المولد النبوي بين مظهرية الإحتفال وعمْق الإعتبار
محمد الرصافي المقداد
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
محمد الرصافي المقداد

كلّما تتقرب ذكرى مولود النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، كلّما تهفو أفئدة المؤمنين شوقا لذكره، متلهّفة إحياءها بكثير من مظاهر الفرح والاستبشار، على أنّه يوم عظيم من أيّام رحمة الله التي نزلت على خلقه، فيها ارتباط وتواصل بيننا كمسلمين، وبين رسول الرحمة، النبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله، بما في مضمونها من تعبير صادق وتلقائي، يُظْهِرُ بوضوح انتماءنا إليه واعتزازنا به، فلا تمرّ مناسبة من مناسباته، دون أن نؤكّد للعالم بأنّنا مسلمون محمّديون، وهذه المناسبة وان كان الاحتفال بها أصبح أمرا شكليا متداولا في عموم بلاد الإسلام، يبدون فيه كل حسب تقاليده الموروثة، مظاهر الزينة والاحتفال بذكرى مولده صلى الله عليه وآله.
احتفالات مثيرة لقلق طائفة الوهابية، يعتبرونها بدعة وكل بدعة ضلالة، ومزعجة في نفس الوقت لأعداء الإسلام، الذين نفذوا بثقافاتهم المعادية، إلى أوساط مجتمعاتنا المنبهرة بتقدّم الغرب علينا، من أجل تغريبها عن الإسلام، والعمل على نزع ثقافته وآدابه لتحُلّ ثقافته محلّها، وقد أصبحت بعد حملات ثقافة التغريب المتتابعة منذ الإستقلال الصوري، الذي مُنِح لنا بواسطة عملاء من بني جلدتنا، وسيلة أعداء الإسلام في الداخل والخارج، لضرب مقومات ثقافتنا الإسلامية الأصيلة، تنفذ إلينا عبر مخططات ذات أبعاد وتأثيرات خطيرة، تغضّ عنها حكوماتنا الطرف مستهينة بها، ولا ترى في تغلغلها غضاضة على أساس تبادل ثقافات مع دول وشعوب تطوّرت بالتخلص من روابطها الدينية والأخلاقية.
بإمكاننا أن نعتمد ما قاله النبي صلى الله عليه وآله بخصوص إعطاء قيمة ليوم مولده فقد كان يصوم يوم الإثنين ولما سئل عن سببه قال: (فيه ولدت وفيه أنزل علي)(1)، وهذا ما يعطي له مكانة عبادية في حياته، وما يفتح مجالا لاعتباره يوما من أيّام الله سبحانه، واعتقد أن عليّا وأبنائه عليهم السلام كانوا يتعاملون مع ذلك اليوم بالصيام اقتداء به، أما تاريخيا فلم نعثر على زمن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف بصورة شعبية عامة، ليس لأنها ضمنا غير موجودة في تاريخنا، فقد أتْلِف تراثنا المخطوط، وتعرّض للسرقة من طرف أعدائنا الاستعماريين الغربيين، وبفقد قسم كبير منه، تعسّر علينا وجود نصوص تحمل تاريخا مبكّرا لإقامة الاحتفالات بالمولد بشكل رسمي وشعبي، سوى في عصر الدولة الفاطمية بمصر سنة 361هجرية.
أولى الفاطميون المولد النبوي وسائر مواليد أهل البيت أهمّية وعناية بالغين، فكانوا يعدّون لها ما تحتاجه من موادّ وتنظيم واستعدادات كبيرة، جمعت بين جمالية مواكبها وحسن السهر عليها، وكرم الإنفاق فيها قد عمّ جميع المشاركين فيها، وكانت في شكل هدايا وولائم وحلويات توزّع بين الأهالي، وللاحتفال مجال للخطابة والشعر يقيم مجالسة الوزراء والخلفاء في قصورهم، وفي هذا الشأن ذكر المقريزي: (كان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم، وهي: موسم رأس السنة، وموسم أول العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومولد الحسن: ومولد الحسين عليهما السلام، ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام) (2)
الإحتفال بالمولد النبوي هو من تفاصيل الإيمان بنبوة النبي صلى الله عليه وآله، واستحقاق شخصه بإحياء مناسباته الكبرى، وفي مقدمتها تاريخ مولده، هذا التاريخ الذي يمثل بداية نزول رحمة كبيرة من رحمات الله تعالى، على من استجاب له من الناس، وبالتالي فهي شعيرة من شعائره التي يجب أن تُذْكَر وتُحْيَ، تعظيما لصاحبها، واعترافا له على مكانته العظيمة عند الله، وتعبيرا من المسلمين بأنّهم يستحضرونه في حياتهم، لم يغب عنهم بغياب جسده الطاهر، وتحفيزا لهم على اتباعه، ومن ادّعى بدعية الاحتفال، فمردّه إلى قصر فكره وهشاشة إيمانه، في اعتبار أنّ ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وآله يُعتبر بدعة، متجاهلين أن متعلّق النبي صلى الله عليه وآله، وما يخصّ حياته من تواريخ، هي من تفاصيل الإسلام، لا تنفكّ عنه أي واحدة منها تحت أيّ مبرّر.
ولا يمكن أن نحيي مناسبة المولد، من دون أن نسأل أنفسنا أولا: ماذا يمكن أن تضيف لنا هذه المناسبة من كل سنة؟ هي تأكيد أولا على الرابطة المتينة التي تجمعنا بالنبي صلى الله عليه وآله، وهي منهل يجب على كل مؤمن أن يرتاده، ليتزود منه فيما بقي من عمره، من خلال سيرته العطرة التي انتشر أريج عطرها طيلة حياته المقدسة، رفعة أخلاق وسمو سلوك، تجلى فيها الصبر والتواضع والإيمان الراسخ والرحمة التي لم تميز بين أصحابه، فضلا على كرم سماحته مع من أخطأوا بحقه أخطاء فادحة، وهم مستحقون للقتل، كأولئك الذين تآمروا عليه وحاولوا قتله، عند منصرفه من غزوة تبوك، لما قيل له لم لا تأمر بقتلهم يا رسول الله؟ فقال: (أكره أن يتحدّث الناس أنّ محمد يقتل أصحابه)(3)
إنّ الغاية من تذكر المناسبات الإسلامية الهامة، ليست لأجل التذكّر والتكريم فقط، وإنّما للإعتبار واستخلاص الدروس المُعْتبرة، من هذه الشخصية العظيمة، التي عليها مدار ديننا الحنيف، فهو القدوة والأسوة الحسنة، التي جسّدت مكارم الأخلاق وسموّ نفس الانسان الكامل، الذي عرف خالقه حق معرفته، فأعطاه ربّه ملكات منه، تزكية له ولمن أحسن اتباعه، ونحن المسلمون اليوم بأمسّ الحاجة إلى تجديد عهدنا بهذا العبد الصالح، والإلتزام بنهجه القويم وسلوك صراطه المستقيم.
اختلاف المسلمين في تحديد يوم مولد النبي صلى الله عليه وآله من 12 إلى 17 ربيع الأوّل، دعت إيران في شخص قائد ثورتها، إلى اعتبار التاريخين أسبوعا للوحدة الإسلامية، ونظمت فيه مؤتمرات للوحدة الإسلامية، دعت إليه نخبا من علماء الأمّة من مختلف البلدان والقارّات، بهدف التقريب والتآلف بينهم، من أجل إيجاد مناخ لتفعيل الوحدة الإسلامية، وجعلها أولويّة في اهتمامات الأمّة، بها تستقيم وتتقوّى، وهذه المساعي الخيّرة تُحسب لإيران، مقابل مساعي التفريق بين شعوب الأمّة الإسلامية، التي يخطط لتغذيتها أعداء الأمةّ، يعملون تثبيتها بشتى المؤامرات والعملاء، وهذا ما زاد غيظ هؤلاء الأعداء على إيران، هذه دعوة صادقة أوجّهها إلى محبّي النبي الأعظم بضرورة اتباعه كما قال الله تعالى: ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويكفر ذنوبكم).(4)
المصادر
1 – مسلم كتاب الصيام باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر ج3ص168ح1162/ مسند احمد مسند الأنصار حديث أبي قتادة الأنصاري ج37ص224ح22537 وص228ح22541
2 – الخطط المقريزي ج 1 ص432
3 – البداية والنهاية ابن كثير ج 5 ص 25
4 – سورة آل عمران الآية 31
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat