صفحة الكاتب : رائد عبد الحسين السوداني

ثورة العشرين
رائد عبد الحسين السوداني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

مهداة للأخوين الفاضلين الأستاذ الكبير صائب خليل والأستاذ الكبير سلام كاظم فرج مع التحية :

 يمكن القول إن الحدث الوحيد في تاريخ العراق الحديث والذي يتغنى به العراقيون جميعا وبدون استثناء هو مقاومتهم للإنكليز وغزوهم العراق وصدهم له في موقعة الشعيبة،وكذلك حدث ثورة العشرين والتي جاءت كتعبير واضح إلى أن شعب العراق شعب حي يرفض مبدأ الاحتلال والذي يمكن أن يكون المبرر الوحيد للمقاومة فضلا عن المقدمات الأخرى لاسيما ممارسات الاحتلال ذاته ،ولا يمكن في كل الأحوال أن نضع المبررات للاحتلال وفي الوقت نفسه ندين أو نتهم ونطعن المقاومين مهما كانت هويتهم سواء كان قبلية أو سياسية دينية أم علمانية ،فهذا فكر يخص حامله ،لكن يبقى الجامع هو الحكم والجامع هنا هو الوطن إن وقع في محنة ولا أعتقد  إن هناك محنة تصيب شعب أكبر من محنة الاحتلال مهما كانت المبررات. ولا يمكن أن نقول تقارن بين أعمال المحتل وبين أعمال أبناء الوطن أو الشعب :ومع ذلك سيتبع في هذه المقالة النمط الذي يتناول الأسباب المباشرة وغير المباشرة لقيام الثورة ،(سيقتبس في هذا المقال من كتاب حكم الأزمة العراق بين الاحتلالين البريطاني والأمريكي :الجزء الأول)   فقد  اتبع البريطانيون إداءا إداريا غير موفق في العراق من خلال حكام سياسيين هم الأصل ضباط ،وكذلك أنه لما تم احتلال بغداد وضعت تحت الإدارة العسكرية ،وقد طلبت الحكومة البريطانية من هذه الإدارة أن لا تعير للشأن المدني اهتماما كبيرا ويورد الدكتور عبد الله فياض التقرير الإداري لمدينة بغداد في عام 1917 والذي يقول "أن الإدارة المدنية يجب أن توضع تحت أشراف السلطات العسكرية ... ويكتفي في الوقت الحاضر بحد أدنى من الإجراءات الإدارية ،ذلك الحد الذي يكفي لحفظ النظام ويقوم بما تتطلبه القوات العسكرية .أما تعديل القوانين وإدخال الإصلاحات فيجب أن يكتفي بأقل مقدار ممكن منه .ولا ترغب حكومة صاحب الجلالة أن تثار قضايا أدارية كبيرة أو متناقضة حتى يبعد الخطر التركي " .فضلا عن اعتماد الحكام البريطانيين نفس النهج العثماني فيما يخص المجتمع من قبيل الطائفية ،والتعامل الغير مبني على دراية بأحوال المجتمع العراقي من قبل الحكام السياسيين ،وهو تعامل ينم عن تعالي في أوضح صوره ،وقد عبر عنه ويلسن في خطابه لوزارة الخارجية البريطانية وكما نقله الدكتور عبد الله فياض حيث يقول "أن التشابه بين العراق وبقية بلاد العرب ،على الأغلب ،مفقود تماما من الناحية السياسية والجنسية وغيرها من الروابط ... والعربي الاعتيادي في العراق يرى ،خلافا لحفنة من سياسيي بغداد الهواة ،أن تقدمه من الناحية الخلقية والمادية مضمون تحت رعاية بريطانية .وعليه يجب ألا نعقد تشابها بين العراق وبقية الأقطار العربية والإسلامية من الناحية السياسية ،كما يجب أن يبقى العراق منفصلا عن هذه البلدان قدر الإمكان ولكنه يبقى خاضعا لبريطانية " ،ويستطرد ويلسن في تقريره "ليس بوسع العراق أن يستغني عن الوصاية ومرد ذلك إلى فقدان الإداريين الأكفاء في هذه البلاد من جهة ،وإلى أن أهل العراق لا يتذوقون شعور المواطنة من جهة أخرى .يضاف إلى ذلك أن موارد البلاد الاقتصادية ،بالمعنى العام ،غير كافية" ، أقول فضلا عن ذلك كانت سياسة إثقال كاهل الفرد العراقي من الناحية المادية لا تختلف كثيرا عما كان حاصلا في العهد العثماني إن لم يزد عليه من خلال بعض الجبايات من العراقيين لم تكن في قاموس حياتهم وهي إجبارية من مثل  التبرعات للصليب الأحمر ولم تقتصر على سكان المدن، بل تعداه إلى رؤساء العشائر عادين ذلك من البراهين الساطعة على ولاء هؤلاء الرؤساء للجيش البريطاني  ،وأما الجباية الثانية فهي كانت عبارة عن تبرعات لبناء ملاجيء الجنود البريطانيين تقوم بها جمعية خاصة بهذا الغرض ،وأما الجباية الأكثر غرابة فهي ضريبة (الدفنية ) وهي رسوم تؤخذ وتفرض على دفن جثث الموتى ،والتي تدفن في مقبرة وادي السلام في النجف ،وهي تجبى من الأهالي الذين يتوفى لهم من تجاوز عمره الثلاث سنوات ،وقد وصفها حاكم النجف المستر ونيكت بأنها مربحة ،كما فرضت ضريبة أخرى عدها ونيكت مربحة أيضا هي ضريبة الحجر الصحي ،لم تكن الإدارة والقائمين عليها من الحكام السياسيين وهم كما ذكر سابقا من الضباط عديمي الخبرة ،والمعبئين بروحية التعالي، لم يكن هؤلاء بأحسن حال من الولاة والموظفين العثمانيين ،بل هم أقسى في تعاملهم مع الأهالي كما هو الحال مع حاكم النجف الكابتن كرين هاوس ،حيث كان هذا الضابط إذا مر بشارع فإن حراسه يستخدمون السياط لإفساح الطريق له ،ولم يكن الكابتن ونيكت الذي جاء بعد هاوس بأحسن حال بل أن قسوته وشراسته كانت مضرب الأمثال  في هذه المدينة. 
ومن الأمور المهمة والتي تخص تصرفات الاحتلال البريطاني هو (ترييف) المدن لو صح التعبير،أكثر مما كان في العهد العثماني ،أي بمعنى نقل المفاهيم الريفية إلى المدينة من خلال استمالة رؤساء العشائر والقبائل إلى الصف البريطاني وضمهم إلى النخبة الحاكمة،وبطبيعة الحال أن هؤلاء الشيوخ لديهم أتباع يرافقوهم أينما حلوا ،وإذا كان هؤلاء دائمي الإقامة في المدينة ولاسيما بغداد فإنهم سيؤثرون على الواقع الاجتماعي من خلال نقل المفاهيم الريفية والعشائرية الضيقة دون التأثر بالعوامل المدينية لأنها أصلا ضعيفة نتيجة سياسة الحكم العثماني الذي جعل المجتمع العراقي مجتمعا عشائريا بغالبيته  ،وإذا كان العثمانيون يتعاملون مع عدة رؤساء في القبيلة الواحدة من خلال سياسة تشظية القبائل، نجد أن البريطانيين ساعدوا أن يكون لكل قبيلة رأس واحد يتعاملون معه ،وبطبيعة الحال أن هذه السياسة لا تخدم المدينة ،وكذلك بصورة أشد تكون على حساب الفلاح البسيط الذي سيجد نفسه أمام سلطة إجتماعية تتمثل برئيس القبيلة والذي يملك السلطة المالية ، وبعد ذلك ستكون له سلطة سياسية من خلال دخول الشيخ (المحفوظ ) في المجلس النيابي أو تقربه من مصدر القرار وغالبا ما يكون البريطاني ،وقد تدخل البريطاني حتى في تنصيب وإزاحة بعض من الشيوخ حيث وجدت المصلحة البريطانية ،أو إبراز وجوه لا تملك المكانة الاجتماعية في القبيلة من قبيل بعض وكلاء الشيوخ والذين يعرفون باسم (السراكيل) ووضعهم في صف رؤساء القبائل أو حتى بديلا عنهم ،هذا أدى إلى تذمر الكثير من أبناء القبائل بطبيعة الحال .
ثورة العشرين:
أن هذه التصرفات وغيرها أدت إلى أن يتفجر الوضع في العراق عموما وفي منطقة الفرات الأوسط على وجه الخصوص في 30/6/1920 وهو تاريخ ثورة العشرين . وفي الحقيقة نحن هنا لا نريد أن ندرس ثورة العشرين بكل أبعادها ذلك أن هذه الثورة ومن خلال ما تمثل من حدث تاريخي فهي قد درست ولا زالت تدرس في بحوث مستقلة ،لكننا هنا نضع هذا الحدث كنتاج عن أزمة ونتائجه أثمرت أيضا أزمة ،كما انه شكل أزمة أيضا لقوات وحكومة الاحتلال البريطاني ،وقبل أن نخوض قليلا في بعض أسباب الثورة ومقدماتها هنا يجب أن نعرف وبشكل مبسط ماهية الثورة ،فبطبيعة الحال أن الحدث السياسي مهما صغر فهو ليس بن ساعته ،فكل الأحداث السياسية الكبرى والصغرى هي عبارة عن نتاج تراكمات تؤدي بنا إلى ساعة الحدث ،وهكذا هي الثورات التي تقوم بها المجتمعات ،فالثورة هي نتاج من تراكمات من الاحتقانات السياسية التي تؤدي إلى احتقانات اجتماعية تصل في النهاية إلى وجود أزمة ،وأيضا تصل إلى مدى لا يستطيع أطرافها الاحتكام إلى لغة الحوار إلا بعد أن يحدث الصدام وهو حتمي في أغلب الأحيان ،فلكل طرف حججه ومنطقه وقوته التي يستند إليها ،وكذلك مسوغاته لرفض الآخر .يستند المحتل إلى قوته الهائلة التي مكنته من أن يبسط سيطرته على هذه الأرض أو تلك ،وإلى قوة إمكانياته الاقتصادية التي تجعله يديم الصراع مهما طال ،وأيضا يستند إلى قوته الداخلية ،وإلى حلفائه في العالم ،وأيضا يستند إلى حجة أنه لولاه لما أمكن التخلص من الوضع السابق .أما المقاوم فحجته أنه صاحب الحق في هذه الأرض ،وأنه يمثل الشعب أو جزءا كبيرا منه ،ويعد نفسه أنه الصفوة التي تمثل تطلعات الشعب .ثورة العشرين وعلى هذا الأساس لم تكن وليدة الانتداب أو الاحتلال ولم تكن وليدة موقعة الشعيبة وحسب ،أنها وليدة التراكمات من الاحتقانات من العهد العثماني حتى يوم الثورة . جاء الاحتلال بوعود خلابة للمجتمع العراقي ،أولها الاستقلال ، والرفاهية للشعب العراقي ،والازدهار في الحياة الاجتماعية .مارست الدولة العثمانية سياسة قاسية تجاه أهل العراق فهي تتعامل معهم تعاملا ماديا ،أي بمعنى أدق هم يحكمون العراق كجباة ضرائب دون تقديم أي خدمات مقابل ذلك فالأموال تذهب إلى اسطنبول دون اقتطاع شيئا من هذه الأموال لتطوير واقع الحال ،لا بل وزيادة في إثقال كاهل الفرد العراقي كان العمال والولاة العثمانيين لا يمتلكون أدنى مقومات الإخلاص للدولة العثمانية أو السلطان بقدر سعيهم زيادة ثرواتهم من خلال الارتشاء و لذلك "كان الفساد قد انتشر من القمة إلى الحضيض ،وكان الولاة يشترون مناصبهم من القسطنطينية ،بموجب عقد غالبا ما يكون قصير الأجل .ثم يأتون إلى الأقاليم العربية ليجنوا أرباح الأموال التي وظفوها .وكان الموظف العربي التابع يتقاضى راتبا غير ملائم وغير منتظم ،ولذلك لم يصن نفسه من الارتشاء .فالموظفون في الكمارك الذين كان عليهم ،من الناحية النظرية أن يجبوا رسوما 8% كانوا على أتم الاستعداد لتقليل الضريبة عن المستورد بنسبة ما يقدمه إليهم تحت مناضدهم " .ودائما ما كانت تجرد الحملات العسكرية ضد العشائر المتمردة على نظام الضرائب ،أو التي لا تنصاع إلى نظام التجنيد الإجباري . تحسس العرب والعراقيون منهم الإحساس بالحرية وكما ذكر سابقا عندما ظهرت الإتحاد والترقي إلى الوجود فانظموا إليها ،لكن ما حصل هو أن هؤلاء المؤسسين هم أشد تشددا في نظرتهم إلى الأقوام الأخرى من السلاطين السابقين ،مما أوجد حنقا شديدا ضد الدولة العثمانية لدى سكان الأقاليم العربية ومنها العراق .وعندما جاء الانكليز وفتحوا العراق بداعي التحرير ثم نكثوا بوعودهم الأمر الذي استدعى العراقيين أن يدركوا أن وعود البريطانيين ما هي وتصديقها إلا أوهام ،ثم أن نقاط الرئيس الأمريكي الأربعة عشر شجعت الشعوب ومنها الشعب العراقي على المطالبة باستقلاله ،والحقيقة أن العراقيين بدأوا ينظرون بقلق تجاه مستقبل بلادهم ،خشية عدم استطاعتها من التخلص من السيطرة الانكليزية ،حتى لو كانت بفكرة الانتداب ،وهذا أهم عوامل الثورات في الحقيقة ،أي فكرة وجود السيطرة الأجنبية مع وجود عناصر القيام بالثورة من قيادة، ورجال ،وسلاح ،أضف إلى ذلك ما ذكرنا من التراكمات .أن فكرة الانتداب هي فكرة ملطفة لمبدأ الاحتلال إن صحت العبارة ،فهي تعني أن تقوم عصبة الأمم بتفويض دولة أخرى منتدبة بأن تقوم بوظائف محدودة تماما وتحت إشراف العصبة ،والانتداب نظام "يختلف عن نظام الاستعمار ،ونظام الحماية .واختلافه مع نظام الاستعمارات من أنه يضع مصلحة السكان الوطنيين في الدرجة الأولى من الاعتبار .فالانتداب ،من الناحية النظرية على أقل تقدير ،وظيفة إنسانية تقوم بها الدولة المنتدبة لمصلحة السكان الذين عهدوا إليها ،وبصورة غير مباشرة لمصلحة المجتمع الدولي الذي تمثله عصبة الأمم ،ثم إن الانتداب نظام وقتي وانتقالي صرف " ،ونظام الانتداب أيضا يختلف عن نظام الحماية اختلافا كبيرا ،فما تتمتع به الدولة الحامية من حقوق هي أكبر من الدولة المنتدبة أو بمعنى أدق لا حقوق للمنتدب من الذي انتدب إليه بخلاف الجهة الحامية التي لها حقوق في البلد المحمي  لكن هل اقتنع العراقيون بهذا المبدأ وقبلوا به على خطوة متقدمة نحو الاستقلال ،بالطبع لا أبناء الشعب العراقي اقتنعوا بهذا المبدأ،ولا بريطانيا أشعرتهم بأنها إنما دولة لها واجب محدد من قبل عصبة الأمم تؤديه ثم تسلم مقاليد الأمور للعراقيين ،فهي أصلا من نظام الانتداب الاسم فقط دون المضمون ذلك، أن نظام الانتداب في أصله يقوم على مبدأ مفاده جعل عصبة الأمم دولة عليا للمجتمع الدولي ،وبقدرتها فرض الطاعة على كل الدول بلا استثناء ،وهي ملزمة بوراثة الإمبراطوريات المغلوبة ولها حق التصرف باملاك هذه الإمبراطوريات ،وينص أيضا مبدأ قيام هذه الدولة العليا إلى أنه من المحتمل أن تنتدب دولة أخرى للقيام بهذا الدور ،فهل قامت بريطانيا في العراق بهذا الدور خلال مدة الانتداب؟ في الحقيقة أنه خلال مدة الانتداب لم تكن الإدارة" سوى إدارة عسكرية تستند على قوة السلاح .ومن مجموع 500 وظيفة مدنية براتب شهري يزيد على 600 روبية كان الإنكليز يشغلون 473 وظيفة منها ،والهنود سبع وظائف ،والوطنيون سبع وظائف فقط . وفي المراكز الثانوية التي كانت تبلغ 5886 وظيفة ،كان الانكليز يشغلون منها 515 ،والهنود 2200وظيفة " ،وهنا لم يختلف الأمر مع ما كان موجودا زمان الدولة العثمانية من إهمال لأبناء البلد في التوظيف  والمجيء بعناصر تركية ليسيروا شؤونه اليومية مع ممارساتهم التي ذكرناها سابقا، إضافة إلى ذلك أن البريطانيين زادوا على العثمانيين لحنق العراقيين ومن ثم الوصول إلى الأزمة وبعد ذلك إلى ثورة العشرين هو الاستهتار بالقيم الدينية من خلال منحهم إجازات بيع الخمور مقابل مبالغ وكذلك الترياق ،علما أن العراقيين لما قاوموا الغزو البريطاني عند موقعة الشعيبة إنما قاوموا على أسس دينية في المقام الأول . 
وبعد الاحتلال بدأت الأسس الوطنية تأخذ طريقها إلى عقول العراقيين وبدأوا يطالبون بالاستقلال من المحتل الكافر، وعلى هذا المبدأ الديني أشعلت شرارة الثورة ،لكن هل أن الأسباب الأخرى غير  التي ذكرت آنفا وقد أوردها بعض الكتاب هي غير أساسية لنجعلها مثلا غير داخلة ضمن أسس وأسباب اشتعال الثورة .بالطبع إن ألغاء كل هذه المنطلقات من البحث سيكون هناك غبنا للحقيقة التاريخية بكل أبعادها ،فعلاوة على الحكم العسكري الذي فرض على المجتمع كان هناك تأثيرا للثورة العربية في الحجاز وسوريا على الأحداث في العراق  وكذلك صدى الثورة المصرية 1919 أيضا له تأثيرا على ما جرى في العراق ،أيضا تأسيس الحكومة العربية بقيادة الملك فيصل ولاسيما أن العراقيين لهم إسهامات أساسية   في هذا التأسيس أثر في سير الأحداث وشجع النخب العراقية في المطالبة بالاستقلال ، ويورد الدكتور عبد الله فياض سببا آخر هو تأثير الحركة الكمالية في تركيا  لما لهذا البلد من أثر على العراقيين بفعل العامل الإسلامي الذي يربط البلدين ،والصلات القديمة من خلال احتلال تركي للعراق باسم الخلافة الإسلامية لمدة أربعة قرون ،وللقرب الجغرافي بينهما .
أما السيد عبد الرزاق الحسني فيضيف إلى تلك الأسباب أمورا أخرى لا تقل أهمية عن سابقاتها فيقول "وقد زاد الطين بلة أن الذين عهدت إليهم إدارة المناطق المحتلة ،كانوا يجهلون نفسيات العرب عامة ،والعراقيين خاصة ،بل الظاهر أنهم حسبوا العراقيين هنودا ،فاسمعوهم قارص القول ،وعودوا متشرديهم على امتهان الكرامات ومس العواطف،وكلم الصدور .فهيمنت على البلاد جيوش الفوضى ،والارهاب ،والرشوة ،في الوقت الذي أعلنت الحكومة البريطانية ،في بلاغاتها المتعددة ،أنها جاءت لتتعاون مع العرب،على تحريرهم من ظلم الترك المعتدين ،فكانت المعاملة التي عومل بها السكان ،لا تختلف عن المعاملة التي يعامل بها المعادون "  ويستمر السيد الحسني بالقول "ولم يكتف الإنكليز بما فعلوه بقوانين البلاد وعاداتها ،فعمدوا إلى سلب الثروة من أبناء البلاد ،ولاسيما المسلمين منهم فاحتكروا الأقوات وابتاعوها بأبخس الأثمان ،ثم باعوها بأثمان غالية جدا ،الأمر الذي أدى إلى حدوث مجاعة عامة .وأقاموا في دوائرهم موظفين من أراذل النصارى واليهود ،حتى أراذل المسلمين ،فكانوا عونا على هتك حرمات الأعراض ،وأزعجوا العقائل في خدورهن ،وابتزوا الأموال، وفعلوا المنكرات "  ومن هذه الأسباب هي مواقف رجال القبائل الذين كان لهم الدور الفاعل في تعبئة المقاتلين ،وتهيئة السلاح ،علما انه موجود لدى القبائل لكن معارك كالتي حصلت في ثورة العشرين تحتاج إلى ديمومة في وصول السلاح إلى المقاتلين. لكن يبقى شيء مهم جدا في هذه المرحلة وهو نظرة كل طرف للآخر ،فعلاوة على أن البريطاني فهو محتل ،وهذه الصفة تعطي مسوغا كبيرا ،واستنادا لكل الشرائع ،والقوانين على حمل السلاح ،وتعد مقاومة الغزاة أمرا حتميا ،نجد أن الطرف العراقي (المقاوم) ينظر إلى البريطاني على أنه كافر ويجب دفع ضرره عن العراق ،ولو يُنظر إلى ما حرره المرجع الشيرازي من بيان للعراقيين يتبين له عمق الهوة بين الطرفين ،يقول آية الله الشيرازي "أما بعد فإن إخوانكم في بغداد ،والكاظمية ،والنجف ،وكربلاء ،وغيرها من أنحاء العراق ،قد اتفقوا فيما بينهم على الاجتماع والقيام بمظاهرات سلمية ،وقد قامت جماعة كبيرة بتلك المظاهرات ،مع المحافظة على الأمن ،طالبين حقوقهم المشروعة المنتجة لاستقلال العراق إن شاء الله بحكومة إسلامية " ،وهنا لا يقصد المرجع الكبير الشيرازي أن تقام حكومة إسلامية تعتمد الشريعة قانونا لها بقدر ما يقصد حكومة يرأسها مسلم ،وهذا ما تدلل عليه رغبات القائمين على المطالبات المشار إليها في بيان المرجع ،حيث يطالب أهالي النجف في مضبطتهم بملك عربي مسلم ،يقول نص المضبطة "نحن عموم أهالي النجف الأشرف :علماءها ،وأشرافها ،وأعيانها ،وممثلي الرأي العام فيها ، وكافة أهل الشامية :ساداتها ،وزعماء قبائلها ،وممثليها ،قد انتدبنا بعض علماءنا وأشرافنا ووجهائنا ،وهم حضرات الشيخ جواد الجواهري ،والشيخ عبد الكريم الجزائري ،والشيخ عبد الرضا آل شيخ راضي ،والسيد نور آل السيد عزيز ،والسيد علوان السيد عباس ،والحاج عبد المحسن شلاش ،لأن يمثلونا تمثيلا صحيحا قانونيا أمام حكومة الاحتلال في العراق وأمام عدالة الدول الحرة الديمقراطية،التي جعلت من مبادئها تحرير الشعوب ،وقد خولناهم أن يدافعوا عن حقوق الأمة ،ويجهروا في طلب الاستقلال للبلاد العراقية بحدودها الطبيعية ،العاري عن كل تدخل أجنبي ،في ظل دولة عربية وطنية ،يرأسها ملك عربي مسلم ،مقيد بمجلس تشريعي وطني .هذه هي رغباتنا ،ولا نفتر عن طلبها ،ومنه نستمد الفوز والنجاح ،وهو حسبنا ونعم الوكيل ." ،عليه هم فقط يرغبون بل يطالبون بشخصية مسلمة تتولى زمام الأمور .
تعزز هذه المطالب مضبطة أخرى لأهالي النجف وهي ثلاث مطالب حسبما يوردها عبد الرزاق الحسني "أولا :إننا نطلب فعلا أن يؤلف الشعب باختياره ،مؤتمرا عراقيا قانونيا ،يجتمع أعضاؤه في عاصمة البلاد بغداد، ومهمته تأليف حكومة عربية ،مستقلة كل الاستقلال ،عارية عن كل تدخل أجنبي، يرأسها ملك مسلم عربي .ثانيا :نطلب رفع الحواجز عن ارتباط الشعب العربي العراقي ،وتفاهمه مع الشعوب الأخرى ،بحرية المواصلات ،وكافة المنشورات والمطبوعات. ثالثا تمكين الأمة من عقد مجتمعاتها وإقامة منتدياتها في سائر مناطق العراق "    
ويجد الباحث في هذه المضبطة فضلا عن التأكيد على أن يكون الحاكم مسلما ،يجد أن هناك تفكيرا متقدما من خلال الطلب في تنظيم المؤتمر الوطني لو صح التعبير والذي من خلاله يتم تشكيل الحكومة ،والأمر الآخر هو اليقين من أن التواصل مع الشعوب الأخرى ،وتسهيل السفر ،ودخول المطبوعات والمنشورات ، أي بمعنى يجب أن يكون هناك تواصلا ثقافيا بين الشعب العراقي ،وشعوب العالم ، وهو مفتاح من مفاتيح التقدم بطبيعة الحال ،كذلك أن التأكيد على إقامة المنتديات ، والجمعيات يعطي انطباعا أن من كتب هذه المضبطة لديه إلماما كاملا بما يدور حوله .
 في المقابل ينظر البريطانيون نفس النظرة الدينية إلى من قام بالثورة ، ويبدون تخوفهم من نية الثوار إقامة حكومة دينية مذهبية ،وهذا ما ذهبت إليه المس بيل بقولها "وكان هدف الحركة تأسيس دولة إسلامية ،إلا أن هذا الهدف ،فضلا عن الشعور الوطني الذي انتشر في العالم بعد الحرب والذي لا يمكن التقليل من شأنه ، كان يعني مختلف المعاني بالنسبة لمختلف طبقات السكان .فإنه كان في نظر المجتهدين الشيعة تأسيس دولة دينية تسير بموجب الشرع الشيعي " ،ولم تكتف المس بيل بهذا الطرح الديني الطائفي من ناحية أبناء المذهب الشيعي ،بل هي صرحت في فقرة أخرى أن المعارضين السنة أيضا يريدون حكما برئاسة الأمير عبد الله  ،وهذا خلط للأمور كبير ،ذلك أن من طالب بأمرة أحد أنجال الشريف حسين ،ولاسيما الأمير عبد الله هم أبناء القبائل في الفرات الأوسط ،لكن السياسة البريطانية مرسمّة على هذا الخط من البداية في العراق .إضافة إلى أن وجودهم هو غزوا عسكريا ،والنظرتين المتضادتين لطرفي النزاع فيما بينهما ،فإن هناك نظرة هي أيضا من الخطورة بمكان ،وهي نظرة الأعلى للأدنى وهذا ما يورده غسان العطية عن ما توصلت إليه حكومة الهند حول ما جرى  ويجري في العراق من عمليات مسلحة ضد القوات البريطانية أثناء ثورة العشرين ،فأولا أنها تصور الثورة ما هي إلا إرادة خارجية بأيدي عراقية حيث تذكر هذه الوزارة في تقييمها للأحداث، مايلي "1-ينبغي أن يتطلع العراق نحو وزارة الحربية من أجل العون .وليس العكس، وعلى فروع الاستخبارات في وزارات الخارجية والهند والحربية أن تتظافر في البحث عن بؤرة هذه المؤامرة " ،وبطبيعة الحال هم يستكثرون على الشعب العراقي ،وشعوب المنطقة أيضا ،أن يكون لهم موقف مضاد لتواجدهم ،وهذا نتاج الاستبداد الفكري ،لو صح التعبير ،وعن النظرة العلوية منهم لشعوب المنطقة ، أما الاستنتاج الثاني التي توصلت إليه وزارة الهند ،فهو يعزز هذا القول ،حيث تقول "2-يجب علينا أن نعرف أننا لانخوض في العراق معركة دستورية بشأن مستقبل الحكومة في البلاد ،بل نخوض معركة من أجل الحضارة ذاتها في الشرق الأوسط..." .
من هذه المواقف أيضا هو موقف ،وتحليل ويلسون عن الثورة ، والذي لا يخرج عن هذا الإطار ،حيث يقول في برقية له إلى مراجعه"في هذه الأثناء فإن إعلان شروط الصلح مع تركيا كان له كما متوقع تأثير غير حسن على : الرأي العام ،ومكن المتطرفين أن يؤلبوا إلى جانبهم عددا من موظفي العهد التركي السابقين وقسما كبيرا من الرأي العام الذين يرغبون بالحفاظ على الإمبراطورية التركية ويستهجنون استيلاء اليونان على بعض مناطقها .وبما أن ما جرى صادف وقوعه في بداية رمضان وتزامن مع جلائنا عن إنزلي ورشت ومع ما ذكرته الأنباء عن نجاح البلاشفة في مناطق أخرى من العالم ،فقد أتيحت للمتطرفين فرصة ... إظهارنا بمظهر السير على سياسة مناهضة للإسلام من جهة وبمظهر الضعيف الذي يتزايد ضعفه سريعا من جهة أخرى" ،علما أن هذه البرقية مؤرخة في الخامس من آب عام 1920 ،أي بعد مرور 37 يوما على الثورة .من هنا  يستطيع الباحث  أن يستنتج أن لا محال من الصدام ،ذلك أن ويلسون وهو الحاكم المدني في العراق لا زال غير مقر بأن للعراقيين طموحات سياسية تطلب الاستقلال كحال الشعوب الأخرى ،حتى الجانب الإيجابي يحوله إلى مثلبة ،فالتأثر بما يجري من أحداث في العالم ،ومحاولة السير على نهج الشعوب التي تحصل على حقوقها،هي سمة من سمات الشعوب الحية في حقيقة الأمر   ،لكن ويلسون ينطلق من تراكماته الثقافية ،فهو الحاكم المدني لبلد قد احتلته قوات بلاده ،وينظر إلى شعب هذا البلد من نظرة الحاجز الديني  ،وكما ذكرنا سابقا نظرة الأعلى إلى الأدنى . كبدت العمليات المسلحة للثوار القوات البريطانية خسائر فادحة ،كما أنها وضعت الحكومة البريطانية في وضع حرج جدا وصلت إلى المئات من القتلى ،والجرحى  ،والمفقودين ،وعشرات الأسرى  .أما الجانب العراقي فخسائره بطبيعة الحال تكون أكبر من حيث طبيعة أسلحة الجانب البريطاني المتطورة عمّا يمتلكه الثوار في واقع الأمر ،وقد دخل سلاح الجو كعامل مؤثر ليس على المقاتلين فحسب ،بل على القرى أيضا حيث أنزلت خسائر بشرية ومادية كبيرة ،لكن من المؤكد أن هذه الثورة وبعد الدماء التي سالت وهي في كثير من الأحيان تكون وسيطا مؤثرا لأجل إعادة التفكير في إعادة النظر في المتغيرات ،وربما في كثير من الأحيان حتى بالثوابت ،وعليه أن هذه الدماء أجبرت الحكومة البريطانية على عقد مؤتمر في القاهرة الذي تقرر فيه إقامة الحكومة الملكية بقيادة فيصل بن الحسين .لكن الخطوة الأولى التي اتخذتها السلطات البريطانية قبل انعقاد مؤتمر القاهرة هي تشكيل حكومة انتقالية أو مؤقتة  ، أو ما سميت بالوزارة النقيبية الأولى حيث رتبت الأمور وهيأتها لتتويج فيصل ، ولتثبيت ما تنوي بريطانيا إرسائه من سياسات في العراق ،ولاسيما أنها أسست للنهج الطائفي في العراق .إذاً هذه هي الظروف التي حتمت قيام ثورة العشرين .
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


رائد عبد الحسين السوداني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/07/07



كتابة تعليق لموضوع : ثورة العشرين
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net