مفهوم الطين في القرآن الكريم (ح 3)
د . فاضل حسن شريف
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . فاضل حسن شريف

عن تفسير الميسر: قوله جلت قدرته "أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ" ﴿آل عمران 49﴾ الطِّينِ: ال اداة تعريف، طِّينِ اسم. ويجعله رسولا إلى بني إسرائيل، ويقول لهم: إني قد جئتكم بعلامة من ربكم تدلُّ على أني مرسل من الله، وهي أني أصنع لكم من الطين مثل شكل الطير، فأنفخ فيه فيكون طيرًا حقيقيا بإذن الله، وأَشفي مَن وُلِد أعمى، ومَن به برص، وأُحيي من كان ميتًا بإذن الله، وأخبركم بما تأكلون وتدَّخرون في بيوتكم من طعامكم. إن في هذه الأمور العظيمة التي ليست في قدرة البشر لدليلا على أني نبي الله ورسوله، إن كنتم مصدِّقين حجج الله وآياته، مقرِّين بتوحيده. قوله عز من قائل "وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ۖ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا" ﴿المائدة 110﴾ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَيْرِ: تصور من الطين على شكل الطائر. إذ قال الله يوم القيامة: يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك إذ خلقتك من غير أب، وعلى والدتك حيث اصطفيتها على نساء العالمين، وبرأتها مما نُسِب إليها، ومن هذه النعم على عيسى أنه قوَّاه وأعانه بجبريل عليه السلام، يكلم الناس وهو رضيع، ويدعوهم إلى الله وهو كبير بما أوحاه الله إليه من التوحيد، ومنها أن الله تعالى علَّمه الكتابة والخط بدون معلم، ووهبه قوة الفهم والإدراك، وعَلَّمه التوراة التي أنزلها على موسى عليه السلام، والإنجيل الذي أنزل عليه هداية للناس، ومن هذه النعم أنه يصوِّر من الطين كهيئة الطير فينفخ في تلك الهيئة، فتكون طيرًا بإذن الله، ومنها أنه يشفي الذي وُلِد أعمى فيبصر، ويشفي الأبرص، فيعود جلده سليمًا بإذن الله، ومنها أنه يدعو الله أن يحييَ الموتى فيقومون من قبورهم أحياء، وذلك كله بإرادة الله تعالى وإذنه، وهي معجزات باهرة تؤيد نبوة عيسى عليه السلام، ثم يذكِّره الله جل وعلا نعمته عليه إذ منع بني إسرائيل حين همُّوا بقتله، وقد جاءهم بالمعجزات الواضحة الدالة على نبوته، فقال الذين كفروا منهم: إنَّ ما جاء به عيسى من البينات سحر ظاهر. قوله جل جلاله "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا" ﴿الإسراء 61﴾ طينا اسم، واذكر قولنا للملائكة: اسجدوا لآدم تحية وتكريمًا، فسجدوا جميعًا إلا إبليس، استكبر وامتنع عن السجود قائلا على سبيل الإنكار والاستكبار: أأسجد لهذا الضعيف، المخلوق من الطين؟. قوله عز وعلا "وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ" ﴿القصص 38﴾ وقال فرعون لأشراف قومه: يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري يستحق العبادة، فأشْعِل لي يا هامان على الطين نارًا، حتى يشتد، وابْنِ لي بناء عاليًا؛ لعلي أنظر إلى معبود موسى الذي يعبده ويدعو إلى عبادته، وإني لأظنه فيما يقول من الكاذبين.
جاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: قوله عز من قائل "فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا ۚ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ" ﴿الصافات 11﴾ اللازب الملتزق بعضه ببعض بحيث يلزمه ما جاوره، وقال في مجمع البيان،: اللازب واللازم بمعنى. قوله عز وعلا "إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ" ﴿ص 71﴾. قوله جل وعلا "قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ" ﴿ص 76﴾. قوله تبارك وتعالى "لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ" ﴿الذاريات 33﴾ طينا متحجرا سماه الله سجيلا "مسومة" معلمة "عند ربك للمسرفين" تختص بهم لإهلاكهم، والظاهر أن اللام في المسرفين للعهد. وعن التفسير المبين للشيخ محمد جواد مغنية: قوله عز من قائل "فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا ۚ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ" ﴿الصافات 11﴾ اسأل يا محمد الذين أنكروا البعث: أخلق السماوات والأرض من لا شيء أصعب أم إعادة الإنسان بعد موته إلى الحياة، وقد خلقه اللَّه من طين رخو لزج يلزم ما يجاوره ويلتصق به؟ إن الذي قدر على إيجاد الكون من لا شيء يهون عليه أن يعيد أجزاء الإنسان، ويجمعها بعد تفرقها.. قوله عز وعلا "إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ" ﴿ص 71﴾. قوله جل وعلا "قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ" ﴿ص 76﴾. قوله تبارك وتعالى "لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ" ﴿الذاريات 33﴾ لنهلكهم بحجارة معلمة من طين صلب أعدها اللَّه لمن تجاوز الحد في الكفر، وأسرف في البغي والفساد.
وعن تفسير الجلالين لجلال الدين السيوطي: قوله عز من قائل "فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا ۚ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ" (الصافات 11) "فاستفتهم" استخبر كفار مكة تقريرا أو توبيخا "أهم أشد خلقا أم من خلقنا" من الملائكة والسماوات والأرضين وما فيهما وفي الإتيان بمن تغليب العقلاء، "إنا خلقناهم" أي أصلهم آدم "من طين لازب" لازم يلصق باليد: المعنى أن خلقهم ضعيف فلا يتكبروا بإنكار النبي والقرآن المؤدي إلى هلاكهم اليسير. قوله عز وعلا "إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ" (ص 71) اذكر "إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين" هو آدم. قوله جل وعلا "قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ" (ص 76). قوله تبارك وتعالى "لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ" (الذاريات 33) "لنرسل عليهم حجارة من طين" مطبوخ بالنار.
جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله عز من قائل "فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا ۚ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ" ﴿الصافات 11﴾ إنّ خلق الإنسان مقابل خلق الأرض والسماء والملائكة الموجودة في هذه العوالم، يعدّ لا شيء، لأنّ أصل الإنسان يعود إلى حفنة من التراب اللزج. (إستفتهم) من مادّة (استفتاء) وتعني الحصول على معلومات جديدة. وهذا التعبير إشارة إلى أنّ المشركين لو كانوا صادقين في أنّ خلقهم أهمّ وأصعب من خلق السماوات والملائكة، فإنّهم قد جاؤوا بموضوع جديد لم يطرح مثله من قبل. (لازب) يقول البعض: إنّ أصلها كان (لازم)، حيث إستبدلت (الميم) (باءً) وحالياً تستعمل بهذه الصورة، على أيّة حال فهي تعني الطين المتلازم بعضه ببعض، يعني الملتصق لأنّ أصل الإنسان كان من التراب الذي خلط بالماء، وبعد فترة أضحى طيناً متجمّعاً ذا رائحة نتنة، ثمّ تحول إلى طين متماسك (وهذه الصورة هي جمع لحالات متعدّدة مذكورة في عدّة آيات في القرآن المجيد). ثمّ يضيف القرآن الكريم: "بل عجبت ويسخرون". نعم أنت تتعجّب لإنكارهم بالمعاد، لأنّك بقلبك الطاهر ترى المسألة واضحة جدّاً، وأمّا أصحاب القلوب السوداء فيعدونها مستحيلة إلى حدّ أنّهم يستهزئون بها وينكرونها. وما يكمن وراء تلك التصرفات القبيحة ليس هو الجهل فقط وعدم المعرفة، بل إنّها اللجاجة والعناد، إذ أنّهم كلّما ذكروا بدلائل المعاد والعقوبات الإلهيّة لا يتذكّرون (وإذا ذكروا لا يذكرون). والأنكى من ذلك، أنّهم كلّما شاهدوا معجزة من معجزاتك، لا يكتفون بالإستهزاء، وإنّما يدعون الآخرين للإستهزاء أيضاً "وإذا رأوا آية يستسخرون". "وقالوا إنّ هذا إلاّ سحر مبين". قوله عز وعلا "إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ" ﴿ص 71﴾. قوله جل وعلا "قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ" ﴿ص 76﴾. قوله تبارك وتعالى "لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ" ﴿الذاريات 33﴾ والتعبير بـ (حجارة من طين) هوما أشارت إليه الآية 82 من سورة هود بالقول من (سجّيل) وسجّيل كلمة فارسية الأصل مأخوذك من (سنك + گل) ثمّ صارت في العرب سجّيل، فهي ليست صلبة كالحجر ولا رخواً كالورد، ولعلّها في المجموع إشارة إلى هذا المعنى وهو أنّ هلاك قوم لوط المجرمين لم يكن يستلزم إنزال أحجار عظيمة وصخور وجلاميد من السماء، بل كان يكفي أن يمطروا بأحجار صغيرة ليست صلبة جدّاً كأنّها حبّات (المطر). ثمّ أضاف الملائكة قائلين: "مسوّمة عند ربّك للمسرفين" كلمة مسوّمة تطلق على ما فيه علامة ووسم، وهناك أقوال بين المفسّرين في كيفية أنّها (مسوّمة)؟ قال بعضهم إنّها كانت في شكل خاصّ يدلّ على أنّها ليست أحجاراً كسائر الأحجار الطبيعية، بل كانت وسيلة للعذاب. وقال جماعة كان لكلّ واحدة منها علامة وكانت لشخص معيّن وعلامتها في نقطة خاصّة ليعلم الناس أنّ عقاب الله في منتهى الدقّة بحيث يُعلم من هذه الأحجار المسوّمة أنّ أيّ مجرم ينال واحدةً منها فيهلك بها. كلمة (المسرفين) إشارة إلى كثرة ذنوبهم بحيث تجاوزت الحدّ وخرقوا ستار الحياء والخجل، ولو قدّر لبعض الدارسين أن يتفحّص حالات قوم لوط وأنواع ذنوبهم للاحظ أنّ هذا التعبير في حقّهم ذو مغزى كبير. وكلّ إنسان من الممكن أن يقع في الذنب أحياناً، فلو تيقّظ بسرعة وأصلح نفسه يرتفع الخطر، وإنّما يكون خطيراً حين يبلغ حدّ الإسراف. ويكشف هذا التعبير عن مطلب مهمّ آخر، وهو أنّ هذه الحجارة السماوية التي اُعدت لتنزل على قوم لوط لا تختّص بهؤلاء القوم، بل معدّة لجميع المسرفين والعصاة المجرمين.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat