الأدب الشيعي هو نافذة مشرعة على تاريخ عريق وثقافة متجذرة في عمق الوجدان الإنساني.
إنه أدب ينبض بروح الوفاء، ويعكس إفرازات أمة عانت من الظلم واستمدت من تلك المعاناة قوةً للإصرار على التمسك بالحق.
وفيه تلتقي شاعرية الكلمة بالحزن النبيل، وتتشابك المعاني مع العقيدة، ليولد نص أدبي يحمل في طياته رسائل خالدة بنكهة الفداء والتضحية.
لا سيما إن حاكت أحداث يوم عاشوراء، التي تمثل رمزًا أبديًا للثورة ضد الظلم والطغيان.
شاعرنا لهـٰذا العدد شاعر نُسجت قصائده من خيوط الزمن، وترددت أصداؤها في أروقة الدهر كألحان خالدة لا تعرف الفناء.
في رأس العين على شاطئ الفرات ولد ونشأ هـٰذا النجم الذي أضاء سماء الشعر العربي، ليتحول إلى رمز من رموز الفصاحة والجمال.
منصور النمري، شاعر عربي من العصر العباسي الأول، أبو الفضل منصور بن سلمة بن الزبرقان النمري، تعود أصوله إلى بني سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط.
الأخبار الواردة في بطون الكتب لا تكفي لتسليط الضوء على حياته ونشأته، إلا أن أشعاره تكشف بوضوح عن شخصيته وإيمانه بعقيدته وولائه لأهل البيت (عليهم السلام)، كما تكشف أيضًا عن شاعريته الفذة التي فاق بها شعراء عصره.
تتلمذ على يد كلثوم بن عمرو العتابي وما لبث أن اختلف معه.
له قصائد في مدح الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والعترة الطاهرة صلوات الله عليهم، ويقال أنه كان من المُكثِرين في النظم.
اخترنا منها قصيدة في رثاء الإمام الحسين (عليه السلام) تبلغ (30) بيتًا قال فيها:
متى يشفيكَ دمعُكَ من همولِ ويبردُ ما بقلبِكَ من غليلِ
القصيدة من بحر الوافر الذي هو من ألين البحور، وأكثرها مرونة وسلاسة، يمتاز بتدفقه، يشتدُّ إذا شددته، ويرقُّ إذا رقَّقته، لذلك يستخدم في أشعار الرثاء.
قافية القصيدة المتواترة، حرف الروي "اللام" المجرورة، المردوفة بالواو والياء، مما أعطاها إيقاعًا حزينًا ومستمرًا، تناسب مع موضوع واقعة الطف.
تميزت القصيدة بمطلع حسن السبك، وبراعة الاستهلال، مصرع، خالٍ من الحشو، اتسم بلغة شعرية دقيقة، حيث إن مفرداته تعكس مشاعر عميقة وتعقيدات عاطفية، مثل "يشفيكَ"، "دمعُكَ"، "همولِ"، و"غليلِ"
اعتمد الشاعر في المطلع على الأسلوب الاستفهامي الذي يعكس حيرته وتطلعه إلى إجابة عن معاناته.
والسؤال "متى" يوحي بالانتظار الطويل والقلق المتواصل.
كما نجد به لونًا من ألوان البلاغة
"دمعُكَ" كوسيلة للشّفاء و"غليلِ" كرمزٍ للألم، مما يجعل التفاعل بين الدموع والحالة النفسية أمرًا تشبيهيًا ومعنويًا، وهناك نوع من الجناس في استخدام "همولِ" و"غليلِ"، حيث يرتبطان بمعاني الألم والغضب، مما يضيف لمسة جمالية للتعبير.
كما يعكس البيت حالة من الصراع الداخلي والألم النفسي والتعب العاطفي التي يعيشها الشاعر، فهو يتساءل عن مدى قدرة الدموع على تهدئة هـٰذا الألم.
ويشير البيت إلى أن الألم لم ينتهِ بعد، والدموع لا تكفي للتخلص من مشاعر الحزن العميقة، مما يعكس شعورًا بالاستمرار في المعاناة.
فــؤادُكَ والــسلـوّ فإن فيه سيأتـي أن يـعودَ إلى ذهولِ
فيا طولَ الأسى مـن بعد قومٍ أديرَ عليهمُ كأسَ الأفولِ
تعاورهم أسنّةُ آلِ حربٍ وأسيافٌ قـليلاتُ الفلولِ
فما وُجدت على الأكتافِ منهم ولا الأعقابِ آثارُ النّصولِ
ولكنّ الوجوهَ مكلّماتٍ وفوق صدورهمْ مجرى السيولِ
"فؤادك والسلّو" يشير إلى القلب وما يحمله من آلام وحزن.
"سيأتي أن يعود إلى ذهول" يؤكد أن حتمية العودة إلى حالة الذهول والحزن أمر لا مفر منه.
"طول الأسى من بعد قوم" يستخدم "طول الأسى" لتأكيد استمرارية هذا الألم، وأن هـٰذا الحزن الشديد هو بسبب فقدان قومٍ كانوا مهمين له وهم الحسين (عليه السلام) وأهل بيته.
"أدير عليهم كأس الأفول" استعارة يشَبَّهُ الفناء بكأس تُدار على الجميع.
ويبدو التشبيه جليًّا ومباشرًا بين الفناء وكأس الأفول التي أديرت، مما يضفي قوة تصويرية على النص، كما استخدم الاستعارة في "أسيافٌ قليلات الفلول" حيث يوحي الشاعر بأن الأسلحة التي أصابت الحسين (عليه السلام) كانت قاسية ولا تعرف التراجع والرحمة، مما يزيد من تأثير الصورة البلاغية.
"فما وُجدت على الأكتافِ منهم ولا الأعقابِ آثارُ النّصولِ" كناية عن شدة القتال وضراوته حيث لم تترك الأسياف والأسنة بقعة من أجسادهم الطاهرة بلا أثر بسبب شدة الإصابات.
"الوجوه المكلّمات ومجرى السيول" تعبر عن حجم الألم والجروح التي تعرض لها البواسل من آل محمد (عليهم السلام)، مما يصور المشهد بشكل مأساوي.
ويؤثر الوزن والقافية تأثيرًا موسيقيًا قويًا يعزز الشعور بالحزن والرهبة، مما يضيف إلى الأبيات وقعًا ثقيلًا على النفس يعكس موضوعها المؤلم.
بتربةِ (كربلاءَ) لهمْ ديارٌ نيامُ الأهلِ دارسةِ الطّلولِ
تحياتٌ ومغفرةٌ وروحٌ على تلكَ المحلةِ والحلولِ
لأوصالِ الحسينِ بِبطنِ قاعٍ ملاعبُ للدّبورِ وللقبولِ
أريقَ دمُ الحسينِ ولم يراعوا وفي الأحياءِ أمواتُ العقولِ
فدت نفسي جبينَكَ من جبينٍ جرى دمُه على الخدِّ الأسيلِ
بهـٰذه الأبيات يمجّد الشاعر الحسين (عليه السلام) وأصحابه الذين استشهدوا بين يديه، ويثني على الدماء التي أريقت دفاعًا عن المبادئ والقيم، مشيدًا بمكانتهم الدينية والروحية والتاريخية، يذكر "تربة كربلاء" إشارة للمكان المقدس حيث وقعت تلك الواقعة.
"نيام الأهل" إشارة للشهداء الذين يرقدون بسلام في كربلاء، ويستخدم "نيام" وإشارة للراحة الأبدية.
"دارسة الطلول" بقايا الآثار والديار والزمن الذي مر على استشهادهم.
"تحيات ومغفرة وروح" سلام ودعاء للشهداء بالرحمة والغفران، تعبيرًا عن احترامه وتقديره لبطولات شهداء الطف.
"ملاعب للدبور والقبول" إشارة إلى الانتهاك الذي تعرض له الجسد الطاهر.
"وفي الأحياء أموات العقول" يعبر عن استيائه العميق من القتلة الذين لم يراعوا حرمة الحسين (عليه السلام) ومكانته الدينية ولا لقيمه السماوية، ويصفهم بأنهم "أموات العقول" مما يعكس انحطاطهم الأخلاقي والإنساني.
يوجد تكرار صوتي جميل بين كلمات مثل "تحيات" و"مغفرة" و"روح" يعزز الانسجام الموسيقي في الأبيات.
ألا يا ربِّ ذي حـزنٍ تعايا بصـبرٍ فاستراحَ إلى العويلِ
قتيلٌ ما قتيلُ بني زيادٍ ألا بأبي وأمِّي مِن قتيلِ
أيخلو قلبُ ذي ورعٍ ودينٍ من الأحزانِ والهمٍّ الطويلِ
وقد شرقتْ رماحُ بني زيادٍ بريٍ من دماءٍ بني الرسولِ
ألم يُحزنكَ سربٌ من نساءٍ لآلِ مـحمدٍ خُمشِ الذيولِ
"تعايا" إشارة للحيرة والعجز عن الصبر على الحزن، مما يؤدي للتفجع وللعويل والبكاء.
"قتيل بني زياد" يعني استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) على يد جيش ابن زياد، وهو فادحة لا تماثلها فادحة في تاريخ الإسلام.
استخدام كلمة "قتيل" هنا يُظهر الفاجعة والظلم الكبير الذي تعرض له الإمام الحسين (سلام الله عليه).
" بريٍ من دماءِ بني الرسولِ" تعبير مجازي يشير إلى عطش الرماح لدماء آل البيت (عليهم السلام)، ويصور المشهد القاسي والمعاناة الكبيرة حيث إنها شربت حتى شرقت بدمائهم الطاهرة.
"خمش الذيول" يشير إلى تمزق أردية النساء من آل محمد، وهو رمز للإذلال والإهانة التي تعرضن لها العائلة الكريمة بعد واقعة كربلاء، وهي كناية عن المعاناة التي تحملتها نساء آل محمد (صلى الله عليه وآله).
"أيخلو قلب ذي ورع ودين من الأحزان والهمّ الطويل؟" سؤال بلاغي يُظهر استنكار الشاعر لفكرة أن يخلو قلب المؤمن من الحزن بعد هذه الفاجعة.
يشقِّقنَ الجيوبَ على حسينٍ أيامى قد خلونَ من البعولِ
برئنا يا رسولَ الله مّمن أصابكَ بالأذاةِ وبالذحولِ
ألا يا ليتني وصلتْ يميني هناكَ بقائمِ السيفِ الصقيلِ
نجدتُ على السيوفِ بحرِّ وجهي ولمْ أخذلْ بنيكَ مع الخذولِ
"يشقِّقنَ الجيوبَ على حسين" يشرح حال نساء الحسين بعد واقعة الطف وحزنهن الشديد على الإمام الحسين (عليه السلام).
"أيامى قد خلونَ من البعول" "الأيامى" هن النساء اللاتي فقدن أزواجهن، إشارة إلى النساء الثكالى اللاتي فقدن أزواجهن وأحبتهن في معركة كربلاء.
"برئنا يا رسول الله" يعلن براءته من أولئك الذين تسببوا في الأذى لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بقتل حفيده الإمام الحسين (عليه السلام)، وهو تعبير عن الغضب والنقمة.
"بقائمِ السيفِ الصقيل" يوضح رغبته العميقة في الانضمام إلى معركة كربلاء والقتال والفداء بنفسه نصرة للحسين (عليه السلام)، معبرًا عن أسفه لعدم تمكنه من المشاركة في تلك الملحمة.
"حرّ وجهي" استعارة تعني شدة الحمية والحماسة، حيث يشبه وجهه الذي يحمى بالسيف بحرارة غيرته وغضبه.
"يا رسول الله" نداء يعبر عن الاستغاثة والحزن العميق تجاه ما حدث لآل البيت.
تتسم القصيدة بجمالية الأسلوب والعمق البلاغي المؤثر، والعاطفة الصادقة.
عبر الشاعر عن مشاعر الفقد والحزن بأسلوب بلاغي راقٍ يعتمد على الاستعارة والتشبيه والكناية.
كما قدم الشاعر تأملًا بديعًا في الشهادة والراحة والخلود، مما أضفى على النص قوة تعبيرية عن الألم الإنساني المقدس وشجاعة مواجهة الفناء بالبقاء الأزلي.
وعكس استخدام بحر الوافر والقافية الحزينة الشعور العميق بالفقد والأسى.
قصيدة قوية تأكد لنا بأن الشعر في قوته وبلاغته، يستطيع أن يجسد أعظم المآسي ويخلد أسمى البطولات، ليبقى صوته يتردد عبر الأجيال، يحمل معاني العزاء والشجاعة والتضحية في سبيل الحق.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat