المعادن في القرآن الكريم (الحديد والنحاس) (ح 3)
د . فاضل حسن شريف
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . فاضل حسن شريف

جاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: قوله تعالى "قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا" (الاسراء 50) جواب عن استبعادهم، وقد عبروا في كلامهم بقولهم:"أإذا كنا" فأمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمرهم أمر تسخير أن يكونوا حجارة أوحديدا "إلخ" مما تبديله إلى الإنسان أبعد وأصعب عندهم من تبديل العظام الرفات إليه. فيكون إشارة إلى أن القدرة المطلقة الإلهية لا يشقها شيء تريد تجديد خلقه سواء أكان عظاما ورفاتا أوحجارة أوحديدا أوغير ذلك. والمعنى: قل لهم ليكونوا شيئا أشد من العظام والرفات حجارة أوحديدا أو مخلوقا آخر من الأشياء التي تكبر في صدورهم ويبالغون في استبعاد أن يخلق منه الإنسان فليكونوا ما شاءوا فإن الله سيعيد إليهم خلقهم الأول ويبعثهم. قوله سبحانه "آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِۖ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا" (الكهف 96) الزبر بالضم فالفتح جمع زبرة كغرف وغرفة وهي القطعة، وساوى بمعنى سوى على ما قيل وقرىء"سوى" والصدفين تثنية الصدف وهو أحد جانبي الجبل ذكر بعضهم أنه لا يقال إلا إذا كان هناك جبل آخر يوازيه بجانبه فهو من الأسماء المتضائفة كالزوج والضعف وغيرهما والقطر النحاس أوالصفر المذاب وإفراغه صبه على الثقب والخلل والفرج. وقوله: "آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ" أي أعطوني إياها لأستعملها في السد وهي من القوة التي استعانهم فيها، ولعله خصها بالذكر ولم يذكر الحجارة وغيرها من لوازم البناء لأنها الركن في استحكام بناء السد فجملة "آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ" بدل البعض من الكل من جملة "فأعينوني بقوة" أوالكلام بتقدير قال، وهو كثير في القرآن. وقوله: "حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا" في الكلام إيجاز بالحذف والتقدير فأعانوه بقوة وآتوه ما طلبه منهم فبنى لهم السد ورفعه حتى إذا سوى بين الصدفين قال: انفخوا. وقوله: "قال انفخوا" الظاهر أنه من الإعراض عن متعلق الفعل للدلالة على نفس الفعل والمراد نصب المنافخ على السد لإحماء ما وضع فيه من الحديد وإفراغ القطر على خلله وفرجه. وقوله: "حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا" إلخ في الكلام حذف وإيجاز، والتقدير فنفخ حتى إذا جعله أي المنفوخ فيه أوالحديد نارا أي كالنار في هيئته وحرارته فهو من الاستعارة. وقوله: "قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا" أي آتوني قطرا أفرغه وأصبه عليه ليسد بذلك خلله ويصير السد به مصمتا لا ينفذ فيه نافذ. قوله عز وجل "وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ" (الحج 21) المقامع جمع مقمعة وهي المدقة والعمود.
وعن التفسير الوسيط للدكتور محمد سيد طنطاوي: قوله سبحانه "يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ" ﴿الرحمن 35﴾ استئناف في جواب سؤال مقدر عما سيصيبهم إذا ما حاولوا الفرار. والشواظ: اللهب الذي لا يخالطه دخان، لأنه قد تم اشتعاله فصار أشد إحراقا. والنحاس: المراد به هنا الدخان الذي لا لهب فيه، ويصح أن يراد به: الحديد المذاب.. قوله عز من قائل "كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ" (الدخان 45) والمهل: هو النحاس المذاب، أو رديء الزيت الحار. قوله عز وعلا "وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ" (سبأ 12) والقطر: هو النحاس المذاب. مأخوذ من قطر الشيء يقطر قطرا وقطرانا، إذا سال. أى: كما ألنا لداود الحديد، أسلنا لابنه سليمان النحاس وجعلناه مذابا، فكان يستعمله في قضاء مصالحه، كما يستعمل الماء، وهذا كله بفضلنا وقدرتنا. قوله تعالى "آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ" (الكهف 96) والزبر كالغرف جمع زبره كغرفة وهي القطعة الكبيرة من الحديد وأصل الزبر. الاجتماع ومنه زبرة الأسد لما اجتمع من الشعر على كاهله. ويقال: زبرت الكتاب أى كتبته وجمعت حروفه. أى: أحضروا لي الكثير من قطع الحديد الكبيرة، فأحضروا له ما أراد "حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ" أى بين جانبي الجبلين. وسمى كل واحد من الجانبين صدفا. لكونه مصادفا ومقابلا ومحاذيا للآخر، مأخوذ من قولهم صادفت الرجل: أى: قابلته ولاقيته، ولذا لا يقال للمفرد صدف حتى يصادفه الآخر، فهو من الأسماء المتضايفة كالشفع والزوج. وقوله: "قالَ انْفُخُوا" (الكهف 96) أى النار على هذه القطع الكبيرة من الحديد الموضوع بين الصدفين. وقوله: حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً أى: حتى إذا صارت قطع الحديد الكبيرة كالنار في احمرارها وشدة توهجها "قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرا" (الكهف 96)ً أى: نحاسا أو رصاصا مذابا، وسمى بذلك لأنه إذا أذيب صار يقطر كما يقطر الماء. أى: قال لهم أحضروا لي قطع الحديد الكبيرة، فلما أحضروها له، أخذ يبنى شيئا فشيئا. قوله تعالى "وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ" (الانبياء 80) واللبوس: كل ما يلبس كاللباس والملبس: والمراد به هنا: الدروع. أى: وبجانب ما منحنا داود من فضائل، فقد علمناه من لدنا صناعة الدروع بحذق وإتقان، وهذه الصناعة التي علمناه إياها بمهارة وجودة "لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ". أى: لتجعلكم في حرز ومأمن من الإصابة بآلة الحرب. وتقى بعضكم من بأس بعض، لأن الدرع تقى صاحبها من ضربات السيوف، وطعنات الرماح. يقال: أحصن فلان فلانا، إذا جعله في حرز وفي مكان منيع من العدوان عليه. والاستفهام في قوله: "فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ" للحض والأمر أى: فاشكروا الله تعالى على هذه النعم، بأن تستعملوها في طاعته سبحانه. قال القرطبي رحمه الله: «وهذه الآية أصل في اتخاذ الصنائع والأسباب، وهو قول أهل العقول والألباب. لا قول الجهلة الأغبياء القائلين بأن ذلك إنما شرع للضعفاء، فالسبب سنة الله في خلقه، فمن طعن في ذلك فقط طعن في الكتاب والسنة، وقد أخبر الله- تعالى- عن نبيه داود أنه كان يصنع الدروع، وكان أيضا يصنع الخوص، وكان يأكل من عمل.
جاء في التفسير المبين للشيخ محمد جواد مغنية: قوله تعالى: "يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس" (الرحمن 35) قالوا: الشواظ لهب بلا دخان، والنحاس هنا دخان بلا لهب، ومهما يكن فإن المعنى المحصل من الآية هو الإشارة إلى أهوال الساعة وآلامها، وان المجرم لا خلاص له من هذه الآلام والأهوال بشفيع ولا ناصر. قوله عز وعلا "وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ" (الحديد 25) قال المفسرون القدامى عند تفسير هذه الآية: ان الحديد قوة في الحرب يتخذ الناس منه سيفا للضرب، ودرعا للدفاع، وأيضا يتخذون منه السكين والفأس والابرة، وما هذه الأمثلة إلا انعكاس لعصرهم وحياتهم، ولوكنا في زمانهم لمثلنا بأمثلتهم، ولو كانوا في زماننا لقالوا: ان الحديد هو عصب الحياة في شتى النواحي، فمنه وسائل المواصلات برا وبحرا وجوا، والأدوات التي لا غنى عنها لغني أوفقير، وبه تقوم الجسور والعمارات والسدود والخزانات، ولولاه لما عرف الناس الكهرباء والبترول، وهو الأساس لكثير من العلوم الحديثة، بل هو كل شيء في المعامل والمصانع التي تقوم عليها حضارة القرن العشرين.
عن الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله جل جلاله "لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ" ﴿ق 22﴾ أجل، إنّ أستار عالم المادّة من الآمال والعلاقة بالدنيا والأولاد والمرأة والأنانية والغرور والعصبية والجهل والعناد وحبّ الذات لم تكن تسمح أن تنظر إلى هذا اليوم مع وضوح دلائل المعاد والنشور، فهذا اليوم ينفض عنك غبار الغفلة، وتماط عنك حجب الجهل والتعصّب واللجاجة، وتنشقّ أستار الشهوات والآمال، وما كان مستوراً وراء حجاب الغيب يبدو ظاهراً اليوم، لأنّ هذا اليوم يوم البروز ويوم الشهود ويوم تبلى السرائر. ولذلك فقد وجدت عيناً حادّة البصر ويمكن أن تدرك جميع الحقائق بصورة جيّدة. أجل، إنّ وجه الحقيقة لم يكن مخفياً ولا لثام على جمال الحبيب، ولكن ينبغي أن ينفض غبار الطريق ليمكن رؤيته. إلاّ أنّ الغرق في بحر الطبيعة والإبتلاء بأنواع الحجب لا يسمحان للإنسان أن يرى الحقائق بصورة واضحة، لكنّه في يوم القيامة حيث تنقطع كلّ هذه العلائق فمن البديهي أن يحصل للإنسان إدراك جديد ونظرة ثاقبة، وأساساً فإنّ يوم القيامة يوم الظهور وبروز الحقائق. حتّى في هذه الدنيا إستطاع البعض تخليص أنفسهم من قبضة الأهواء واتّباع الشهوات وأن يلقوا الحجب عن عيون قلوبهم لرزقوا بصراً حديداً يرون به الحقائق، أمّا أبناء الدنيا فمحرومين منه. وينبغي الإلتفات إلى أنّ الحديد نوع من المعدن كما يطلق على السيف والمُدية، ثمّ توسّعوا فيه فأطلقوه على حدّة البصر وحدّة الذكاء، ومن هنا يظهر أنّ المراد بالبصر ليس العين الحقيقية الظاهرة، بل بصر العقل والقلب. يقول الإمام علي عليه السلام في أولياء الله في أرضه: (هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين واستلانوا ما استعوره المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحل الأعلى اُولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه).
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat