تعتمد قصائد التغريب على كسر نمطية المألوف وعلى أنتاج الدهشنة لصدم المتلقي بغرائبية التركيب الجمالي، وينقسم الشغل التغريبي إلى التغريب من أجل التغريب، خلق انزياحات بعيدة العلائق تنتج إحساسات مستقلة عبر التخييل الغير مترابط والمرتكز على تقنية تفجير اللغة وهناك اشتغال سعى لتحويل هذا التغريب إلى تجريب بمعنى يكون التغريب فيه مبني على العلائق المترابطة، رغم تغريب تلك العلاقة لكن لها القدرة على تمثيل الواقع التاريخي أو المعاصر، ويطلق على مثل هذا النوع من الكتابة بالكتابة السحرية أي تمثيل الواقع عبر المتخيل، سعى الشاعر(صلاح جلال) في مجموعته سدرة الحسين عليه السلام، عمل على خرق قوانين اللغة ليؤسس لقصيدته منطقها الخاص
(روح... مضرج بدماء تفاح فيزيائي (..............)
أمتزج اللسان برموز الوجود
برومسيوس أصبح هوميروسا لدين الزمان) ص10
بروميسوس عملاق يعد من الحكماء يمتلك قدرة التنبؤ بالمستقبل، سرق بروميسوس النار فيبدأ بها نعيم البشر من فن وحضارة وثقافة، وعذب بروميسوس بأن يأكل الرخ كبده كل يوم وهو سعيد لسعادة البشر
أما هوميروس يعني باللغة الإغريقية الرهينة وهو رئيس المنشدين في البلاط قام بالعديد من الجولات.. مصر ــ ايطاليا ـــ اليونان ــ استقر في مدينة فيوس وفقد بصره وأصبح معوزا، هو شاعر فذ برع في الالياذة،
أنطلق الشاعر من عنوان الرمز الحقيقي ليثير الغرابة شكلا ودلالة، ليشغل المتلقي بين عالمين متناقضين عالم الحقيقة الحسينية وعالم الوهم والخيال.
وعملية التخييل هنا ناتج حضور صور الأشياء المحسوسة ليحرر لغته من منطق الواقع ويبالغ في افتنان المتلقي.
(لف جمجمته بعقيق شذر الزمن
مفصولا عن الجسد يرسل عبيد الله ليزيد
احتقنت سوريا بالمطر الملون
بذرت الأبابيل الوجود
تحول لون الكون بمشيم مريم
قذف صندوق في النيل دون أن يوجد فيه موسى
جلب دماء الحسين لآسيا وحنا
الطبيعة ناصعة البياض مثل البدء والنهاية) ص15
يلعب الشاعر صلاح جلال على تداعي الأفكار بسمة تاريخية، ليلتقط المتلقي تلك الرسائل ويجمعها ليكون من تلك الشفرات موضوع القصدية العالية في حراك تلك الرموز التاريخية في مقطع مكثف، منها يشكل المتلقي فضاءات الأحداث ليستخرج منها مضمون العنونة، حتى تخرج دلالات المتلقي إلى عالم أللا مألوف (عقيق شذر الزمن / المطر الملون / بذرت الابابيل الوجود / تحول لون الكون بمشيم مريم / صندوق في النيل بلا موسى)
اعتماد تلك الصور على التناصات القرآنية في تكثيف تلك الصور وتسليط إشعاع سريع، رغم وجود التناص والجانب الغرائبي الفلسفي يعزز تلك الغرائبية بدلالة رمز يسحب متلقيه إلى عالم الإثارة والغوص في أحداث زمانية تشك غرائبية الدهشة العالية، فجأة تسلط الإضاءة الفكرية ليعيد الأحداث بذهنية المتلقي
(طفى ببلايين الرضع فوق الماء
بذرت الأرض بالسيف) ص16
دلالة وجود الرضع ـــ الماء مع العنوان الحسين عليه السلام
وقبول هذه الشطحات مقترنة بتلك الرموز تولد حالة نفسية تنظر بدهشة إلى مجيء الشمس / دوامة مائية / سجادة محيطية / احمرار عرش بلقيس طيران جعفر الطيار / لقمان السرخسي/ وكتابة البحر والماء بدماء الحسين عليه السلام، والماء هو أساس الحياة، ومثل هذه التصورات الإدراكية تقدم لنا، لو نتأمل في عمق التحولات لاستثمار اسم المقدس في الشطحات الفلسفية المتخيلة
(أوقف ازرائيل الزجاج الذهبي للروح
ببخار دم شذر الوجود
سقطت على دم الحسين)
أو نقرأ مثلا
(سحب فوتون مغناطيسي رأس الحسين
تكرر التأريخ بجسده) ص17
الفوتون هو الوحدة الاساسية للضوء وليس له جسيم ساكن بل يتحرك باستمرار، هو حامل الاشعاع الكهرومغناطيسي، منطق آخر جديد يعبر عن لمحات تعينك لاستيعاب الواقع، عملية توالد مع الخاطر، استنساخ الحقيقة عبر تلميحات إشارية، أجدها إحياء عملية إغواء وإغراء للتذكر، يقدم لنا الحسين مكونا للحياة هو الماء ويقدم لنا الحسين الضوء، ويقدم لنا كربلاء بطريقة غريبة مزيج من عوالم مختلفة نتفق بقداستها، تصنع لنا كربلاء حضورها المتميز في عملية إسقاء الأفكار، تنساق الرموز في تشكيل دين ولغة وأحداث وزمن ومكان، نصوص تعج بالمضامين الفكرية لترسيخ المتخيل في ذهنية المتلقي، صياغة الاضطراب النفسي عبر تلك الرموز / الازمنة / الأمكنة المعبرة عن المشكلات الإنسانية التي أوجدت لنا كربلاء عبر ذوات ليست من الكربلاء
إذا كان الحسين عليه السلام جاء كربلاء ليبذر فيها الحياة، التضاد الإنساني جاء ليزرع الموت وكربلاء لا تعنيه بشيء، وإنما البديل المكاني عنده العرش معبرا عن الحياة والفارق كبير بين مديات الزمنين الفارق بينهما الخلود.
الوجود / هابيل / المخاض لمريم / والنفخ الإسرافيلي لعيسى، والنار الباردة لإبراهيم، والقميص المحمدي لعلي، ونظرة الله لموسى والتفاح الذهبي لحواء، تجتمع تلك الفيزياءات
تحمل إشعاع كربلاء المكونة من أللا كربلاء والمصلوبة عبر التأريخ، لقد ظهرت تجليات عديدة، كربلاء وترسيخ مفاهيم لإيجاد حقائق تفسر لنا جوهر كربلاء الفلسفي، الشعور الأبدي بما تملك من حسين عليه السلام وما تملك من طقوس وشعائر ليصوغ للناس تلك القداسة ملحمة كربلاء.
(أشعل سليمان شمعة من الدم
حين مسح محمد كربلاء بالسدرة
انغرست شجرة الزيتون في الدم) ص20
معالجة قضية كربلاء عبر زمنية ما قبل الزمن وما وراء الزمن، الزمن الأزلي لأن هناك كربلاء قبل شمعة الدم التي اشعلها سليمان وقبل السدرة إلى ما وراء الزمن، وأمتد المكان من بقعة الطف الكربلائي، من السدرة هذه التي شهدت حروب الطغاة تكالبوا عليها عبر الأزمنة ليقتلعوها بغضا على من يتواصل مع تاريخه وأمجاد أمته وضد البقعة القادرة على أن تكون لنا الغد العربي المطمئن والإسلامي الآمن، هي نفس الشراسة التي واجهوا بها شجرة الزيتون القدس التي انغرست في كربلاء ومن دم كربلاء نشأت قداسة القدس، كينونة كربلاء ــ القدس كينونة حية هي التي تحدد قيمة الوجود الإنساني، هناك نظرة أعمق، أن في النص كربلاء ــ القدس استطاعتا توحيد المعتقدات جميعها عبر السدرة ــ الشجرة ــ وهذه هي مكونات الخارق المألوف والذي يتناسب مع قدرات التخيل ــ الواقع ــ الكتابة ــ القراءة ــ ضمن ذهنية متأصلة ليس لها حضورا فعليا في حواس المتلقي.
(نشأت هذه الكربلاء في بلاغة الرضيع) ص21
(اندهشت سفينة نوح بقصة الحسين) ص22
نلاحظ
أولا.. جماليات توظيف الزمني من خلال المستوى السردي، بين زمن السفينة وواقع كربلاء تغيير ماكنة الزمن.
ثانيا.. الكد المضموني الساعي لعملية إنقاذ الكائنات من الطوفان في السفينة وإنقاذ الإنسان من الطغيان الأموي في طف الحسين عليه السلام.
ثالثا...عملية الاندهاش تبين لنا العمق التضحوي لأهل السفينة الساعين إلى الحياة الدنيا وأهل الطف الساعين إلى الدنيا الأخروية بهذا تظهر قضية الاندهاش بأن أهل السفينة سعوا لإنقاذ أنفسهم أرواحهم وأهل الطف الحسيني سعوا لإنقاذ الناس.
رابعا.. إمكانية الشاعر صلاح جلال بامتلاكه للخيال الجامح الذي لا تحده عوائق في تشكيل صور ذهنية تقوم على الغواية الشعرية.
الشغل الإبداعي المتخيل عبارة عن صور تركب بعضها مع بعض لتمنحنا المضمون القصدي المضمر.
(سمكة اليونس سفكت أمواج الدم
تموء كربلاء) ص22
هو سمك يشبه الصندوق منها مربع ومنها مثلث المقدمة سمي (بالنجم) ارتبطت هذه السمكة بقدرتها على طرد الشر والحسد لذلك استعملوا شمعها بخورا يجلب الرزق ويطرد الشر ويخلّص من السحر، وأما المواء فهو مواء القطة عندما تظلم أو تجوع توصل رسالة لجذب الانتباه أو تعبر عن ألم وصبر، نجد أن الفكرة الغرائبية تحتاج إلى موازنة الفكرة في ذهنية المتلقي في عمليتي القراءة والتأويل كونه يسعى ليصل إلى التصور العقلاني كونها تعتمد على تغريبية الواقع لتغوص في المعنى بوجود مقاربات دلالية يتم التركيز عليها بمستويات التخيل الكوني
انفجر الكون من الفوتون والسدرة (.....)
ينسج تفاح أرض كربلاء
تغطيها حواء لباسا حديديا
مسحها نيوتن
بذاك التفاح المتمرد من النظريات
وتلونت كربلاء بالوان الكون) ص24
نجد أن شعرية صلاح جلال قدمت لنا كربلاء
لا تمثل الحيز المكاني في جميع حالاتها وإنما تمثل في بعض حالاتها المكون السلوكي، فهي تتلون بالوان الكون، وتختلط بالدم الأبيض لتصير سجادة للمهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه، مجموعة سدرة الحسين غنية بالانزياحات وبسمات جمالية مترفة.
ملاحظة ... تناولنا قراءة قصيدة سدرة الحسين فقط لسعة الرؤية وعدم امكانية قراءة المجموعة في قراءة مقتضبة.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat