للأدب الولائي في ذاكرة التاريخ مكانة كبيرة، فهو درة لألاءه، زاخرة البيان، يحمل في طياته عبق العقيدة وعبير الولاء، يتفجر من حروفه نبض الإيمان وعظمة الإيثار.
هو ليس مجرد نظمٍ يُحاك من الكلمات، بل هو مرآة تضيء بوهجها على القلوب، تُعانقها بالمدح والرثاء وتُلهبها بالعزة والإباء والفداء.
في ذكر أهل البيت (عليهم السلام)، يصبح الشعر، مرقاة للفراديس، هو نهر من المشاعر العارمة، تتدفق من أعماق الضمير لتعانق السماء وتعلو إلى مراتب العرش.
من شعراء الولاء الذين تعطرت سيرهم بذكر العترة الطاهرة (الشيخ حسين بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن عمران القطيفي)، عالم عامل، فقيه فاضل، أديب كامل (توفي 1186 هـ / 1772 م)
لنا وقفة عابرة على مقاطع من قصيدته التائية في رثاء الإمام الحسين (عليه السلام) والتي تبلغ (31) بيتًا
وهي من بحر الكامل التام، بقافية متداركة، حرف الروي التاء المجرورة، موصولة بالهاء، خارجة بالألف، وتنتمي القصيدة للشعر الرثائي.
لنبحر سويًّا مع هذا النص البديع:
الأبيات الثلاثة تبرز مشهدًا من الشجاعة والإقدام والتضحية، مستخدمةً لغة أدبية جزلة وأساليب بلاغية متنوعة
للهِ موقفُه وموقفُ فتيةٍ عُدِموا النصيرَ ولو دعتْ لم يأتِها
يتواثبونَ على المنيةِ أشبهوا الـ آسادَ في وثباتِها وثباتِها
شمُّ الأنوفِ كريمةٌ أحسابُهم حلّوا من العليا على ذرواتِها
للهِ موقفُه وموقفُ فتيةٍ:
تشير الأبيات إلى أن الله تعالى شأنه قد اختار موقفًا خاصًا لهؤلاء "الفتية" الشجعان، يشير الشاعر هنا إلى الحسين (عليه السلام) وأصحابه في معركة كربلاء، دلالة عقائدية عميقة تعبر عن الاصطفاء الإلهي والشهادة في سبيل الله.
عُدِموا النصيرَ ولو دعتْ لم يأتِها:
وصفًا للحالة الصعبة التي كان فيها هؤلاء الأبطال؛ فقد كانوا بدون نصير أو دعم، حتى لو استنجدوا لم يأتهم أحد لنجدتهم، وهذا يعكس قوة الإيمان والعزيمة في مواجهة المواقف الصعبة دون الاعتماد على الدعم الخارجي، مما يُبرز ثباتهم على الحق وتوكل الكامل على الله سبحانه
يتواثبونَ على المنيةِ أشبهوا الآسادَ في وثباتِها وثباتِها:
يعبر هذا البيت عن الشجاعة والإقدام، حيث يشبه الشاعر الفتية بالأسود التي تثب نحو المنية دون خوف، وهذه الصورة تعكس التضحية والشجاعة من أجل العقيدة والمبدأ، وهو ما يعزز فكرة الجهاد في سبيل الله.
شمُّ الأنوفِ كريمةٌ أحسابُهم:
إشارة للنسب الشريف والأصالة لهؤلاء الأبطال، مما يضفي عليهم مكانة رفيعة ليس فقط بسبب شجاعتهم، بل أيضًا لأصلهم ونسبهم. وهذا يعزز من مكانتهم عند الله.
حلّوا من العليا على ذرواتِها:
يشير إلى أنهم وصلوا إلى قمم المجد والعزة، مما يعكس رفعة مكانتهم من الناحية الدينية والعقائدية.
الأبيات تتميز بخصائص أدبية بارزة ولغة الجزالة فيها واضحة، حيث استخدم الشاعر ألفاظًا قوية ومعبرة تعكس العظمة والرفعة، مثل "موقف"، "فتية"، "يتواثبون"، "الآساد"، "شمّ الأنوف"، "ذروات". هذه الألفاظ تعطي القصيدة جلالاً ووقارًا، وتعكس عظمة الموقف الذي يتحدث عنه.
الأبيات مترابطة، متوازنة، حيث يستخدم الشاعر أسلوب التوازي بين الأبيات لخلق توازن موسيقي وجمالي، وهذا يظهر في التوازي بين الكلمات مثل "موقفه وموقف"، "يتواثبون والآساد"، "وثباتها وثباتها".
كما أن هناك استخدامًا بارزًا للتشبيه في البيت الثاني "يتواثبونَ على المنيةِ أشبهوا الآسادَ"، وهو تشبيه يبرز القوة والشجاعة، فالتشبيه هنا يوضح شجاعة الفتية وإقدامهم كما تفعل الأسود.
الجناس بين كلمتي "وثباتِها" و"وثباتِها" أضفى إلى موسيقى البيت إيقاعا وجمالا وأوضح ارتباط الفكرة.
"عُدِموا النصيرَ ولو دعتْ لم يأتِها"، هنا يوجد مجاز عقلي حيث يُنسب عدم الإتيان إلى من يدعو، ولكن المقصود هو عدم الاستجابة للدعوة.
"شمُّ الأنوفِ": كناية عن الكبرياء والعزة، و"كريمةٌ أحسابُهم": كناية عن النسب الشريف والمكانة الرفيعة.
من بينهمْ سبط النبيِّ بوجهِه سيما النبوةِ حائزاً قسماتها
يحمي حمى الدينِ الحنيفِ بعزمة تحكي الأسودَ الربدَ في غاباتِها
حتى قضى والكائناتُ بأسرِها تتلو محامدَ ذاتِه وصفاتِها
الأبيات تتحدث عن الإمام الحسين (عليه السلام)، سبط النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن يحمل سمات النبوة، والتي تظهر وتتجلى في شخصيته وأفعاله، كالشجاعة والتضحية، والعفو، والرحمة، والعبادة، والتقوى.
حيث إن الإمام الحسين (عليه السلام) هو الإمام المعصوم، ودوره العظيم في حماية الدين الإسلامي، وتجلت تلك التضحيات في يوم عاشوراء.
استخدم الشاعر لغة واضحة، مع تشبيهات قوية مثل "تحكي الأسود الربد في غاباتها" لتعزيز صورة الإمام الحسين (عليه السلام) كحامٍ للدين، أيضًا انتظام الوزن والقافية ساهم في الإيقاع الموسيقي الجاذب جدًّا.
أما عن الرمزية والتشبيهات فقد استخدم الشاعر رموزًا مثل "سبط النبي" و"سيما النبوة" و"الأسود الربد"، واستخدام أسلوب التكرار في كلمة "النبي" و"النبوة" وكلمة "محامد" و"ذاته وصفاتها" يعزز من التركيز على الصفات الحميدة للإمام الحسين (عليه السلام)، ويعزز من التركيز على العلاقة الروحية بينه والنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
"يحمي حمى الدين الحنيف بعزمة" تعني أن الإمام الحسين (عليه السلام) يحمي الدين الإسلامي بعزم وقوة، "حتى قضى والكائنات بأسرها تتلو محامد ذاته وصفاتها" استعارة تعبر عن دوره وتأثيره الكبير كحامٍ للدين.
ومنها:
عرِّجْ على قبرِ النبيِّ بطيبةٍ وانعَ الحسينَ ونادي في حجراتِها
قل: يا رسولَ الله آلك قُتِّلوا لمْ يُرعَ حقُّ اللهِ في حُرماتِها
هذا حبيبُكَ بالعراءِ ورأسُه حملتْ أميّة في رفيعِ قناتِها
هذا حبيبُكَ بالطفـوفِ مُجدّلاً ما بين جندلها وحرِّ صفاتِها
واهتفْ بفاطمةَ البتولِ مبلّغًا ما حلّ في أبنائها وبناتِها
الأبيات تعبر عن الحزن العميق والأسى على استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته (سلام الله عليهم) ، والشاعر يخاطب النبي محمد (صلى الله عليه وآله) ويعبر عن الألم بهذه الفاجعة الأليمة، مما يعكس عظمة الإمام الحسين (عليه السلام) وأهمية في العقيدة الإسلامية، خاصة عند الشيعة، حيث يُعتبر رمزًا للتضحية والفداء في سبيل الحق.
استخدم الشاعر أسلوب المخاطبة المباشرة للنبي محمد (صلى الله عليه وآله) وفاطمة الزهراء (عليها السلام)، مما يوضح طابع المودة بين الشاعر وأهل البيت (عليهم السلام) عقائديًّا وعاطفيًّا
الصور الشعرية بهذه الأبيات قوية مثل "حملت أميّة في رفيع قناتها" و "ما بين جندلها وحر صفاتها" لتصوير مشهد استشهاد الإمام (عليه السلام) بشكل مؤثر.
"حملت أميّة في رفيع قناتها" استعارة لتصوير رفع الرأس الشريف على الرمح.
"حبيبك" (تشبيه) إشارة إلى قربه من النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، كما استخدام الشاعر كلمات متشابهة في الصوت مثل "حبيبك" و"حملت" لإضفاء جمالية صوتية على الأبيات.
ومنها
ذا غلّةٍ لم يطفِ لاهبَ حرِّها في (كربلا) من ماءِ عذبِ فراتِها
في الأرضِ عارٍ والسماءُ تودّ لو وارته أو ضمَّته في هالاتِها
تبكي له عينُ السحائبِ حسرةً وتودّ لو ترويه من قطراتِها (1)
الأبيات تصور مشهدًا مؤلمًا للإمام الحسين (عليه السلام) وهو يعاني من شدة العطش، في حين أن ماء الفرات يجري حوله ولا يسقى منه، يصور الإمام (عليه السلام) وهو ملقى على الأرض بلا كفن، معبرًا عن الظلم الكبير الذي تعرض له، بينما السماء والأرض تبكيان عليه.
يشبه الشاعر حر العطش الذي عانى منه الإمام (عليه السلام) باللهب الذي لا يطفئ، والسماء والأرض صورهما ككائنات حية تبكي على الإمام (سلام الله عليه) وتود لو تستطيع أن تغطيه أو تضمّه، استعارة تعبر عن الحزن العميق الذي يشعر به الكون كله جراء استشهاد الإمام.
استخدام الشاعر لكلمة "تود" مرتين في الأبيات تعزيزًا لمشاعر الحسرة والأسى.
ختامًا..
النص يعكس عمق المأساة التي وقعت على الإمام الحسين وأهل بيته (عليهم السلام) وتأثيرها الكبير على جميع الكائنات.
نقل لنا الشاعر مشاعر الحزن والأسى التي تعشعش في أعماقه، بنفس شعري صادق الإحساس، نقي المشاعر، وبأسلوب أدبي بلاغي راقٍ، مما جعل النص مؤثرًا للغاية، ليبقى نصه خالدًا في ذاكرة الزمن.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat