من عبق الماضي ...الخميسية... بين الذكرى وحقائق التاريخ
د . عماد جاسم حسن
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . عماد جاسم حسن

الخميسية ،أو كما يحلو للبعض أن يسميها بـ(لؤلؤة البرية )وعندما يرد ذكرها واسمها يعود بنا الزمان إلى أكثر من مائة عام خلت وانتهت وانتهى فيه عزها واندثر وانهدم بنائها وزالت أهميتها وتلاشى صيتها ولم يبقى من ذكرها سوى الأطلال التي عفى عليها الزمن وكأنها لم تكن يوما من الأيام مدينة مزدهرة ومركز تجاريا مهما ومستودعا تتجمع فيه البضائع وتوزع إلى مناطق العراق المختلفة ،بل أنها كانت بوابة العراق البرية لأهميتها وتوسطها الصحراء التي جعلتها أن تكون أشبه باللؤلؤة وسط البر على عكس اللآلئ التي تنمو وسط البحر .
هذه المدينة التي لم يعطيها الزمان حقها بل انه أدار ظهره عنها ،فأصبحت نسيا منسيا على عكس المدن الأخرى التي استمرت في نموها واتساعها وتطورها وأصبحت مراكز حضارية متطورة فيما بعد ،لذا نحاول في هذه المقالة أن نسلط الضوء على هذه المدينة التي تذكرنا بماضيها وأيام عزها وزهوها.
تقع الخميسية على بعد حوالي خمسة عشر كيلو متر عن مركز قضاء مدينة سوق الشيوخ ،وبهذا الموقع فأنها تقع على حافة الاهوارالتي تحيط بها من الجنوب والشرق ،كان يطلق عليها اسم العسرة لصعوبة العيش والسكن فيها مقارنة بالمدن الأخرى المجاورة لها التي كانت مزدهرة مثل البصرة والزبير وسوق الشيوخ وصعوبة العيش يعود لسببين ،أولهما بعدها عن مجرى نهر الفرات الأمر الذي جعلها معدومة المياه الصالحة للشرب ،أما السبب الأخر فهو أن أراضيها غير صالحة للزراعة لملوحة تربتها .
أن ارض الخميسية عبارة عن مرتفع يبدو انه كان مستوطنة بشرية قديمة ،ومما يدل على هذا الاعتقاد هو عثور سكانها على بعض الآثار مثل النقود القديمة وأشياء أثرية أخرى تحت أراضيها ترجع إلى عهود وأزمنة قديمة ،ومن الدلائل الأخرى التي تدل على هذا الاعتقاد وجود بعض الإطلال من أبنية قديمة على شكل مرتفعات وتلال أثرية موغلة في القدم تحيط بالخميسية ،مثل أيشان ام الودع وايشان الجديدة الذي تسكنه عشائر السادة العكدة وكذلك منطقة الفصيلة التي هي أراضي عشيرة الساده ال عبدالحسن احد عشائر الساده العكدة وتل اللحم ....الخ .
سميت الخميسية بهذا الاسم نسبة إلى مؤسسها عبدالله بن صالح بن خميس من أهالي نجد الذين جاءوا إلى العراق في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أيام اضطراب الأوضاع في نجد ودخولها في صراعات وحروب داخلية أدت إلى هجرة الكثيرين من سكانها إلى مدينة سوق الشيوخ ثم شاءت الأقدار أن غادروها إلى الخميسية التي بنى فيها قصره ثم بنى النجديون دواوينهم بالإضافة إلى أهالي سوق الشيوخ الذين تركوا مدينتهم واستقروا في الخميسية ،ونتيجة لاستقرار هؤلاء فيها ازدهرت تجارتها وزادت أموالها وانتعشت أوضاعها وعلا شأنها وذاع صيتها وزادت شهرتها ،وبسب ذلك اخذ يقصدها الكثير من الناس للعمل فيها والمتاجرة معها لاسيما وإنها أصبحت مخزنا تتجمع فيها البضائع تم توزع إلى المناطق الأخرى .
أن تلك الأهمية والشهرة التي وصلت إليها الخميسية أدت إلى زيادة عدد سكانها فبلغ عام 1910 مايقارب خمسة ألاف نسمة ،وأصبح فيها على مايربو ألف بيت . أن مدينة بذلك الحجم والنشاط والشهرة في وقتها ،فوقع على عاتق أهلها مسؤولية أن يتركوا أثارا وتاريخا بقي يضرب في أعماق الزمان ،فهي حالها كبقية المدن الأخرى لاتختلف من حيث البناء عن المدن الأخرى التي بنيت على تخوم الصحراء ،ولغرض تأمينها من الإخطار الخارجية ،فقد أحاطها أهلها بسور كبير كان أشبه بالقوس ولم يكن دائريا لان الاهوار كانت تحيط بعض جهاتها وعدت حاجزا أمينا لها ووضعت أبراج للمراقبة على ذلك السور .
أن أهالي الخميسية قاموا ببناء جامع كبير في ذلك الوقت وبنيت له مأذنة ربما تكون قد اتخذت صفة مميزة وهي ميلانها رغم ارتفاعها والتي لاتزال شاخصة حتى اليوم ،كذلك اهتم آل خميس بالتعليم اذ تعد الخميسية من اولى المناطق التي ظهر فيها التعليم شبه النظامي ،وفي عام 1924 أسست فيها مدرسة حكومية .
وخلال العهد العثماني وتحديدا أيام الوالي العثماني مدحت باشا أصبحت الخميسية ناحية تابعة إلى قضاء سوق الشيوخ ووضع العثمانيون فيها كتيبة عسكرية مكونة من مائة جندي بسبب أهميتها التي ذكرناها ،وفي عام 1912 أعيدت إلى قرية ،لكنها بعد الاحتلال البريطاني للعراق عام 1914 أصبحت ناحية تابعة إلى قضاء سوق الشيوخ وأصبح حميد آل خميس مديرا لها في عام 1916.
أن ذلك العز والازدهار والزهو الذي تمتعت به الخميسية لم يستمر بل جاءت الأسباب والمسببات لتلقي بظلالها على نجم الخميسية وتجعله يهفت بمرور الأيام بسبب استقرار أوضاع الجزيرة العربية وعودة النجديين الذين هاجروا إليها سابقا وكذلك عودة الأهمية التي كان يتمتع بها مدينة سوق الشيوخ سابقا .
وبعد التغير السياسي الذي حصل في العراق عام 1968 والانقلاب البعثي الذي سيطر على مقاليد السلطة في البلاد وإتباعه سياسة تمييزية في تعامله مع المدن والطوائف العراقية ،فقد عانت الخميسية حالها حال بقية المدن الجنوبية من العراق من سياسات الإهمال بل والأكثر من ذلك أن النظام السابق أقدم على بناء مخزن كبير للأسلحة فيها ،وأصبحت تلك المخازن وبالا على أبناءها لاسيما بعد تدميرها من قبل قوات التحالف الغربي الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية عام 1991 بعد غزو النظام السابق لدولة الكويت عام 1990 وادخل البلاد في دوامة من الأحداث والمشكلات التي لازلنا إلى يومنا هذا نعاني من أثارها .ان تدمير تلك المخازن التي كانت تحتوي على كميات كبيرة من الأسلحة وبمختلف إشكالها وأحجامها وأنواعها قد تسبب في معاناة أهالي الخميسية من كثرة الأمراض لاسيما السرطانية ،فضلا عن ذلك فقد تعرض بعضهم إلى انفجار بعض القنابل التي تركت في تلك المخازن او التي انتشرت بعد دخول القوات الأمريكية إلى العراق عام 1991 ،وبذلك فأن أهل الخميسية عانوا الآمرين بسبب تلك السياسات الهوجاء ،كما أنهم تأثروا بسياسة النظام البائد التي أدت إلى تجفيف الاهوار التي كانت مصدر معيشتهم الأساس ،ففيها كانوا يصطادون الأسماك التي يستخدمون بعضها لاستهلاكهم المحلي والفائض منها يصدر او يباع في مدينة سوق الشيوخ او يقوم بعض التجار ببيعة في البصرة ،كذلك اعتمادهم على الاهوار في صيد الطيور بمختلف أشكالها وأيضا تحتضن تلك الاهوار أعدادا ضخمة من الأبقار والجاموس التي يربيها أهالي تلك المنطقة ،يضاف الى ذلك فأن الخميسية كان يزرع فيها الشعير والدخن ،أن تلك الثروات التي كانت تمتاز بها الخميسية جعلتها سياسة النظام السابق تعاني مع بقية المدن العراقية من فقر متقع أدى بأغلب أهاليها في الهجرة إلى المدينة ولم تبقى فيها ألا بيوتات معدودة عانت من شظف العيش .وبعد عام 2003 وعودة مياه الاهوار إلى تلك المناطق عادت بعض الحيوية لتلك المدينة ،لكن الاهتمام بها ظل قليلا أيضا ،ولم نلحظ تطورا مهما حصل فيها يذكرنا بتاريخها السابق عندما كانت مركزا مهما تأتيه السلع والبضائع من مختلف المناطق ويتعامل معها عدد كبير من التجار حتى من الدول المجاورة ،تلك الهيبة والشهرة التي وصلت إليها الخميسية جعلت أهلها دائما يتغنون بماضيها حتى الذين غادروها او رحلوا عنها الى مناطق أخرى تراهم دائما في ذكرها ويفتخرون بأنتمائهم أليها ويعتزون بتاريخها الذي دفع بعض الكتاب للكتابة عنها ،اذ ظهرت عدة مؤلفات تناولت تاريخ تلك المدينة ،ونحن هنا حاولنا أن نذكر ولو بلمحة بسيطة عن تلك المدينة التي أصبحت جزء من ماض جميل لايمكن أن تتحدث عن تلك المرحلة التاريخية مالم يتم ذكرها ،لكن مايؤسف له هو قلة الاهتمام بها بالوقت الذي يجب علينا أن نعطيها اهتماما خاصا لكون تمثل تاريخا لمرحلة مهمة من تاريخ العراق الحديث والمعاصر .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat