بعد دخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى سنة 1915لم تكن دوائرها الاستخبارية غريبة عن الواقع العراقي وكيف تعاملت معه الدولة العثمانية ،وأعني سياستها تجاه المجتمع العراقي والمعروف بتنوعه القومي والمذهبي ،ففيه العرب والكرد ،والشيعة والسنة ،فضلا عن الطوائف الأخرى ،وبما أن العراق يضم على أرضه غالبية شيعية لابد لنا أن نعرف كيف تعاملت هذه الدولة مع المذهب الشيعي ولاسيما الجعفري ،فقد تركت هذه السياسة أثرها على الحياة الاجتماعية في العراق ،حتى أنها عدّت مناهضة المذهب الجعفري نوعا من أنواع الجهاد وأحد عوامل النهوض بالنسبة للحكم العثماني ،وهذا ما أكده علي محمد علي الصلابي في مقدمة كتابه الدولة العثمانية عوامل النهوض والسقوط ،إذ يعرف بكتابه قائلا في ص8"ويوضح للقارئ حقيقة الدولة العثمانية والأسس التي قامت عليها والأعمال الجليلة التي قدمتها للأمة كحماية الأماكن المقدسة الإسلامية من مخططات الصليبية البرتغالية ،ومناصرة أهالي الشمال الأفريقي ضد الحملات الصليبية الإسبانية وغيرها ،وإيجاد وحدة طبيعية بين الولايات العربية ،وإبعاد الزحف الاستعماري عن ديار الشام ومصر ،وغيرها من الأراضي الإسلامية ،ومنع انتشار المذهب الاثنا عشري الشيعي الرافضي إلى الولايات الإسلامية التابعة للدولة العثمانية ومنع اليهود من استيطان فلسطين " هكذا كانت تنظر الدولة العثمانية للمذهب الشيعي ،وفوق كل ذلك يعد علي محمد الصلابي المذهب الشيعي بأنه جاء مع الحملة الصليبية ،فقد تحدث عن استفحال أمر الفرق المنحرفة لاسيما مع مجيء الصليبيين والذين كانوا دائما مع الأعداء ويكونون لهم سندا وعونا وكذلك جنودا لهم ومن هذه الفرق وأشهرها الدروز ،والنصيرية ،والإسماعيلية ،والقاديانية ،والبهائية وأشهرها الاثني عشرية ،هذا ما أكده الصلابي في صفحة 531من كتابه ،وعلى هذا النسق سارت الدولة العثمانية وواصلت المسير عليه السلطات البريطانية ،إذ كما ذكرنا أعلاه عن معرفة البريطانيين بالواقع العراقي من خلال تغلغلهم في جسد الدولة العثمانية لاسيما في قلبها النابض (العراق) والتي لم تع أهمية هذا الجزء إلا بعد فوات الأوان وإلا بعد الغزو البريطاني لبلاد ما بين النهرين .وقد كانت بدايات هذا التغلغل عندما وصل ممثلو شركة الهند الشرقية التي تأسست عام 1600إلى البصرة عام 1639وافتتحت هذه الشركة مقرا لها في البصرة عام 1643وليكون لوكيل الشركة بعد ذلك مكانة وتأثيرا من السعة بحيث كان يؤثر في تعيين الولاة العثمانيين في العراق ،وقد كان تأثيره واضحا في دعم تعيين سليمان الكبير واليا على العراق الذي لم ينس هذا الجميل للشركة فسمح لها بأن توسع نشاطها ،ثم أصبح بين الطرفين (حلفا) فقد أمدته بالمال ووفرت له مدربين لعسكره الأمر الذي جعل للشركة نفوذا كبيرا في نهاية القرن الثامن عشر ،ولم يقتصر الأمر على هذا الأمر ،بل توسع نفوذ وكيل الشركة (كلوديس ريج) كبيرا وواضحا بعد أن أقام في بغداد بصورة دائمة في عام 1802وقد منحته وعاملته بصفة قنصل .واعتبر الشخص الثاني بعد الوالي في بغداد ،وبطبيعة الحال لم تكن تجارة هذه الشركة إلا واجهة لمد أذرع النفوذ البريطاني وبسطه على مجمل الساحة العراقية .ومن هنا نؤكد القول أن البريطانيين لم يكونوا غرباء عن الواقع العراقي عندما بسطوا سيطرتهم الكاملة على أرض وادي الرافدين ،ولذلك بنوا تصوراتهم الواضحة والعميقة لكيفية الحكم والممارسة السياسية فيه.وقد بنت بريطانيا موقفها هذا وأسسته على ما سارت عليه الدولة العثمانية ولذلك تذكر صانعة عرش فيصل الأول في العراق عام 1921في رسالة بعثتها إلى ذويها بتاريخ 3/10/1920وتقول ما نصه في صفحة 291من جيرترود بيل من أوراقها الشخصية 1914-1926لإليزابيث بيرغوين وترجمة نمير عباس مظفر "تعتبر مسألة الشيعة على الأرجح المشكلة الأكثر جسامة في هذا القطر " وفي صفحة 292تؤكد"إذا ما أردنا إقامة كيانات تعتبر بحق نظائر للمؤسسات التمثيلية ،فإننا سنجد أن العناصر الشيعية تشكل أغلبية الأعضاء فيها .ولهذا السبب بالذات لا يمكن إقامة ثلاث مناطق تتمتع جميعها بالحكم الذاتي .ولابد من الاحتفاظ بمنطقة الموصل السنية لتشكل جزءا من دولة وادي الرافدين لغرض تعديل التوازن .وتعتبر هذه الحجة برأيي من بين الحجج الرئيسة باتجاه منح بلاد مابين النهرين حكومة مسؤولة .وباعتبارنا أشخاصا خارجيين ،فإننا غير قادرين على التمييز بين أبناء الشيعة والسنة ،ولابد من ترك هذا الجانب لهم لأنهم سيتمكنون بالنتيجة من تجاوزه ،تماما كما فعل الأتراك من قبلهم ،بطرق ملتوية معينة تعتبر في الوقت الحاضر السبيل الوحيد للتخلص من المشكلة .ولابد للسلطة أن تكون بيد أبناء السنة ،على الرغم من كونهم أقل عددا ،لتفادي قيام دولة يديرها المجتهدون تعتبر شرا ما بعده من شر" وعلى نفس الصعيد يذكر تشارلز تريب في كتابه المهم صفحات من تاريخ العراق وفي صفحة 68"أما بيل (ويقصد المس بيل) ،فقد صارت مقتنعة بأن القومية العربية كانت تتطور بزخم لا يمكن الوقوف بوجهه .وبالنسبة إليها ،كانت تلك إشارة إلى أنه على البريطانيين أن يعملوا مع القوميين الذين ينتمون بمعظمهم إلى الحضر والسنة لتحديث البلاد وإنهاء ما اعتبرته التأثير الرجعي لرجال الدين الشيعة وأتباعهم من القبائل" وفي صفحة 85يؤكد تريب هذه الحقائق الخطيرة قائلا" ومن الخصائص التي سرعان ما بدت واضحة في تركيبات الدولة الجديدة هي غياب الموظفين الشيعة عن المناصب الإدارية العليا في ما عدا العتبات .فالنظام القديم الذي كان سائدا في العهد العثماني والذي غلب السنة على تكوينه ،أعيد إحياؤه على ما يبدو .والحقيقة أن الوضع ما كان ليكون غير ذلك .فقد استبعد الشيعة عن الإدارة العثمانية بشكل واسع وقلة منهم تمتعوا بخبرة إدارية" وبطبيعة الحال لم تكن هذه حجة دامغة لاستبعاد شريحة واسعة من الشعب ،فاستدرك المؤلف القول ليؤكد حقيقة الأمر بقوله "أضف إلى أن موقف النقيب (يقصد عبد الرحمن النقيب ) وغيره من أعيان بغداد تجاه الشيعة عموما والحذر الذي ساد بين الأوساط البريطانية نحوهم عقب الثورة شكلا أساسا مشتركا لاختيار موظفي الدولة الجديدة من فئات أخرى .ولم يكن عليهم ليبحثوا بعيدا .ذلك أن أعدادا كبيرة من الموظفين العثمانيين السابقين العرب السنة بمعظمهم ،والذين استبعدوا حتى الآن من قبل البريطانيين ،كانوا يتطلعون الآن إلى الحكومة الجديدة لتعيدهم إلى المكان الذي اعتبروه حقا من حقوقهم الشرعية" هذا على الجانب المدني أما على الجانب العسكري ،فيذكر تشارلز تريب "وكان هذا الأمر الأكثر وضوحا في تشكيل الجيش العراقي ،وهي واحدة من أولى الخطوات التي اتخذتها الحكومة الجديدة عام 1921.فقد احتل جعفر العسكري ،وهو ضابط عثماني سابق في بغداد انضم إلى قوات الشريف في مكة إبان الثورة العربية ،منصب وزير الدفاع .ونظم عودة حوالي 600ضابط عثماني سابق من أصل عراقي ،ومن أولئك الرجال ،الذين تم اختيارهم على نحو حصري تقريبا من عائلات سنية عربية من الولايات الثلاث ،تشكل الجيش العراقي الجديد" وأما عبد الرحمن النقيب الذي جعل من نفسه ومكانته الدينية وزعامته جسرا لتعبر إليه بريطانيا لتكمل الصورة فيه التي تريدها للعراق ،وبتطوع منه ،ودراية ،وبتخطيط مسبق على ما يبدو حتى قبل احتلال بريطانيا لبلاد ما بين النهرين ،وهذا ما نتبينه من كلام الدكتور طارق العقيلي في كتابه القيم :بريطانيا ولعبة السلطة في العراق :التيار القومي والطائفية السياسية وفي صفحة 31الذي يؤكد ما يلي "فالبريطانيون وبدوافع من مصالحهم في الهند والعراق ،نظروا إلى القوى الدينية الإسلامية في العراق على أنها مرتكزا من مرتكزات سياستهم في العراق على نحو مستدام .فالأموال القادمة من الهند ،بوصفها أموال وقفية أو هدايا ،لمرقد الشيخ الصوفي ،عبد القادر الكيلاني باتت حيوية أكثر من أي وقت مضى للحفاظ على سلامة علاقاتهم مع نقيب بغداد في أثناء تأمينهم وصول الأموال له؛فقد ذكر تقرير بريطاني عن أموال خيرية طائلة كانت تجبى من مقاطعات هندية عدة وترسل برعاية بريطانية إلى أسرة الكيلاني " وعن موقف الكيلاني نفسه من الشيعة ،تذكر المس بيل في كتابها فصول من تاريخ العراق في صفحة 478 والذي هو عبارة عن تقارير ترسلها لمراجعها في لندن بأنها قابلت النقيب في عام 1919إذ تقول أنه قال لها"لكنني أقول لك أن تكوني حذرة من الشيعة ،وإنني ليست لي خصومة مع الطائفة الشيعية .واستطرد قائلا إنهم يودونني ويحترموني ،وهم يعدونني شيخهم .لكنك إذا رجعت إلى صفحات التاريخ ستجد أن أبرز ميزة تميز الشيعة هي خفتهم .ألم يقتلوا هم أنفسهم الحسين بن علي الذي يعبدونه الآن كما يعبدون الله ؟ فالتقلب والوثنية تجتمعان فيهم إياك أن تعتمدي عليهم" ولم يتغير موقف النقيب هذا بعد أن تولى رئاسة الحكومة المؤقتة بأمر بريطاني ،وينقله أمين الريحاني في كتابه ملوك العرب في صفحة 857إذ ذكر النقيب للريحاني "في البلاد وطنيون كثيرون وكلهم رجال سياسة .ولكن ليس في رؤوسهم عيون تريهم ما هم فيه .أين هم من البلاد ،وأين البلاد منهم ؟كانوا أمس تحت الترك ،واليوم يبيعون البلاد إلى الترك بفلس لينتقموا ممن يظنونهم أعداءهم .نحن أخذنا الأمر على عاتقنا ،ولا نسأل التوفيق من غير الله ،ولا نتوكل إلا عليه سبحانه وتعالى ...........أما اجتمعت بالوطنيين ياأفندي وسمعتهم يتبجحون ؟غدا تجتمع بكبارهم في كربلاء والنجف ..نصف هذا الاجتهاد جهل ،ونصفه عناد ."ثم قال للريحاني "أما الوطنيون في البلاد فأي شيء عندهم ؟هل هم يحبون البلاد أكثر منا وهي بلادنا قبل أن تكون بلادهم ؟وأكثرهم لا يزالون من الأجانب "في إشارة أنهم ليس من العراقيين ،أي الشيعة.أما الشيعة فلم يكن يتملكهم هاجس الخوف في أن يشتركوا في بناء البلد بالشراكة مع أبناء السنة ،إذ تذكر الدكتورة فيبي مار في كتابها تاريخ العراق المعاصر العهد الملكي وفي صفحة 59"في المراحل المبكرة للمعارضة كان البعض راغبا بالتعاون مع السنة الأكثر اعتدالا .وحتى في أواخر نيسان 1922،فإن جعفر أبو التمن ، رجل أعمال شيعي وسياسي بغدادي معروف بآرائه الوطنية الجياشة ،كان راغبا بالمشاركة في وزارة يهيمن عليها السنة .آثر أبو التمن الاستقالة على توقيع المعاهدة ،وبعد استقالته ،توسعت شقة الخلاف بين المتشددين الشيعة والمعتدلين السنة ،الراغبين بالتعاون مع بريطانيا ،(لاحظ من يرفض التعاون متشدد ومن يتعاون معتدل) أصبح الحزبان الشيعيان أكثر إفراطا في انتقادهما للانتداب ،وطالبا بتعيين رئيس وزراء شيعي "ثم تذكر الدكتورة فيبي مار في صفحة 60"لقد أكدت هذه الأحداث أن معارضة القيادة الشيعية كانت في البدء أقل طائفية من كونها معادية للارتباط الأجنبي ،وأن بعض الزعماء الشيعة كانوا راغبين بالاشتراك مع السنة في حكومة قومية خالصة .وحين بات واضحا أن الحكم الأجنبي يتعذر تغييره ،انسحبوا واتخذوا موقفا صارما بعدم التعاون" وبعد أن وجدوا تصميما بريطانيا على تكريس النهج العثماني في الحكم القائم على طائفة واحدة .الأمر الذي أدى وبتراكم السنين إلى تمزيق النسيج الاجتماعي العراقي وجعله مناطقيا مذهبيا .واليوم وبعد إيراد هذه الحقائق وفي ظل أزمة ما يسمى بالتظاهرات في المنطقة الغربية من العراق وفي ظل قرار القيادات في منطقة الرمادي بنقل الأحداث إلى بغداد يوم 15/2/2013وفي ظل الزيادة وبإفراط لو صح التعبير في سقف المطالب على الرغم من تلبية أكثرية المطالب الظاهرية التي طالبوا بها ،لابد لنا أن نسأل سؤالا جوهريا إذا كانت المطالب قد تم تلبيتها أو أكثرها فما بالهم يصعدون ؟ فهل يريدون إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء بحكم طائفة الأقلية التي أنشأته الدولة العثمانية ورسخته بريطانيا ،واعتبروه حقا مكتسبا بفعل التقادم الزمني ؟ وإذا كان الجواب بالنفي ،فلماذا المطالبة بإلغاء الدستور ،ولماذا المطالبة والدفاع المستميت على حزب البعث وأعضائه ،ولماذا التصريح والتلميح بأنهم قادمون لتحرير بغداد من النفوذ الإيراني كدلالة واضحة على أن الشيعة يتبعون وينتمون حكما لإيران .هذه أسئلة أضعها لتجيب الأحداث عليها وعنها.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat