المحكم والمتشابه عند العلامة السيد الطباطبائي (ح 1)
د . فاضل حسن شريف
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . فاضل حسن شريف

جاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: قوله عز من قائل "هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ مِنْهُ ءَايَتٌ مُّحْكَمَتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَبِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَبَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ الْأَلْبَبِ" (آل عمران 7) قوله تعالى "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ"، عبر تعالى بالإنزال دون التنزيل لأن المقصود بيان بعض أوصاف مجموع الكتاب النازل وخواصه، وهو أنه مشتمل على آيات محكمة وأخر متشابهة ترجع إلى المحكمات وتبين بها، فالكتاب مأخوذ بهذا النظر أمرا واحدا من غير نظر إلى تعدد وتكثر فناسب استعمال الإنزال دون التنزيل. قوله تعالى "مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ"، مادة حكم تفيد معنى كون الشيء بحيث يمنع ورود ما يفسده أو يبعضه أو يخل أمره عليه، ومنه الإحكام والتحكيم، والحكم بمعنى القضاء، والحكمة بمعنى المعرفة التامة والعلم الجازم النافع، والحكمة بفتح الحاء لزمام الفرس، ففي الجميع شيء من معنى المنع والإتقان، وربما قيل إن المادة تدل على معنى المنع مع إصلاح. والمراد هاهنا من إحكام المحكمات إتقان هذه الآيات من حيث عدم وجود التشابه فيها كالمتشابهات فإنه تعالى وإن وصف كتابه بإحكام الآيات في قوله "كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ" (هود 1)، لكن اشتمال الآية على ذكر التفصيل بعد الإحكام دليل على أن المراد بالإحكام حال من حالات الكتاب كان عليها قبل النزول وهي كونه واحدا لم يطرأ عليه التجزي والتبعض بعد بتكثر الآيات، فهو إتقانه قبل وجود التبعض، فهذا الإحكام وصف لتمام الكتاب، بخلاف وصف الإحكام والإتقان الذي لبعض آياته بالنسبة إلى بعض آخر من جهة امتناعها عن التشابه في المراد. وبعبارة أخرى لما كان قوله "مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ" مشتملا على تقسيم آيات الكتاب إلى قسمي المحكم والمتشابه علمنا به أن المراد بالإحكام غير الإحكام الذي وصف به جميع الكتاب في قوله "كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ" الآية وكذا المراد بالتشابه فيه غير التشابه الذي وصف به جميع الكتاب في قوله "كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ" (الزمر 23). وقد وصف المحكمات بأنها أم الكتاب، والأم بحسب أصل معناه ما يرجع إليه الشيء، وليس إلا أن الآيات المتشابهة ترجع إليها فالبعض من الكتاب وهي المتشابهات ترجع إلى بعض آخر وهي المحكمات ومن هنا يظهر أن الإضافة في قوله أم الكتاب ليست لامية كقولنا أم الأطفال، بل هي بمعنى من، كقولنا نساء القوم وقدماء الفقهاء ونحو ذلك، فالكتاب يشتمل على آيات هي أم آيات أخر، وفي إفراد كلمة الأم من غير جمع دلالة على كون المحكمات غير مختلفة في أنفسها بل هي متفقة مؤتلفة. وقد قوبلت المحكمات في الآية بقوله "وأخر متشابهات"، والتشابه توافق أشياء مختلفة واتحادها في بعض الأوصاف والكيفيات، وقد وصف الله سبحانه جميع القرآن بهذا الوصف حيث قال "كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ" (الزمر 23)، والمراد به لا محالة كون آيات الكتاب ذات نسق واحد من حيث جزالة النظم، وإتقان الأسلوب، وبيان الحقائق والحكم، والهداية إلى صريح الحق كما تدل عليه القيود المأخوذة في الآية، فهذا التشابه وصف لجميع الكتاب، وأما التشابه المذكور في هذه الآية، أعني قوله "وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ"، فمقابلته لقوله "مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ"، وذكر اتباع الذين في قلوبهم زيغ لها ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل، كل ذلك يدل على أن المراد بالتشابه كون الآية بحيث لا يتعين مرادها لفهم السامع بمجرد استماعها بل يتردد بين معنى ومعنى حتى يرجع إلى محكمات الكتاب فتعين هي معناها وتبينها بيانا، فتصير الآية المتشابهة عند ذلك محكمة بواسطة الآية المحكمة، والآية المحكمة محكمة بنفسها، كما أن قوله "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى" (طه 5)، يشتبه المراد منه على السامع أول ما يسمعه، فإذا رجع إلى مثل قوله تعالى "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " (الشورى 11)، استقر الذهن على أن المراد به التسلط على الملك والإحاطة على الخلق دون التمكن والاعتماد على المكان المستلزم للتجسم المستحيل على الله سبحانه، وكذا قوله تعالى "إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ" (القيامة 23)، إذا أرجع إلى مثل قوله "لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ" (الأنعام 103)، علم به أن المراد بالنظر غير النظر بالبصر الحسي، وكذا إذا عرضت الآية المنسوخة على الآية الناسخة تبين أن المراد بها حكم محدود بحد الحكم الناسخ وهكذا.
ويستطرد العلامة الطباطبائي في تفسيره الآية المباركة آل عمران 7: فهذا ما يتحصل من معنى المحكم والمتشابه، ويتلقاه الفهم الساذج من مجموع قوله تعالى هو الذي أنزل عليك الكتاب فيه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فإن الآية محكمة بلا شك ولو فرض جميع القرآن غيرها متشابها. ولو كانت هذه الآية متشابهة عادت جميع آيات القرآن متشابهة وفسد التقسيم الذي يدل عليه قوله "منه آيات" الخ، وبطل العلاج الذي يدل عليه قوله "هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ"، ولم يصدق قوله "كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا" (فصلت 3-4)، ولم يتم الاحتجاج الذي يشتمل عليه قوله "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا" (النساء 82)، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن القرآن نور وهدى وتبيان وبيان ومبين وذكر ونحو ذلك. على أن كل من يرعى نظره في آيات القرآن من أوله إلى آخره لا يشك في أن ليس بينها آية لها مدلول وهي لا تنطق بمعناها وتضل في مرادها، بل ما من آية إلا وفيها دلالة على المدلول إما مدلول واحد لا يرتاب فيه العارف بالكلام، أو مداليل يلتبس بعضها ببعض، وهذه المعاني الملتبسة لا تخلو عن حق المراد بالضرورة وإلا بطلت الدلالة كما عرفت، وهذا المعنى الواحد الذي هو حق المراد لا محالة لا يكون أجنبيا عن الأصول المسلمة في القرآن كوجود الصانع وتوحيده وبعثة الأنبياء وتشريع الأحكام والمعاد ونحو ذلك، بل هو موافق لها وهي تستلزمه وتنتجه وتعين المراد الحق من بين المداليل المتعددة المحتملة، فالقرآن بعضه يبين بعضا، وبعضه أصل يرجع إليه البعض الآخر. ثم إن هذا الناظر إذا عثر بعد هذه النظرة على قوله تعالى "مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ"، لم يشك في أن المراد بالمحكمات هي الآيات المتضمنة للأصول المسلمة من القرآن وبالمتشابهات الآيات التي تتعين وتتضع معانيها بتلك الأصول. فإن قلت رجوع الفروع إلى الأصول مما لا ريب فيه فيما كان هناك أصول متعرقة وفروع متفرقة سواء فيه المعارف القرآنية وغيرها، لكن ذلك لا يستوجب حصول التشابه، فما وجه ذلك؟ قلت وجهه أحد أمرين، فإن المعارف التي يلقيها القرآن على قسمين فمنها معارف عالية خارجة عن حكم الحس والمادة، والأفهام العادية لا تلبث دون أن تتردد فيها بين الحكم الجسماني الحسي وبين غيره كقوله تعالى "إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ" (الفجر 14) وقوله تعالى "وَجَاءَ رَبُّكَ" (الفجر 22)، فيتبادر منها إلى الذهن المستأنس بالمحسوس من الأحكام معان هي من أوصاف الأجسام وخواصها، وتزول بالرجوع إلى الأصول التي تشتمل على نفي حكم المادة والجسم عن المورد، وهذا مما يطرد في جميع المعارف والأبحاث غير المادية والغائبة عن الحواس، ولا يختص بالقرآن الكريم بل يوجد في غيره من الكتب السماوية بما تشتمل عليه من المعارف العالية من غير تحريف، ويوجد أيضا في المباحث الإلهية من الفلسفة، وهو الذي يشير إليه القرآن بلسان آخر في قوله تعالى "أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا" (الرعد 17)، وقوله "إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ" (الزخرف 3-4) ومنها ما يتعلق بالنواميس الاجتماعية والأحكام الفرعية، واشتمال هذا القسم من المعارف على الناسخ والمنسوخ بالنظر إلى تغير المصالح المقتضية للتشريعات ونحوها من جهة، ونزول القرآن نجوما من جهة أخرى يوجب ظهور التشابه في آياتها، ويرتفع التشابه بإرجاع المتشابه إلى المحكم، والمنسوخ إلى الناسخ.
قوله تعالى "فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ"، الزيغ هو الميل عن الاستقامة، ويلزمه اضطراب القلب وقلقه بقرينة ما يقابله في ذيل الآية من قوله "وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا"، فإن الآية تصف حال الناس بالنسبة إلى تلقي القرآن بمحكمه ومتشابهه، وأن منهم من هو زائغ القلب ومائله ومضطربه فهو يتبع المتشابه ابتغاء للفتنة والتأويل، ومنهم من هو راسخ العلم مستقر القلب يأخذ بالمحكم ويؤمن بالمتشابه ولا يتبعه، ويسأل الله تعالى أن لا يزيغ قلبه بعد الهداية. ومن هنا يظهر أن المراد باتباع المتشابه اتباعه عملا لا إيمانا، وأن هذا الاتباع المذموم اتباع للمتشابه من غير إرجاعه إلى المحكم، إذ على هذا التقدير يصير الاتباع اتباعا للمحكم ولا ذم فيه. والمراد بابتغاء الفتنة طلب إضلال الناس، فإن الفتنة تقارب الإضلال في المعنى، يقول تعالى يريدون باتباع المتشابه إضلال الناس في آيات الله سبحانه، وأمرا آخر هو أعظم من ذلك، وهو الحصول والوقوف على تأويل القرآن ومآخذ أحكام الحلال والحرام حتى يستغنوا عن اتباع محكمات الدين فينتسخ بذلك دين الله من أصله. والتأويل من الأول وهو الرجوع فتأويل المتشابه هو المرجع الذي يرجع إليه، وتأويل القرآن هو المأخذ الذي يأخذ منه معارفه. وقد ذكر الله سبحانه لفظ التأويل في موارد من كلامه فقال سبحانه "وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ" (الأعراف 52-53)، أي بالحق فيما أخبروا به وأنبئوا أن الله هو مولاهم الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل، وأن النبوة حق، وأن الدين حق، وأن الله يبعث من في القبور، وبالجملة كل ما يظهر حقيقته يوم القيامة من أنباء النبوة وأخبارها. ومن هنا ما قيل إن التأويل في الآية هو الخارج الذي يطابقه الخبر الصادق كالأمور المشهودة يوم القيامة التي هي مطابقات اسم مفعول أخبار الأنبياء والرسل والكتب. ويرده أن التأويل على هذا يختص بالآيات المخبرة عن الصفات وبعض الأفعال وعن ما سيقع يوم القيامة، وأما الآيات المتضمنة لتشريع الأحكام فإنها لاشتمالها على الإنشاء لا مطابق لها في الخارج عنها، وكذا ما دل منها على ما يحكم به صريح العقل كعدة من أحكام الأخلاق فإن تأويلها معها، وكذا ما دل على قصص الأنبياء والأمم الماضية فإن تأويلها على هذا المعنى يتقدمها من غير أن يتأخر إلى يوم القيامة مع، أن ظاهر الآية يضيف التأويل إلى الكتاب كله لا إلى قسم خاص من آياته. ومثلها قوله تعالى "وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ" (يونس 37-39)، والآيات كما ترى تضيف التأويل إلى مجموع الكتاب.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat