التاريخ وثيقةً شعرية في قصيدة تواريخ لجواد الحطاب
د . أحمد جارالله ياسين

يدرس هذا البحث قصيدة (( تواريخ )) للشاعر العراقي جواد الحطاب ،التي نجد فيها أن الشعر يستعير من التاريخ اسلوبه في التوثيق للوقائع الكبرى ومنها الحرب ، لكنه يقصي عن هذا الاسلوب سمة الموضوعية العلمية التي يتطلبها غالبا فعل المؤرخ في الرصد والتسجيل والسرد ، ليكسبها بعدا ذاتيا تنهض المخيلة الشعرية بتشكيله من خلال رؤى تستبعد من الحرب علاماتها الكبرى ، كتحديد موقعها الجغرافي وأسماء قادتها ، وأصناف أسلحتها ، ونمط معاركها ، ونتائجها المصيرية السياسية والتاريخية والاجتماعية التي تخص المجموع العام من الناس المنتمين الى اطراف الصراع في الحرب . وتستبقي منها التفاصيل اليومية الصغيرة التي هي أكثر تحفيزا لتجربة الشاعر، إنها تنتقي من الحرب علاماتها الهامشية الخاصة بطقوس الحياة اليومية العسكرية للذات مثل ( الحفرة / أداء التحية / حلاقة الذقن / فاعلية الأصابع للفرد في نشاطها مع السلاح ) . وعبر وضع هذه العلامات في سياقات شعرية جديدة ، ، ومن ثم تتحول تواريخ الحرب هنا إلى وثيقة أخرى لكنها شعرية الصياغة والاسلوب والرؤيا ، تشكل نصا أدبيا ايحائيا رمزيا ولا تقدم نصا إخباريا مباشرا لواقعة الحرب، لأن الراصد هنا شاعر وليس مؤرخا.

مدخل :

في قصيدة (( تواريخ )) ( ) لجواد الحطاب يستعير الشعر من التاريخ آلية التوثيق المدوِّن للوقائع الكبرى ومنها الحرب ، لكنه يقصي عن هذه الآلية سمة الموضوعية العلمية التي يتطلبها غالبا فعل المؤرخ في الرصد والتسجيل والسرد ، ليكسبها بعدا ذاتيا تنهض المخيلة الشعرية بتشكيله من خلال رؤى تستبعد من الحرب تفاصيلها الكبرى ، كتحديد موقعها الجغرافي وأسماء قادتها ، وأصناف أسلحتها ، ونمط معاركها ، ونتائجها المصيرية السياسية والتاريخية والاجتماعية التي تخص المجموع العام من الناس المنتمين الى اطراف الصراع . وتستبقي منها التفاصيل اليومية الصغيرة التي هي أكثر تحفيزا لانبثاق الشعر، إنها تنتقي من الحرب علاماتها الهامشية الخاصة بطقوس الحياة اليومية العسكرية للذات ( الحفرة / أداء التحية / حلاقة الذقن / فاعلية الأصابع للفرد في نشاطها مع السلاح ) . وعبر زج هذه العلامات في سياقات شعرية جديدة ، وتعيد المخيلة الإبداعية توثيق تواريخ الحرب بالكشوفات الفنية وليس بالمسرودات التاريخية الواقعية ، ومن ثم تتحول تواريخ الحرب هنا إلى وثيقة أخرى لكنها شعرية الصياغة والاسلوب والرؤيا ، تشكل نصا أدبيا ايحائيا رمزيا ولا تقدم نصا إخباريا مباشرا لواقعة الحرب، لأن الراصد هنا شاعر وليس مؤرخا، حتى إنْ تقمص دوره على سبيل التمويه الفني المشار إليه ضمنيا في العنوان ( تواريخ ) .
إن الأمر في مثل هذه النصوص يتعلق بمفهوم معين للتاريخ ، وتحديدا على المستوى الفني ، بعلاقة ما هو أدبي بما هو تاريخي ، كيف تتسرب المادة التاريخية إلى شرايين النص الأدبي ، ويتهيكل العمل الفني بوصفه أدبا وليس تاريخا ، وكيف تخضع الواقعة التاريخية لمعمارية النص الأدبي ولوحداته الكتابية ؟ ثم ، وبعد هذا وذاك كيف يقرأ الأديب التاريخ وهو يخوض زمن الكتابة بسارد منحاز ( ) . مادامت الذات الابداعية هي التي تحرك نشاطه اللغوي الادبي تحت ضغوطات نفسية وعاطفية .
لأن ثمة فرقا كبيرا بين سرد المؤرخ الذي يورد خبرا أو يذكر حدثا وبين البناء الفني الذي ينهض به الأديب لتشكيل الحدث أو الخبر الذي يشكله في النص ، فعمل الأول تاريخي خال من الخــــــلق والإبــــــــــــــداع لا عمق فيه متعدد الدلالات ، ولا رؤية خاصة ذات بعد نفسي ووجداني ، بل هو نقل مباشر لما هو كائن ، أما النص الأدبي فهو عمل إبداعي يعمق الأبعاد ويرصد الاحتـمالات ولا ينقل الواقع إنما يختار الزاوية الفنية التي لا تجسد الواقع بل تبحث عن الحقيقة وتســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــعى إلى اكتشافها ( ) . وبتعبير آخر (( يعالج المؤرخون وقائع facts وقعت حقا ، في حين يعرض الشعراء تخيلات لم تقع )) ( ) ، إلا في فضاء الذاكرة والمخيلة الشعرية ، لكنها تبقى على صلة مرجعية بالمصدر التاريخي الذي أسهم في تشكيل تجربتها بفعله التأثيري في لحظة زمنية ما قد لا تكون ساعة وقوع الحدث بل بعده بزمن آخر ، لاسيما حينما تتحول إلى فعل استذكاري نفسي يبث تفاصيله المجازية الشاعر في فضاء النص الذي يؤسس لزمان ومكان خاصين بتلك الوقائع غير ملزمين بالتطابق مع الفضاء التأريخي الذي تنتمي إليه الوقائع مرجعيا وتكون مدار اشتغال المؤرخ .في حين (( أن المؤرخ لا يسمح لخياله بأن يكون مطلق العنان ، إنه ملزم باحترام علم الأحداث التاريخية حيث تكشف عن الوثائق حتى عندما يكون نظام الأحداث وتأريخها متناقضا ومشوشا ، إنه لا يستطيع أن ينسق الحقائق وفق التأثير الدرامي أو التذوق الجمالي ….إن الحقيقة التاريخية التي يسعى من أجلها …ليست النوع نفسه من الحقيقة التي يستهدفها الروائي أو الشاعر )) ( ).

قصيدة ( تواريخ ) أنموذجا للتوثيق الشعري

من مثل تلك الفروقات بين رؤيتي المؤرخ والشاعر إلى حدث كبير وتأريخي كالحرب ، تنطلق الدراسة في معاينتها النقدية لقصيدة ( تواريخ ) للشاعر جواد الحطاب ، بوصفها أنموذجا يتجلى فيه الاختلاف بين رؤيتي المؤرخ والشاعر . هذه القصيدة تستدعي التاريخ في عنوانها ومتنها لكن ليس كمادة توثيقية بالمفهوم المعروف لعملية التسجيل التاريخي للأحداث ، بل بالمفهوم الشعري الذي يحول الحوادث الى وثائق شعرية ترفد تجربة النص بالصور والرؤى والمعاني الانسانية العميقة .وبمعنى آخر فإنها كي تجعل من الواقعة التاريخية واقعة فنية يتحتم عليها إخراجها من متوالية وقائع الحياة ( ).وتخليصها من الوصف التاريخي الحقيقي المباشر .

( العنوان الملتبس )

نجد في عنوان القصيدة إشارة أولية مبكرة تمرر رسالة استباقية إلى القارئ تبلغه على سبيل المفارقة بأنه سيواجه تواريخ مهمة جدا ذات ارتباط بالمجموع الإنساني العام وذاكـــــــــــــرته الكلـــــــــــية ، وليست هي بتواريخ فردية ذات بعد شخصي خاص بإنسان ما من عامة الناس ، لأن العادة قد جرت في ظل الثقافة الشرقية التي ولدت في بيئتها القصيدة بأن يرتبط مصطلح (تواريخ ) بالأحداث المهمة في حياة الجماعة أكثر من ارتباط هذه المفردة ذاكراتيا بحياة الفرد الشخصية الخاصة التي لا قيمة لها – عادة أيضا – في ظل تلك الثقافة بسبب خضوع صناعتها – الثقافة – لهيمنة الطرف المتسلط الذي لا يعترف كثيرا بالخصوصيات الذاتية ويتجاوزها، ويهمش الحضور الفردي للذات وفعالياتها اليومية في سجل الأحداث التاريخية في مقابل تدوين الفعاليات الجماعية لذلك الطرف لاسيما عندما يكون تسلطه سياسيا أو عسكريا ثمرته التاريخية هي الحرب التي تبقى المصدر الأول للمؤرخين . ووفقا للزعم الذي يرى أن الحرب أنجبت التاريخ لأن أغلب مواده مأخوذة من تاريخ الصراع المسلح وليس من المحتمل أن يتوقف التاريخ كلية عن أن يكون تاريخ المعارك ، لأن الحروب هي أشد علامات التأريخ وضوحا ، وهي في الوقت نفسه – أردنا أم لم نرد – الحدود التي تميز التحولات العظيمة للأحداث ( ). وما يتلوها من متغيرات وتحولات كلية في بنية المجتمعات .
العنوان ( تواريخ ) ملتبس لأن إحالته الظاهرية غير إحالته الضمنية التي يسعى جواد الحطاب نحو تشكيلها في متن النص ، فقد أخذ من هذه الحرب علاماتها الهامشية ، ومن أثرها ماله صلة بتحول في الموقف الشخصي الذي تدرج من حال شعري إلى أخرى مع مرور سنوات الحرب في جو من المفارقة التي تمنح العنوان في المتن بعدا ذاتيا وشعريا غير الذي يوحي به قبيل قراءة المتن.
وتنكير العنوان يفتح أمام القارئ فرصة لقراءته من هامشه الدلالي الملتبـــــس المضـــمر السابق ، أي من جهة احتمال ارتباط التواريخ – هذه المرة – بما هو شخصي وإن كان نكرة ، بل إن تنكيره مسوغ نتيجة الاعتراف بالهيمنة المستبدة للتواريخ ( المعرفة ) المرتبطة – غالبا – بالجماعي المتسيس والمتسلط على الذوات الفردية ومنها الشاعر . فالتعرف النقدي على فاعلية العنوان لن يكتمل إلا بموضعته في إطار البنية الكبرى التي يعتلي عتبتها فـــ (( هو بنية صغرى لا تعمل باستقلال تام عن البنية الكبرى التي تحتها ، فالعنوان بهذه الكينونة – بنية افتقار ، يغتني بما يتصل به )) ( ) ، من متن يتعاضد معه في التأسيس لشعرية البنية الكلية للقصيدة .

( قرار شعري في ظرف تاريخي )

تستهل القصيدة مطلعها بتحديد زمني تاريخي يليق بدلالة عنوانها ، ويوثق شعريا للتاريخ الفردي للذات الشاعرة ، وهي تخوض سنوات محنتها في سجل الحرب :

في سنة الحرب الأولى
قررت أن ازرع أصابعي
في كل حفرة أراها
قلت غدا
لابد أن تمطر السماء
وتورق الأصابع أزهارا

ويتجلى موقف الاحتجاج الشعري الفردي (التاريخي المهمش ) على الحرب (الفعل الجماعي التاريخي أيضا لكنه المركزي في الوقت نفسه ) في رد الفعل الأول من الشاعر تجاهها ، وعلى العكس مما تتطلبه الحرب من استنفار واستنهاض لكل فواعل الجسد الإنساني ، فإن الشاعر يتخذ قرارا بتعطيل دور واحدة من أهم تلك الفواعل ، ونعني بها : الأصابع ،التي يوقفها الشاعر عن أداء الفعل القتالي العسكري المطلوب منها في ظرف الحرب ، ليوظفها في أداء هذا الفعل الجديد على نحو ساخر ضمنيا وغير مألوف من أجل إنجاز مهمة أخرى غريبة بالقياس إلى طبيعة الحدث التاريخي ( الحرب ) ، لكنها من الزاوية الشعرية مهمة ذات بعد جمالي انساني رافض للحرب عبر تعطيل دور الأصابع في العلن ودفنها في الباطن تمهيدا لأداء مهمة أخرى شعرية تجعلها بذرة تنتج ما هو جمالي دال على السلم ( الأزهار ) بعد أن يتضافر مع ذلك كله فعل السماء عبر أداة الخصب والنماء ( الأمطار ) .وكأن الشاعر يشي باتساق نهجه المنادي للسلم مع نهج السماء بطاقتها الرمزية الدينية ، ومن ثم فإنه يمنح فعله شرعية مقدسة ، مستمدة من تلك الطاقة التي تدعم فعله .
علما أن الشاعر انتخب من رصيده المعجمي الفعل ( قررت ) لأنه من أكثر الأفعال تداولا في سيرة الحرب الإعلامية عند الفواعل المركزية المؤسسة لهذه السيرة ، لاسيما الفواعل السلطوية التي تجسد مواقفها عادة بمجموعة من القرارات ، وأكثرها جرأة قرار الحرب نفسه .وانسجاما مع رغبة الشاعر في التمرد على مركزية الحوادث الكبرى التي عادة ما تؤسس للتاريخ واستبدالها باليومي الخاص من حياته العسكرية ، فإن الشاعر يستلب بجرأة أيضا هذا الفعل ( قررت ) من فواعله المهيمنة لينسبه إليه بوصفه من الفواعل المهمشة في مسرح الحرب الحقيقية ، لكنه في عالم النص يبقى الفاعل الوحيد الرئيس في صناعة القرار فيه ، ومن ثم فإن من حقه أن يعيد تنسيب فعل القرار إلى الذات انسجاما مع الحديث عن تواريخها الشخصية التي لعبت القرارات دورا في تسطيرها عبر نص القصيدة .
من المحتمل جدا أن الحفرة المذكورة في فضاء زمني ومكاني مؤرخ شعريا بسنة الحرب الأولى لن تكون في مخيلة المتلقي سوى (خندق ) أو ربما (اثر )لانفجار ما وكلاهما نتاج خرابه ستكون : ( حفرة ) ما ، يعمد الشاعر إلى توثيق هذا النتاج الرمزي ( الحفرة ) وليد الحدث التاريخي ( الحرب ) عبر رؤية شعرية تمنح الحفرة فاعلية احتوائية جديدة تغاير المنطق الواقعي الذي نتجت عنه بفعل الحرب ، فيجعل من ( كل حفرة ) يراها فضاء لزراعة أو إنبات الجمالي ( الأزهار ) بحمولته الرمزية الايجابية السابقة والمناقضة للحمولة الدلالية التي تلصقها الحرب بالحفرة عادة .

لكن يبقى حسم هذا المشروع الشعري وتوثيقه مرتبطا ومرهونا بالغد ( التاريخ القادم الجديد ) الذي – يخذل الشاعر فيجلب له سنة حرب ثانية، ولعل (( الميل إلى لغة الارقام أو الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة ليس انشغالا طارئا أو وظيفة تزيينية بل هو التحام عضوي في جسد النص وامتداد إلى تجربة الواقعة /الحرب ، بوصفها مشهدا ، والشاعر بوصفه شاهدا منفعلا بتفاصيل هذا المشهد ))( ) ، الذي ينتسب مرجعيا إلى التاريخ العراقي الحديث الذي شهد حروبا عديدة شكلت جانبا كبيرا ومهما من فضاء السيرة الذاتية للشاعر نفسه ،ومن ثم انتقل هذا الأثر المرجعي إلى الشعر نفسه لكنه لم ينتقل بموضوعية أو برؤية تاريخية علمية بحتة ، بل انتقل عبر موشور الرؤية الخاصة بتجربة الشاعر نفسه وبأدواته الشعرية المجازية فــ ((الشعر يتأمل التاريخ ويكتبه بوعي ورؤى أكثر ذاتية ورمزية وشمولية)) ( ).تنسجم وطبيعة الشعر الفنية .

(صراع الفواعل )

في المقطع الاخر يتجلى الصراع السري بين أمنيات الشاعر وإمكانيات الواقع اليومي للحياة العسكرية في ظل الحرب :

في سنة الحرب الثانية
ارتأيت أن أزرع أصابع كف واحدة
فالثانية ، أحتاجها
لحلاقة ذقني ، وأداء التحيات

فتحت وطأة الضغوطات السلبية للحرب في امتدادها الزمني التاريخي ( السنة الثانية ) يتخلى الشاعر يائسا عن نصف مشروعه الجمالي المستقبلي المتفائل ،فيقلص مقترحات المشروع و يوظف له أصابع كف واحدة فقط ، لأن الثانية ( الكف ) يحتاجها لأداء واجبات الحياة العسكرية الروتينية المملة التي تجبره جماعيا على الالتزام بها كونها فعلا جماعيا غير خاص به وحده .ويبدو أن الذات هنا وبمرور السنة الثانية للحرب قد بدأت تتدجن وتنصاع للواجبات التي تفرضها الفواعل المهيمنة في الحياة العسكرية والتي تلزمه بالتنازل عن كفه الثانية لأداء طقوس الطاعة إليها ( حلاقة الذقن / أداء التحيات ) ، وكأن التاريخ الشخصي هنا الذي كانت الذات تسعى إلى تشكيله بدأ يتعرض للتدخل من الذوات الأخرى المهيمنة التي تفرض أداء طقوس يومية تافهة بالمقارنة مع الطقــــــــــــــــس الشعري المقدس( زرع الأصابع ) الذي اقترحت الذات القيام به .
إن الإخبار هنا عن ذلك التوثيق الشعري كله يبدو ساخرا إذا ما وضعناه بموازاة الإخبار عن الفعل الأول السابق ( ازرع أصابع كف واحدة ) لأن الأخير فعل اختياري فردي ذو هدف جمالي انساني يمهد رمزيا لقدوم السلام في حين أن الفعل الجديد ( الإجباري ) يخصص لأداء فروض الحياة العسكرية الجماعية ، فالتوازي بين الحالين المختلفتين غايةً، يخلق إيقاعا جوانيا في بنية النص يرفد إيقاع التوازي العام المتصاعد توترا بين سنتي الحرب ، وما تلاهما تاريخيا من سنوات أخرى .
ومهما طمر الشعر مرجعياته الواقعية التاريخية، فإن ملامحها تتراءى أحيانا فيما وراء البنية الفنية للقصيدة ، وهذا ما تجلى لنا عند الحفر مرجعيا في باطن هذه القصيدة التي يبدو لنا إنها نهضت في محور منها على موقف جوهري في التاريخ السيري الذاتي للشاعر الذي عاش ذات مرة لحظات من المقارنة الرمزية بين أصابعه الخشنة المقاتلة وأصابع ناعمة لأنموذج آخر من الناس وفرت له ظروف ما تجنب خوض الحرب التي صنعت للشاعر جانبا من تاريخه الشخصي تمظهر رمزيا في ما تركته من آثار على أصابعه ، في مقابل خلو أصابع الطرف الآخر المترف من ذلك الأثر الذي تمخض شعريا فيما بعد عن قصيدة للشاعر تحـــــــــت عنــــوان ( تواريخ ) ، ونحسب أن الشهادة النثرية للشاعر في واحدة من الحروب التي شهدها قد تضمنت هذه المرجعية التي أشرنا إليها ، وجاء فيها قوله :
(( كنت أعود …. وأزوره ، بكامل تعبي ، بيدي القديمة نفسها . ومضاف إليها كدمات جديدة من أثر حفر المواضع ..أتعمد أن أضعها فوق زجاجة مكتبه الزئبقية ، بكل خشونة أصابعها ..وبرثاء أقارن بينها وبين يديه اللتين لم تمسكا ولو سكين مطبخ ..الاحمرار القريب من الاظافر مكرر بملل .. وترافة الكفين مشوبة بالتحفظات ..لا أحد يعرف عمرها ..هويتها ….يدان بلا تاريخ ..وأصابع مسكينة من دون ذكريات ..أناكد عينيه المراقبتين يدي ..بهذه الأيادي قاتلت دفاعا عن وطني ..وطاعنت ….وحفرت بالحراب فوقها مواضع لأصدقائي ..وقبورا منسية لأعداء منسيين ….)) ( ).ويبدو أن مثل هذه المواقف ذات الملمح الدرامي قد ترسخت في ذاكرة الشاعر ، ولاحقا غذت أنساغ رؤيته لموضوع الحرب كعلامة تاريخية تتشكل في بنية القصيدة .

(تحولات الفعل الشعري )

يستأنف الحطاب روايته الشعرية للتواريخ في المقطع الآتي فيقول :
مع تدفق سنوات الحرب علي
قلت :
أدفن نفسي في أقرب موضع
وأنام كالقتيل

بمرور سنوات الحرب الطويلة يتخلى الشاعر مجبرا حتى عن ترقيم سنواتها كما فعل مع السنة الأولى والثانية ، ليصف هيمنتها و تراكمها وسرعة تتاليها زمنيا باللفظة ( تدفق ) ولأن المساحة الزمنية الشاسعة التي غطتها الحرب تاريخيا بتدفق سنواتها أمست أكبر من حجم المشروع المقترح والموثق شعريا ( زراعة الأصابع في حفر الحرب ) ببعده التفاؤلي الجمالي السلمي للشاعر، فإنه يوسع من جانبه مساحة التضحية التي يقدمها من أجل إقامة ذلك المشروع ، فيقدم نفسه – هذه المرة – بدلا من أصابعه لأقرب حفرة / موضع ، ممــــــــــــــــــــثلا دور القتـــــــــيل ( الضحية ) ، لعل ذلك يشبع رغبات الحرب ويلقم فمها / حفرها بضحايا أكبر ..وكأننا أمام تصوير مؤسطر للحرب ، بوصفها وحشا لا يهدأ إلا بافتراس مزيد من الضحايا .لأن واحــــــــــــــــــــدة من دلالات الحرب تعني (( أنها الاتلاف للذات دون أية مراعاة أو تحفظ )) ( ) في سبيل قضية ما ، بغض النظر عن كون الذات مؤمنة بالقضية أو مجبرة على الرضوخ لها .
وهل يوجد أقسى من هذا الإتلاف الذي يقنع الذات بتمثيل دور القتيل ؟ .. ونلاحظ هنا خفوت نبرة التحدي التي كانت واضحة في المقطع الأول في الفعل المصيري الجريء ( قررت ) ثم تغيرها باتجاه الفعل المهادن ( ارتأيت ) في المقطع الثاني . فخفوتها تماما في الفعل الموجه إلى الذات نفسها ( قلت ) في المقطع الحالي الذي يفصح عن الوصول إلى ذروة الاستسلام بالركون إلى الوضع الساكن ،الخامد ، المؤدي إلى النوم كالقتيل .

( أسئلة شعرية موجهة إلى التاريخ )

حتى الأمنية السابقة للشاعر – على ما فيها من تنازل تام عن وجوده – لم يستطع تحقيقها فقد عادت الحرب مجددا واستولت على رمز المطر المرتبط أصلا وعلى نحو إيجابي بمشروع أمنياته السابقة ، لتكرس الحرب مجازيا فعالية المطر لصالح مشروعها التخريبي فتربطها بإنتاج ما هو عدواني ، سلبي ، قاتل ( القنابل ) :
ولكن ،
لم يتح لي ذلك
فقد أمطرت السماء قنابل
وأورقت أصابع الشهداء
بتربة قلبي : علامات استفهام ؟

لقد أمست أمنية السنة الأولى للحرب حبيسة في قلب الشاعر وبمرور سنوات الحرب أصبح إطلاقها إلى الخارج صعبا وتنفيذها أقرب إلى المستحيل .لاسيما بعد أن انتقلت الحرب إلى أعماق الشاعر النفسية جاعلة من تربة قلبه فضاء آخر لصراعاتها ، حتى تركت فيها أثرا / حفرة .وهكذا (( تنتزع الحرب الانسان من حياته اليومية وتضعه في جو مادي ونفساني غير عادي فالحرب قبل كل شيء عبارة عن مصدر للانفعالات لامثيل له )) ( )، يغذي التجربة الشعرية بالرؤى والصور . فــ (( إن أدب الحرب بوصفه وثيقة إنسانية كبيرة يمكن أن يعبر عن مختلف حالات وهواجس الإنسان ، خاصة وأنه كان يواجه مصيرا محتدما )) ( ) يتأرجح مابين الحياة والموت .
ففي الهامش الشعري الذي تخطه القصيدة على متن الحرب تقلصت مساحة الجمالي الرامز إلى الأمل والسلام ( الأزهار ) الناتج من تضحية أولية بجزء رمزي من جسد الإنسان : الأصابع ، في مقابل اتساع مساحة القبيح الرامز إلى الموت والتشاؤم : الحرب ، التي لا تكتفي حتى بالتضحية الكاملة بالجسد ( أدفن نفسي في أقرب موضع ) ، بل إنها ( الحرب ) ستستولي على أعماق الشاعر والموضع الرمزي لبؤرته الروحية ( قلبه )، فترغمه على تبادل الأدوار، إذ تمسي تربة القلب – بعد أن كانت منبع أمنيات السلام – مدفنا لأصابع الشهداء ممن تبنوا مشروع الشاعر.
قلب الشاعر مثَّل دور الأرض / الذاكرة / التاريخ وجعل في تربته حفرا لاحتواء أصابع الآخرين الشهداء تجسيدا لمشروعه الذي لم يستطع أن يحققه في الخارج .. وضمن إطار الفضاء التاريخي الواقعي ، وكأنه يمنح الشهداء مجد إنجاز مشروعه التاريخي الشخصي حين يتخلى لهم عن أمنيته لكنه من جهة أخرى ينهض باستقبال شكل وجودهم الجديد عبر تقمصه دور الأرض / الذاكرة التي ينغرسون فيها لتورق أصابع احتجاجهم على الحرب علامات استفهام لأسئلة عدة ربما يصعب ترميزها بالكلمات فظلت مفتوحة على احتمالات شتى كامنة في الجانب البصري المكتنز بالدلالات عبر الاستفهام وعلامته البصرية ( ؟) في خاتمة النص .لكن تلك الأسئلة لا تخلو من استفسارات تثيرها في ذهن المتلقي ، تخص عبثية الحروب وعدم جدواها في الأزمنة كلها من زاوية المنظور الشعري الإنساني ، مادامت الخسارات البشرية في النهاية تشمل الاثنين معا المنتصر والمهزوم ، فكلاهما قد قدم الإنسان ضحية في صراعه. والإنسان من أجل الموضوعات التي تحظى باهتمام الشعر . فقصيدة تواريخ بوصفها قصيدة حرب (( لا تسير ضمن الخط التحريضي والحماسي الذي تريده منها الحرب ، إنها قصيدة حرب بطريقة أخرى طريقة الكلام عن آلام الحرب وإفرازاتها ، طريقة مواجهة مع الحرب لا طريقة سير في ركابها )) ( )
أو في الأقل هي قصيدة تحول تاريخ الحرب إلى مجموعة من الأسئلة تنتظر الإجابة عنها برؤيا الشعر أكثر من منطق التاريخ ، لأن الشعر تشغله أخبار الإنسان في لحظاته الحرجة وهو يخوض أتون الحرب أكثر من انشغاله بأخبار المعارك ومواقعها .
فهي قصيدة تسير في اتجاه رأى في تجربة الحرب حدثا يوميا تمتد أثاره إلى التفاصيل الصغيرة ، وقلما يعمد هذا الاتجاه إلى رصد أو تسجيل المواقف الكبيرة ، إنما هو مشغول دائما بالكشف عن اليومي محاولا الارتقاء به إلى دائرة الشعري المدهش بعيدا عن دائرة الحقيقة التاريخية ( ) .
ومثل هذا النمط من القصائد يمثل عند الشاعر (( لحظة ضغطت على ذهنه لا بقصد ابتداع الموضوع أو العقدة ، بل بقصد تكثيف ما شاهد وشارك فيه واستمع إليه ليحيله فنا يقدر عليه من دون أن يتوقف عنده ، جاعلا منه إثر ذلك منجزا فنيا ، في ساعة إبداع تمنح ما يبدو بسيطا أو حياتيا أو متكررا الاف المرات في أيام المواجهة المسلحة مع العدو أو مع الذات ، داخل الخندق أو خارجه ، ظلالا جديدة من المعاني ، ترتقي به جليلا يستوقف القارئ فيثير عنده حسا بالمشاركة الوجدانية – في الأقل- )) ( )
ومن ثم فإن ما حصل من أحداث ومواقف تصاعدية مع تتالي سنوات الحرب بات يمثل تواريخ مهمة عند الشاعر تستحق توثيقها شعريا ، وإن كان التوثيق مكتنزا بالسخرية من الحرب ومن التواريخ نفسها التي لا تكترث الحرب ببعدها الشخصي أو الفردي المرتبط بخصوصية ذات شعرية شاركت في خوضها إلى جانب الآلاف من المقاتلين ، لأن هذه البعد لا يشكل محط اهتمام المؤرخين بالقدر الذي تشغلهم فيه أبعادها العامة المرتبطة بزمانها ومكانها وفضائها السياسي والعسكري ونتائجها وآثارها الواسعة على أطراف الصراع وعلى الآلاف وربما الملايين من الناس وليس آثارها على ذات واحدة ، فهذه الآثار الاخيرة هي التي يشتغل عليها التوثيق الشعري لينمذج من خلالها بإيجاز وإيحاء صورة انسانية لتاريخ الذات في لحظات مواجهتها النفسية المتعاقبة زمنيا مع مرور سنوات الحرب ، مدونا التفاصيل الشعرية في سجل القصيدة وليس في سجل التاريخ .

وفي خاتمة البحث ، نستنتج أن المرجعيات التاريخية ،لا تحتفظ بصورتها الواقعية عند دخولها فضاء القصيدة ، بل يعاد تشكيلها فنيا ، لتنسجم وطبيعة الشعر المجازية والرؤيوية ، التي توثق لحدث تاريخي كالحرب لكن بلغة الشعر وتقنياته ، التي تستبقي الحدث كبؤرة لانبثاق التجربة الشعرية في فضاءات المخيلة الإبداعية للشاعر، ومن ثم فإن مثل هذه الأحداث التاريخية تمثل اختبارا حقيقيا لقدرة الشاعر على تنقية الموضوع من واقعيته ، وانتقاء ما يصلح من علاماته التي يمكن أن تكون دالة عليه شعريا وليس تاريخيا .ونحسب أن الحطاب قد نجح في إنجاز هذه الغاية ،فأنتج لنا نصا يوثق بالشعر حدثا تاريخيا كبيرا كالحرب بدءا من علاماتها الصغرى الهامشية التي كانت في الوقت نفسه عتبة لرؤية إنسانية شمولية ترى في الحرب تاريخا للخسارات البشرية بغض النظر عن نتائجها على أطراف الصراع .ف( تواريخ ) قصيدة تقوض ثقافة تمجيد الحروب في مقابل دعوتها لتمجيد قيمة الإنسان الشاغل الأول والأخير للشعر .

ملحق :

قصيدة ( تواريخ ) للشاعر العراقي جواد الحطاب

في سنة الحرب الأولى
قررت أن ازرع أصابعي
في كل حفرة أراها

قلت غدا
لابد أن تمطر السماء
وتورق الأصابع أزهارا

في سنة الحرب الثانية
ارتأيت أن أزرع أصابع كف واحدة
فالثانية ، أحتاجها
لحلاقة ذقني ، وأداء التحيات

مع تدفق سنوات الحرب علي
قلت :
أدفن نفسي في أقرب موضع
وأنام كالقتيل
ولكن ،
لم يتح لي ذلك
فقد أمطرت السماء قنابل
وأورقت أصابع الشهداء
بتربة قلبي : علامات استفهام


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . أحمد جارالله ياسين

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2024/07/26



كتابة تعليق لموضوع : التاريخ وثيقةً شعرية في قصيدة تواريخ لجواد الحطاب
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net