جاء في کتاب وضوء عبد الله بن عباس ودور السياسة في اختلاف النقل عنه للسيد علي الشهرستاني: عن مخالفة النهج الحاكم مع علي وابن عبّاس قائلا: إنّ السياسة هي الّتي سمحت للنّاس بالاعتراض على ابن عبّاس وعدم الأخذ بقوله، فجاء في جامع المسانيد والسنن: إنّ أهل المدينة سألوا ابن عبّاس عن امرأة طافت ثمّ حاضت؟ فقال لهم: تنفر، قالوا: لا نأخذ بقولك وندع قول زيد، قال: إذا قدمتم المدينة فاسألوا، فقدموا المدينة فسألوا، فكان فيمن سألوا أمَّ سليم، فذكرت حديث صفية. وكان زيد قد سال ابن عبّاس عن ذلك، إذ أخرج أحمد في مسنده عن طاووس قوله: كنت مع ابن عبّاس إذ قال له زيد بن ثابت: أنت تفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها البيت؟ قال: نعم. قال: فلا تُفْتِ بذلك فقال له ابن عبّاس: إما لا فسل فلانة الأنصارية: هل أمرها بذلك النبي صلى الله عليه وآله فرجع إليه زيد بن ثابت يضحك ويقول: ما أراك إلاّ قد صدقت وقد كتب زيد إلى ابن عباس في ذلك، وفيه قوله: إنّي وجدتُ الذي قُلتَ كما قُلتَ. فقال ابن عباس: إنّي لاَءَعلمُ قولَ رسول اللّه صلى الله عليه وآله للنساء، ولكنّي أحببت أن أقول بما في كتاب اللّه، ثمّ تلا هذه الآية "ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَليُوفُوا نُذُورَهُم وَلْيَطَّوفوا بِالبَيتِ العتيقِ" (الحج 29)، فقد قضت الثَّفَث، ووفَّت النَّذر، وطافت بالبيتِ، فما بَقِيَ؟ فابن عباس استدل لهم بالقرآن المجيد، مع أنّه كان يعلم هذا الحكم من رسول اللّه صلى الله عليه وآله، ومع ذلك ظلّوا يماطلون في الأخذ عنه، ولم ينصاعوا له إلاّ بعد اللُّتَيا والّتي.
وعن کتاب وضوء عبد الله بن عباس ودور السياسة في اختلاف النقل عنه للسيد علي الشهرستاني: هذه مؤشرات صريحة وضّحت لنا بأنّ التشريع قد امتزج بالسياسة بعد رسول اللّه صلى الله عليه وآله، وأخذ طابعا خاصّا، وأنّ الملك والسلطان كان له أعظم التأثير في ترسيخ بعض المفاهيم والأفكار الشائعة اليوم، ثمّ اشتداد هذا الأمر في العصور اللاحقة. ولو طالع الباحث في سيرة الحجّاج بن يوسف الثقفي مثلاً لعرف اتجاه الحجّاج في ترسيخ فقه الأمويين ومذهب الخليفة، وهو يؤكّد دور السياسة في الفقه، إذ جاء عنه أنّه أرسل إلى الشعبي ليسأله عن الفريضة في الأخت وأمّ الجد؟ فأجابه الشعبي باختلاف خمسة من أصحاب الرسول فيها: عثمان، زيد، ابن مسعود، علي، ابن عبّاس، ثمّ بدأ يشرح كلام ابن عبّاس، فقال له الحجّاج: فما قال فيها أمير المؤمنين يعني عثمان؟ فذكر له رأي عثمان. فقال الحجّاج: مُرِ القاضي فليمضها على ما أمضاها عليه أميرالمؤمنين عثمان. ومثل هذا الموقف جاء عن الحجّاج في الوضوء، فقد خطب في الأهواز وأمر الناس بغسل الرجلين، ولمّا سمع بذلك أنس بن مالك اعترض عليه قائلا: صدق اللّه وكذب الحجّاج قال اللّه تعالى "وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم" (المائدة 6). وبعد هذا يحق لنا أن نقول: إنّ بكاء أنس بن مالك جاء لتلاعب أمثال الحجّاج بالصلاة والوضوء. هذا، ويمكننا الإشارة إلى حقيقة أخرى قد تكون خافية على البعض، وهي: إنّ نهج الخلفاء وكما عرفت كان لا يرتضي الأخذ بفقه علي وابن عبّاس، فنتساءل: لو صح هذا وكان فقه علي بن أبي طالب وابن عبّاس منهيّا عنه، فكيف نقل عنهما مالك في موطَّئه؟
وعن أسباب اختلاف النقل عن الصحابي الواحد يقول السيد الشهرستاني في كتابه: النصوص توضّح حقيقة أنّ أمر التدوين كان جائزا على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وآله، ولم يحظر من قِبَلِهِ صلى الله عليه وآله، بل كان النهي قرارا من الشيخين، لقول الراوي (بدا له) و (أراد) و (ثمّ كتب في الأمصار) وغير ذلك من العبارات الدالّة على إرادته الخاصّة ورغبته الشخصيّة. وإذا كان الأمر كذلك فلابدّ من الوقوف عند أحاديث النهي المدّعى صدورها عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله ؛ إذ هي تخالف تماما روح التشريع الإسلامي الدالّة على كسب العلم والحاضّة على الكتابة بقوله تعالى "فاكتبوه ولا تسئموا أن تكتبوه" (البقرة 282) و "الذي علم بالقلم" (العلق 4). وعليه، فيمكن عدّ أحد أسباب اختلاف النقل عن الصحابي الواحد هو محاولة النهج الحاكم إرجاع أحد قولَي الصحابي إلى ما قاله الخلفاء وشرّعوه من أحكام، ولا يختصّ مدّعانا هذا بما شرّعه الشيخان، بل يمكن تعميمه إلى غيرهما من الخلفاء، كعثمان ومعاوية وحتى لعائشة ولأبي هريرة وغيرهم من أئمّة الفقه الحاكم. ونحن لو جمعنا هذه المفردات من كتب الفقه والحديث والتفسير لصار مجلدا ضخما، يوضِّح مسار انحرافِ كمٍّ ضخم من الأحكام الشرعية التي يعمل عليها كثير من المسلمين اليوم، وهو ما نحيله على أصحاب الفكر والقلم لدراسته والكتابة فيه. وبهذا، فقد عرفنا وجود اتجاهين، أحدهما يدافع عن قرارات الخليفة ويطلب لكلامه الأعذار، والآخر يصرّ على الأخذ من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وما جاء به الوحي لا غير. وقد سمّينا الاتجاه الأوّل بأصحاب الرأي والاجتهاد، والثاني بالتعبد المحض، وقد كان هذان الاتجاهان على تخالف وتضادّ، فما يذهب إليه الأوّل ينفيه الثاني لعدم تطابقه مع القرآن والسنة النبوية، وما كان يذهب إليه الثاني لا يعمل به الأوّل لمخالفته لاجتهاده ورأيه، وقد مر عليك قبل قليل كلام الخليفة الأول (إنّكم تحدّثون عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافا، فلا تحدّثوا عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله شيئا) وقول عمر بن الخطّاب (فلا يبقين أحدٌ عنده كتاب إلاّ أتاني به فأرى فيه رأيي).
جاء في کتاب وضوء عبد الله بن عباس ودور السياسة في اختلاف النقل عنه للسيد علي الشهرستاني: قتادة بن دعامة، وهو أحد الأعلام لذين كتبوا الأحاديث، وله من الكتب: تفسير القرآن والناسخ والمنسوخ في القرآن وعواشر القرآن. قال أبو هلال، قيل لقتادة: يا أبا الخطّاب أنكتب ما نسمع؟ قال: وما يمنعك أحد أن نكتب؟ وقد أنبأَك اللطيف الخبير أنّه قد كتب، وقرأ "في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى" (طه 52)، قال: كنت أنظر إلى فم قتادة، فإذا قال: (حدّثنا) كتبت، وإذا لم يقل لم أكتب.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat