ذكاء الإمام علي عليه السلام / ٢
يحيى غالي ياسين
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
يحيى غالي ياسين

صارت لدينا فكرة عن الذكاء من وجهة نظر علمية مادية اذا صح القول ، وكذلك عن الذكاء من وجهة نظر إسلامية .. والنظرتان قابلتان للجمع وغير متنافيتين ، كل ما هنالك أن النظرة الإسلامية تعمل على تهذيب الذكاء وتوجيهه الى أهدافه الحقيقية ومساراته الصحيحة ، وبعكسه فإن الذكاء يكون عند صاحبه درجة من درجات الغباء المستترة والخطيرة بنفس الوقت ..
ثم أن الأمر لا يقف عند التهذيب والتوجيه الصحيح ، وإنما يفتح الذكاء وفق المواصفات الإسلامية لصاحبة مجالات إبداع وتفوّق وعبقرية لا يمكن أن ينالها صاحب الذكاء الحرّ وغير المقيّد بقيود العقيدة والشريعة ..
ومن تلك الآفاق الجديدة للذكاء ، هو ذكاء الروح إذا صحّ التعبير ، فتتوفر لدى صاحبه أدوات ووسائط تعقّل ونظر جديدة في معالجة المسائل والانتقال من منطقة الجهل الى منطقة العلم والمعرفة .. في أمالي الطوسي : عن الإمام الباقر عليه السلام : ( اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ، ثم تلا هذه الآية : إن في ذلك لآيات للمتوسمين ) .
والقلب قابل الى أن يصبح عقلاً أيضاً عند الإنسان الذكي بذكاء الإسلام .. ويتدّخل في صناعة وتخمين التوقعات الصحيحة والصائبة لصاحبه ، نقرأ في الصحيفة السجادية : ( أشعر قلبي الإزدجار عن قبائح السيئات ، وفواضح الحوبات .. ) .
فإذا اقترن الذكاء بطاعة الله يكون عندها العبد مصداقاً لما ورد عنه (صلى الله عليه وآله) : ( قال الله تبارك وتعالى : ما يتقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ، ولا يزال عبدي يبتهل إلي حتى أحبه ، ومن أحببته كنت له سمعاً وبصراً ويداً وموئلا ، إن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته ) ..
***
فمن خلال نظرة سريعة لحياة أمير المؤمنين وسيرته والأخبار الواردة بحقه ، وكذا خطبه وكلماته وسائر شؤونه .. ومن خلال النظرة السريعة التي طرحناها لمفهوم وفلسفة الذكاء وفق الرؤية المادية والرؤية الإسلامية يتضح لنا أي ذكاء كان يتمتع به أمير المؤمنين عليه السلام ..
ولقد أجاد الكاتب المصري عباس محمود العقاد ببعض عبائره وهو يتحدّث عن عبقرية الإمام علي عليه السلام :
* فهو فارس يتلاقى في الشجاعة دينه ودنياه، وهو عالم يتلاقى في الدين والدنيا بحثه ونجواه .
* كان المسلمَ حق المسلم في عبادته ، وفي علمه وعمله ، وفي قلبه وعقله ، حتى ليصح أن يقال : إنه طُبع على الإسلام فلم تزده المعرفة إلا ما يزيده التعليم على الطباع .
* ويصح أن يقال : إن عليًّا - رضي الله عنه - أبو علم الكلام في الإسلام ، لأن المتكلّمين أقاموا مذاهبهم على أساسه كما قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة .
* ولنا أن نقول : إنه كان - رضي الله عنه - يتتلمذ للقرآن الكريم ، ويستوحيه نصّاً في عرفان إسلامه وتقرير إيمانه ، فكانت نظرته إلى الخلق والخالق نظرة قرآنية يبتكر ما شاء ابتكار التلميذ في الحكاية عن الأستاذ .
* فالإمام أحق لقب به ، وهو أحق الأئمة بلقب الإمام .
* تبقى له الهداية الأولى في التوحيد الإسلامي ، والقضاء الإسلامي ، والفقه الإسلامي ، وعلم النحو العربي ، وفن الكتابة العربية .. مما يجوز لنا أن نسميه أساساً صالحاً لموسوعة المعارف الإسلامية في جميع العصور ، أو يجوز لنا أن نسمّيه موسوعة المعارف الإسلامية كلها في الصدر الأول من الإسلام .
* أنه كان أقضى أهل زمانه ، وأعلمهم بالفقه والشريعة .
* ولا يتم القول في ثقافة الإمام علي - رضي الله عنه - ما لم تتممه بالقول في نصيبه من الثقافة العسكرية أو فن الحرب ، الذي هو مضماره الأول ومناط شهرته التي تبرز فيها صفة الشجاعة قبل كل صفة ، وكفاءة المناضل قبل كل كفاءة .
***
ولا بد من القول أن التعبير بلفظ ( ذكاء ) ثقيلاً على الكاتب قبل أن يكون ثقيلاً على بعض الأخوة القرّاء ، ولكن بأدنى تأمّل يمكن أن يزول هذا الامتناع الأولي ، أما بعد الانتهاء من الموضوع فإن الأمر بات مختلفاً بحسب ما أعتقد ..
وسبب عدم القبول الأولي لهذا اللفظ أمور نحتملها :
١. لعدم تداول واستعمال هذه اللفظ والمعنى مع المعصومين عليهم السلام ، في حين كلمات أخرى نتداولها ونبحثها بكل أريحية ، من قبيل شجاعة الامام علي وعلمه وقضائه وعبقريته ..
٢. المفهوم البسيط المستعمل للذكاء والذي نطلقه بكثرة على الأشخاص ، وخاصة على الطالب المجتهد بدروسه وأصحاب الأعمال والتجارات الناجحة والذين يجيدون بعض المهارات والمواهب اللفظية او الفنية أو الحرفية .. الخ ، أما بعد أن استنطقنا النصوص الشرعية في معنى الذكاء تبين لنا أمر آخر ، واتضح أن من يستحقه على نحو الحقيقة أناس آخرون ..
٣. قد تكون المشكلة في طبيعة اعتقادنا بائمة أهل البيت عليهم السلام ، بحيث نميل عادةً الى تجريدهم عن كل صفة بشرية ونريد أن نجعلهم أشخاصاً خارقين لنواميس الطبيعة ونواميس البشر .. وهذا ما دفعوه هم عن أنفسهم قبل غيرهم ..
٤. طريقتنا السائدة في تصدير شخصيات الإسلام والمذهب الى الآخر الديني والاخر المذهبي من حيثية غيبية بحتة ، وهذا لا ينجح الا عن طريق استعمال اللغة والمفاهيم التي يعرفها ويتقبلها الآخر ، بل نفس المسلم يريد هذه اللغة ايضا ، لأن القدوة والأسوة لا يكون كذلك الا أن يكون قابل للاقتداء والتأسي ..
نكتفي بهذا القدر وختامها مسك : قال الإمام علي ( عليه السلام ) : [ أكيس الأكياس من مقت دنياه ، وقطع منها أمله ومناه ، وصرف عنها طمعه ورجاه ] . غرر الحكم :
نسأل الله لنا ولكم أن يثبتنا على ولاية علي بن أبي طالب في الدنيا وشفاعته في الآخرة .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat