فضائيات عربية شكلا صهيونية مضمونا
محمد الرصافي المقداد
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
محمد الرصافي المقداد

اجتزت هذا الصباح إحدى المقاهي بمدينة بنزرت (أقصى شمال تونس) لأطلب قهوة لي، وصادفت عند دخولي أخبار قناة الجزيرة، وعادةُ أغلب المقاهي هنا، أن تفتح شاشاتها على قناة الجزيرة، منذ ظهورها واشتهارها، أو على قناة فرنس 24، أو أن تكون المقهى من نوع مختلط (ذكور واناث) فلا مجال للقنوات السياسية، حيث لا ترى فيها غير قنوات الرقص والإثارة، المنظم تحت عنوان قنوات فنّ وثقافة، يقبل عليها عادة الشباب الواهم الذي يبحث فقط عن لذّة يقتنصها، أو وقت يمضيه من عمره بلا هدف.
لاحت مني التفاتة إلى شريط الأخبار المكتوب أسفل الشاشة، فقرأت ميليشيات العراق تقصف إسرائيل، لم أستغرب الصفة التي أطلقها محررو الأخبار في القناة، فجميع ما صدر عن القناة من قبل هو من هذا القبيل من التسميات الفجّة والوقحة، عبّر من خلالها أصحابها أنّهم مقيّدون بالتزامات محددة، فلا غرابة في كل ما أتت به الجزيرة والعربية من اطلاقات الفاظ لا تعبّر عن حقيقة فصائل المقاومة ومحورها، ولا حتى هدفا من أهدافها، المتمثلة في تخليص المنطقة من كيان غاصب، ومن استكبار عالمي خبيث، قد أنشأ قواعد عسكرية له في المنطقة، لأجل الهيمنة والسيطرة والتحكم فيها، مازالت أطماعه ظاهرة إلى اليوم، لكنني مع ذلك قلت في نفسي، أهكذا يصف القطريون عناصر المقاومة الشرفاء بالميليشيا؟
كيف يستقيم وصفهم بالميليشيا، وقد قدّموا لنا أروع الأمثلة على البطولة والفداء، بعدما قدّموا أنفسهم وأرواحهم من أجل أن تنعم شعوبنا بالأمن والأمان في بلدانها، ويبتعد عنها إرهاب داعش وأخواتها من العراق وسوريا؟ فلو نجحت داعش وتمكّنت من بسط سيطرتها واستقرت هناك، لما بقي لنا مكانٌ آمنٌ بعد ذلك، أيستقيم أن تُسمِّي قناة الجزيرة داعش باسم الدولة الإسلامية، وهي حقيقة عصابات إرهابية، هي أبعد ما تكون عن الإسلام، ولا تسمّي المقاومة بأسمائها فتصفها بالميليشيا، وهل يستقيم اطلاقها اسم إسرائيل على العدو الصهيوني، فيما كانت تراود أسرنا ومجتمعاتنا، على نمط من التطبيع، بالنقل المباشر من داخل هذا الكيان، في حوارات ومداخلات مع عناصر سياسية وإعلامية وحتى أمنية وعسكرية صهيونية، تمرّرها كلّ مرّة، ليتعوّد المشاهد على رؤية وسماع أعداء الأمة في عقر دورنا وبيوتنا، رغم أنوف من كان يتابعها ويرى فيها خيرا، في تطبيع اعلامي ممهّد له مسبقا .
لكنه عندما ننظر إلى تاريخ القناة وتأسيسها يوم 1/11/1996، ومن كان يعمل فيها؟ ومن اين جاؤوا؟ نفهم مبدئيا أنّها قناة بدأت بخبرات إعلاميين، عرب كانوا يعملون في هيئة الإذاعة البريطانية البي بي سي BBC، وقع التفريط فيهم لفائدة قناة الجزيرة، وكان لهم دور كبير - مع القدرات التقنية العالية التي سُخّرت للقناة- في جلب جمهور واسع من الشعوب العربية، منبهرا بذلك الإخراج الرّاقي، وتلك الإمكانات الضخمة، بحيث طغت على عموم الجماهير، ولم تعد تعجبهم في تلك السنوات غير قناة الجزيرة، مع أنّ جانبا من المثقفين، العرب يعرفون أنها بريطانية قلبا وقطرية قالبا، وصهيونية تفكيرا وإيحاء، وحريّ بكل عربي ملتزم بجدوى مقاومة العدوّ الصهيوني أن يُكنّيها بالخنزيرة، وقناة العربية بالعبْرِيّة، فهما قناتان في حسباننا عربيتان شكلا، لكنّهما صهيونيتان مضمونا.
وفيما نقترب من ذكرى 28 من تأسيس هذه القناة، نراها قد تخطّت كل الخطوط الحمراء، التي ما كان لها أن تجتازها، لو كان في إدارتها حَملةُ قضية تحرّر، فقد وزّعت اطلاقاتها على حركات التحرر ميليشيات، كما كانت ولا تزال تطلقها على حركة أنصار الله اليمنية، وتنسبها كل مرّة للحوثي، لو لم يكن للقناة خطّة معدّة مسبقا، من طرف بريطانيا، الدولة المعروفة بعدائها القديم المتجدد للعرب والمسلمين، المحافظين على هويتهم ودينهم، والمستميتين على قضاياهم التحررية، وفي مقدمتها قضية فلسطين، صحيح أن هناك كثيرين ممن تفطّنوا إلى دور هذه القناة المشبوه، ومعها دور قناة العربية السعودية(الحدث) أيضا، لكن بقية الجماهير مازالت تتجرع سمّ هاتين القناتين، منمّقا بمعسول خطابهم التحريري، ولا يزال دورهما في تدجين من أدمن على سماع سمومهما قائما لن يتغيّر، طالما أن مخطط التطبيع مع الكيان الصهيوني جار، من طرف السلطات في قطر والإمارات والبحرين وعُمان وقائدة قطيعه السعودية، التي ستختم المسار المؤمّل الوصول إليه في نهاية المطاف، .
أذكر أن هاتين القناتين كانتا تطلقان على حزب الله صفة ميليشيا أيضا- إرضاء لأمريكا التي صنفته جماعة إرهابية ونسجت على منوالها دول الإتحاد الأوروبي - فلم تقدرا على تسميته باسمه فقط دون زيادة لا تمتّ اليه بصلة، ناهيك أن حزب الله خاض معارك ضارية، من أجل القضاء على داعش الإرهابية وهي تسميات باطلة، هدفها مجاراة الأحكام والقرارات الغربية، وهذا التمشّي الإعلامي يُسعد الصهاينة وأحلافهم، لما للإعلام من دور فعال في التأثير على العقول، وغسل الأدمغة بالتوصيف والتحليل لحركات مقاومة وطنية، جدير بالتنويه بها، وتثمين أعمالها، وتقدير تضحياتها، والآن وبعد كل هذه السنوات من الضليل والتشويه، هل بقي سوء لم تطلق طائره يحلّق في عقول القُصّر من شعوبنا، خصوصا أولئك الذين سهبهم الغرب بدعاياته، والقناتين مكملتين لأهداف الغرب في سلب إرادة الشعوب العربية والاسلامية، من أجل أن تبقى خاضعة لمنطق مناقض لدينها ومعارض لمصالحها، من تابع برامج وأخبار هاتين القناتين، بخصوص أحداث كثيرة جرت من قبل، وكان وفطنا واعيا بدورهما المشكك في جدوى مقاومة أعداء الأمة الحقيقيين، يمكنه أن يستخلص نتيجة واحدة، وهي أنه يجب على من وعى هذا الدور الإعلامي الخطير الذي تقوم به القناتان، أن يحذّر من مغبّة الاستماع اليهما، أو على الأقل عدم قبول أي معلومة منهما، دون مراجعتها على أكثر من مصدر غير مشبوه، فهناك قنوات أخرى ذات منطقية ونقل واقعي للأحداث، يجب اعتبارها مصدرا نزيها، لتلقي الخبر والمعلومة، فنحن نعيش زمن الحروب والتوتّرات بأنواعها، ومن أخطرها حروب السيطرة بالدعاية والاعلام.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat