مَتى يَكونُ العِيدُ مُبارَكَاً ؟
صادق مهدي حسن
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
صادق مهدي حسن

زلزالُ بَرَكَةٍ يَذَرُ جِبالَ الأوزارِ قاعاً صَفصَفاً، وإعصارُ رحمةٍ يقتلعُ عظائم الآثامَ من الجذور، وبُركانُ تَوبَةٍ يَجتاحُ الذنوبَ بسَيلٍ من المغفرة والرضوان، ونَسائم لُطفٍ ورأفةٍ يَرقُّ لها شغافُ القلب وتَسْتَدر مِنَ الآماق دموعَ التَّبتلِ والخشوع..هذا هو موجز (الأنواء القُدسية) في أجواء ربيع القرآن لمن ربحَ مِنَ الصائمين وفاز مِنَ القائمين..ولهذا فإنَّ انقضاء هذا الشهر المبارك يشكل فجيعة مؤلمة لمن عرف فضله وعَظَّمَ حُرمته ..ونجد هذا المعنى واضحاً جلياً في دعاء إمامنا زين العابدين (عليه السلام) في وداع شهر رمضان حيث يقول فيه ساكباً عبراته لفراق هذا الشهر الكريم: "السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا شَهْرَ اللهِ الأكْبَرَ، وَيَا عِيْدَ أَوْلِيَائِهِ.السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا أكْرَمَ مَصْحُوب مِنَ الأوْقَاتِ، وَيَا خَيْرَ شَهْرٍ فِي الأيَّامِ وَالسَّاعَاتِ .السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْر قَرُبَتْ فِيهِ الآمالُ وَنُشِرَتْ فِيهِ الأعْمَالُ. السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ قَرِين جَلَّ قَدْرُهُ مَوْجُوداً، وَأَفْجَعَ فَقْدُهُ مَفْقُوداً، وَمَرْجُوٍّ آلَمَ فِرَاقُهُ....." نعم ودّعَ الأولياء عيدَهم ومرَّ الشهرُ بطوله كَطيفٍ عابرٍ وحلَّ عيدُ الفطر ليشكل نقطة فاصلة بين شهر رمضان وما بعده،فَبعدَ أن مرَّ المؤمنون بهذه الفترة التعبوية من التوجّه للعبادة والطاعة في هذا الشهر المبارك يكون من المفترض أنهم قد حققوا مجموعة من المكتسبات على مستوى تهذيب السلوك والالتزام بأداء مجموعة من المستحبات كقراءة القرآن والأدعية والمواظبة على بعض الأوراد والأذكار إضافة إلى محافظتهم بصورة أكبر على أداء الواجبات كأداء الصلوات في أول وقتها وممارسة جانب معتد به من تعقيباتها..وغيرها من المكاسب الاجتماعية كصلة الأرحام والفقراء وهذا بحد ذاته مكسب عظيم من مكاسب هذا الشهر الكريم فحري بنا بعد هذا أن نحافظ على المكتسبات المتحققة ونحاول أن نكتسب المزيد، فمن استطاع أن يكُفَّ بصره وسمعه ولسانه عن الحرام في أيام معدودة لهو قادر يقيناً على أن يقوم بهذا مدى عمره رغم أنف الشيطان.. وهكذا يستطيع من أدى الصلاة طيلة الشهر في أول الوقت -لاسيما صلاة الصبح التي يفرّط بها كثيرون- أن يؤدي الصلاة غالباً بل دائماً في وقت فضيلتها..ومن استطاعت من النسوة أن تحافظ على ارتداء الحجاب من الجدير بها أن تلتزم بذلك مدى عمرها ولا عذر لها في التبرج مُدليةً بمختلف الأعذار والتبريرات والحجج التي ليس لها من المنطق وزنٌ أو نصيب..إنَّ العيد أشبه شيء باحتفال تكريمي لِمن اجتاز امتحاناً بنجاح فالصائم (المتقي) -لا غَيرُه- هو الناجح الذي يستحق أن ينال الجائزة العظمى يوم فطره لأن غيره من الصائمين ممن لَم يؤدي الصوم حقّه ليس لهم من صيامهم إلا الجوع والعطش فهم فاشلون في اجتياز اختبار ما شُرِّع الصيام لأجله وهو (التقوى) فلا نصيب لهم من الأجر..يقول إمامنا أمير المؤمنين (عليه السلام) ‘‘إِنَّمَا هُوَ عِيدٌ لِمَنْ قَبِلَ اَللَّهُ صِيَامَهُ وَشَكَرَ قِيَامَهُ وَكُلُّ يَوْمٍ لاَ يُعْصَى اَللَّهُ فِيهِ فَهُوَ عِيدٌ،، فالعيد إذن يوم الجوائز الذي قلّما يلتفت إليه الملتفتون وهو مختصٌ بمن اتقى من الصائمين..ولكن ما هو واقع الأعياد لدى الأعم الأغلب منا وما هو تصورنا لها ؟!!.. مع شديد الأسف فالعيد لدى كثيرين ليس سوى موسم من مواسم التجاهر بالمعصية والعياذ بالله..فتجد الحفلات البائسة والغناء الفاحش والاختلاط المحرم واللهو والعبث و..و..وغيرها مما يندى لذكره الجبين..فهل هذا عيدٌ مبارك ؟! رويَ أنَّ الإمام الحسن (عليه السلام) مرَّ في يوم فطرٍ بقوم يلعبون ويضحكون، فوقف على رؤوسهم فقال: "إنَّ اللّهَ جَعَلَ شَهْرَ رَمَضانَ مِضْمارا لِخَلْقِهِ، فَيَسْتَبِقُونَ فيهِ بِطاعَتِهِ إِلى مَرْضاتِهِ، فَسَبَقَ قَوْمٌ فَفَازُوا، وَقَصَّرُوا آخَرُونَ فَخابُوا، فَالعَجَبُ كُلُّ العَجَبِ مِنْ ضاحكٍ لاعبٍ في اليومِ الذي يُثاب فيه المُحسنون، ويَخسرُ فيه المبطلون، و أيمُ الله لو كُشِفَ الغطاء لَعَلِموا أنَّ المُحسنَ مَشغولٌ بإحسانه والمُسيء مَشغولٌ بإساءته".. فَلا يكون عيدُ الفطر عيدَاً مباركاً ما لم يشكل نقطة تحول وانطلاق نحو ما هو أسمى وأفضل مما تحقق في شهر الله العظيم، وهذا ما بيَّنه أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة عيد الفطر حيث يقول (عباد الله! إن أدنى ما للصائمين والصائمات أن يناديهم ملك في آخر يوم من شهر رمضان: أبشروا عباد الله، فقد غُفر لكم ما سَلف من ذنوبكم فانظروا كيف تكونون فيما تستأنفون؟!) أما أن يعود العبد إلى سابق عهده من اللهو واللعب والتفريط بالواجبات فقد ظلم نفسه أيَّما ظلم..نسأل الله أن يوفقنا جميعاً إلى مرضاته، لتكون كل أيامنا أعياداً في طاعته، وعيداً أكبر عند لقاءه.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat