صفحة الكاتب : محمد الحمّار

عقدة الأجنبي وأزمة القرار الوطني
محمد الحمّار

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.


" لن تغفر لنا أمريكا الاعتداء الذي نفذه سلفيون على سفارتها ومدرستها في بلادنا"؛ "انتظر سوف ترى كيف سينتقمون منا شر انتقام"؛ "اطمئن سوف يستخلصون مثنى وثلاثا ورُباعا مَعاليمَ الخسائر المادية التي مُنيت بها ممتلكاتهم". 
من خلال مثل هذه المقولات والتعليقات وبصرف النظر عن ضرورة شجب أعمال التخريب والعنف التي تعرض لها رمزَي السيادة الأمريكيين في ما صار يعرف بـ"أحداث 14 سبتمبر"، يتبين لنا أنّ جُلّ الناس في بلدي (على غرار أشقائنا في الوطن العربي) لا يفرقون بين الواقعية والخنوع للأمر الواقع، بين الاعتزاز بالنفس وبالوطن وبالانتماء إلى أمة ذات أمجاد وبين التواكل وانتهاج العقلية الخرافية والتفكير السحري، بين أن يكون المرء فاعلا وبين أن يكون مفعولا به. ويتفرع هذا الموقف إلى ألوان عديدة ومختلفة من السلوكيات كما يُترجَم إلى سيول من الأقوال والأحكام الجامدة جمود الفعل الحضاري. والخطير في الأمر أنّ سلبية هذا الموقف الشعبي الشائع لا تكتفي بالتأثير فقط في أحاديث الشارع وتكييفه وإنما تتوسع حتى تطال الرأي العام السياسي ومنه القرار السياسي الوطني. حيث إنّ الفلسفة الشعبية هي تحديدا بطانة الفكر السياسي العُلوي، تلوّنه بتلويناتها وتكيّفه بخيرها وبِشرّها. إذن مادام الأمر كذلك فإنّ المنهجية الأصح تتطلب أن يدرك الشعب ونخبه المثقفة والسياسية أنّ مجرد أن تكون أمريكا القوة العالمية الأعظم أمرٌ واقعٌ لا ينفي ضرورة التعامل معها بندية. اللهم إلا إذا اعتبرنا، معاذ الله، أنّ الندية لا تمُتُّ للواقعية بصلة. 
ومن القوالب الجامدة، التي كانت مَخفية والتي كانت الثورة التونسية فرصة سانحة لها لكي تطفو على السطح، أن يعتبر المواطن التونسي (والعربي) الولايات المتحدة الأمريكية كائنا قاهرا لا يمكن منافسته أو أسطورةً حية لا يجوز تحدّيها وتركيز مبدأ الندية في العمل المشترك معها. وعادةً ما يتصدر الموظفون و المتعلمون وحتى المدرّسون قائمة المتمسكين بهذه العقيدة، فما بالك بالمواطن البسيط وبالتلميذ وبغير المتعلم. فهنالك من يتحدث إليك عن الديمقراطية على أنها شرّ لا بد منه بدعوى أنها لم تعد تلك القيمة الكونية المرغوب إرساؤها وإنما أضحت بضاعة  مفروضة علينا فرضا من طرف الدول الكبرى وعلى رأسها أمريكا. بل ويؤكد هؤلاء لك أنّ اقتصاد السوق والليبرالية المتوحشة لا بدّ أن يُقاسا بنفس المقدار من الحتمية التي يقيسون بها حتمية التنزيل الديمقراطي.
 وعادةً ما ينأى أصحاب هذه الرؤية بأنفسهم عن كل محاولة فكرية تهدف إلى خرق هذا الحاجز المرَضي. كما أنّ هنالك من يعتقد أننا متخلفون لأنّنا لا نضاهي الأوروبيين والأمريكان في مجال الاقتصاد، مما يجعلنا نستقرأ من خلال خطابهم مسلّمة معتلة تسيطر على تفكيرهم وعلى سلوكهم. وهذه المسلمة مفادُها أنّ الاقتصاد هو المدخل (السحري) إلى التقدم المتعدد الأوجه، بينما ليست هنالك قوة مجتمعية تصحح هذه الرؤية وتدل أصحابها على أمثلة من تاريخ الأفكار لكي يتبينوا أنّ الاقتصاد القويّ لا يُبنى بعقلية خانعة وتابعة للأجنبي وخالية من رِفعة الهمة والقدرة على الخلق والابتكار، وبالتالي أنّ مجرد التخلص من هذه العُقدة يعتبر لبنة في مشروع تحرير المخيال السياسي لكي ينجز التصورات الاقتصادية النابعة من تصوّر أصيل ومتطور للحياة. فإيلاء الاقتصاد المكانة الأعظم في العقيدة وفي التفكير يعني استبعاد سائر العلوم ومجالات النشاط الإنساني من العقيدة ومن الفكر.
على تلك الشاكلة حصل رميُ المنديل وبالتالي السماح لآفاتٍ تتراوح بين التزمت الديني والمُيوعة الإسلاموية المستلبة للآخر، الأوروبي والأمريكي، لاكتساح كل ساحات الحياة. فهلاّ تذكّرَ بنو جلدتنا ضروب المقاومة التي مارسها القدامى وبعض المعاصرين من زعمائنا وقادتنا للتصدي لكل أصناف الاستقواء الخارجي؟ وألم يحن الوقت لاستنساخ تلكم المناهج ابتغاء الاقتداء بها في مجال مقاومة القابلية للتبعية من داخل المجتمع بعد أن أثبتت جدواها في طرد الاستعمار الخارجي المباشر، حتى تساهم في إرساء وسائل الدّفاع الذاتية، الكفيلة بضمان حرية القرار الوطني و الاستقلال الوطني، قطريا و إقليميا وعالميا؟
محمد الحمّار

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد الحمّار
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/11/04



كتابة تعليق لموضوع : عقدة الأجنبي وأزمة القرار الوطني
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net