اشارات قرآنية من كتاب الامام الهادي عليه السلام للشيخ الكعبي (ح 3)
د . فاضل حسن شريف
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . فاضل حسن شريف

كل مجموعة من حلقات هذه السلسلة تنشر في أحد المواقع.
جاء في کتاب الإمام عليّ الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ للشيخ علي موسى الكعبي:عن مسائل يحيى بن أكثم روي أن المسائل الآتية رفعها ابن أكثم الى الامام عليه السلام مباشرة في مجلس ضمّه مع المتوكل وابن السكيت، وان الامام عليه السلام أملى أجوبة تلك المسائل الى ابن السكيت. وروي أن ابن أكثم تقدم بتلك المسائل الى السيد موسى المبرقع أخي الامام الهادي عليه السلام، ورفعها موسى الى الامام عليه السلام لعدم معرفته بها، ومهما يكن الأمر فأننا نعرض المسائل وأجوبتها لأهميتها في معرفة سبق الامام عليه السلام وتفوقه في العلم. ففي رواية عن موسى بن محمد بن الرضا عليهماالسلام قال: (لقيت يحيى بن أكثم في دار العامة، فسألني عن مسائل، فجئت إلى أخي علي بن محمد، فدار بيني وبينه من المواعظ ما حملني وبصرني طاعته، فقلت له: جعلت فداك، إن ابن أكثم كتب يسألني عن مسائل لأفتيه فيها ؛ فضحك، ثم قال: فهل أفتيته؟ قلت: لا لم أعرفها. قال عليه السلام: وما هي؟ قلت: كتب يسألني عن قول الله: "قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك" (النمل 40) نبي الله كان محتاجاً إلى علم آصف؟ وعن قوله: "ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً" (يوسف 100) سجد يعقوب وولده ليوسف وهم أنبياء؟ وعن قوله: "فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب" (يونس 94) من المخاطب بالآية؟ فإن كان المخاطب النبي صلىاللهعليهوآله فقد شك، وإن كان المخاطب غيره فعلى من إذا أنزل الكتاب؟ وعن قوله: "ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله" (لقمان 27) ما هذه الأبحر، وأين هي؟ وعن قوله: "وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين" (الزخرف 71) فاشتهت نفس آدم عليه السلام أكل البُرّ فأكل وأطعم، وفيها ما تشتهي الأنفس، فكيف عوقب؟ وعن قوله: "أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً" (الشورى 50) يزوج الله عباده الذكران، وقد عاقب قوماً فعلوا ذلك؟ وعن شهادة المرأة جازت وحدها، وقد قال الله: "وأشهدوا ذوي عدل منكم" (الطلاق 2)؟ جواب الامام الهادي عليه السلام: قال عليه السلام: اكتب إليه. قلت: وما أكتب؟ قال عليه السلام: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، وأنت ـ فألهمك الله الرشد ـ أتاني كتابك، فامتحنتنا به من تعنتك لتجد إلى الطعن سبيلاً إن قصرنا فيها، والله يكافيك على نيتك، وقد شرحنا مسائلك، فأصغ إليها سمعك، وذلل لها فهمك، واشغل بها قلبك، فقد لزمتك الحجة والسلام. سألت عن قول الله جل وعز: "قال الذي عنده علم من الكتاب" (النمل 40) فهو آصف بن برخيا، ولم يعجز سليمان عليه السلام عن معرفة ما عرف آصف، لكنه صلوات الله عليه أحب أن يعرف أمته من الجن والانس أنه الحجة من بعده، وذلك من علم سليمان عليه السلام أودعه عند آصف بأمر الله، ففهمه ذلك لئلا يختلف عليه في إمامته ودلالته، كما فهم سليمان عليه السلام في حياة داود عليه السلام لتعرف نبوته وإمامته من بعده لتؤكد الحجة على الخلق. وأما سجود يعقوب عليه السلام وولده فكان طاعة لله ومحبة ليوسف عليه السلام، كما أن السجود من الملائكة لآدم عليه السلام لم يكن لآدم عليه السلام، وإنما كان ذلك طاعة لله ومحبة منهم لآدم عليه السلام، فسجود يعقوب عليه السلام وولده ويوسف عليه السلام معهم كان شكراً لله باجتماع شملهم، ألم تره يقول في شكره ذلك الوقت: "رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث" (يوسف 102) إلى آخر الآية. وأما قوله: "فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب" (يونس 94) فإن المخاطب به رسول الله صلىاللهعليهوآله، ولم يكن فى شك مما أنزل إليه، ولكن قالت الجهلة: كيف لم يبعث الله نبياً من الملائكة، إذ لم يفرق بين نبيه وبيننا في الاستغناء عن المآكل والمشارب والمشي في الأسواق، فأوحى الله إلى نبيه: "فاسأل الذين يقرؤون الكتاب" (يونس 94) بمحضر الجهلة، هل بعث الله رسولاً قبلك إلا وهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ولك بهم أسوة، وإنما قال: "فإن كنت في شك" (يونس 94) ولم يكن شك ولكن للنصفة، كما قال: "تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين" (ال عمران 61)، ولو قال: عليكم، لم يجيبوا إلى المباهلة، وقد علم الله أن نبيه يؤدي عنه رسالاته، وما هو من الكاذبين، فكذلك عرف النبي أنه صادق في ما يقول، ولكن أحب أن ينصف من نفسه. وأما قوله: "ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله" (لقمان 27) فهو كذلك، لو أن أشجار الدنيا أقلام والبحر يمده سبعة أبحر وانفجرت الأرض عيوناً، لنفدت قبل أن تنفد كلمات الله، وهي: عين الكبريت، وعين التمر، وعين برهوت، وعين طبرية، وحمة ماسبذان، وحمة إفريقية، تدعى لسنان، وعين بحرون، ونحن كلمات الله التي لا تنفد ولا تدرك فضائلنا. وأما الجنة فإن فيها من المآكل والمشارب والملاهي ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وأباح الله ذلك كله لآدم عليه السلام، والشجرة التي نهى الله عنها آدم عليه السلام وزوجته أن يأكلا منها شجرة الحسد، عهد إليهما أن لا ينظرا إلى من فضل الله على خلائقه بعين الحسد، فنسى ونظر بعين الحسد، ولم يجد له عزماً. وأما قوله: "أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً" (الشورى 50) أي يولد له ذكور، ويولد له إناث، يقال لكل اثنين مقرنين زوجان، كل واحد منهما زوج، ومعاذ الله أن يكون عنى الجليل ما لبست به على نفسك تطلب الرخص لارتكاب المآثم "ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا" (الفرقان 68-69) إن لم يتب. وأما شهادة المرأة وحدها التي جازت، فهى القابلة، جازت شهادتها مع الرضا، فإن لم يكن رضا فلا أقل من امرأتين تقوم المرأتان بدل الرجل للضرورة، لأن الرجل لا يمكنه أن يقوم مقامها، فإن كانت وحدها قبل قولها مع يمينها. وأما الرجل الذي اعترف باللواط، فإنه لم تقم عليه بينة، وإنما تطوع بالاقرار من نفسه، وإذا كان للامام الذي من الله أن يعاقب عن الله، كان له أن يمن عن الله، أما سمعت قول الله: "هذا عطاؤنا" (ص 39).)
وعن الجبر والتفويض يقول الشيخ الكعبي في كتابه: الجبر هو الاعتقاد بنسبة أفعال العباد إلى الله تعالى، ويقول المجبرة: ليس لنا صنع، أي لسنا مخيرين في أفعالنا التي نفعلها، بل إننا مجبورون بإرادته ومشيئته تعالى، ويتبنى هذا الرأي الأشاعرة. والمفوضة يعتقدون أن الله سبحانه لا صنع له ولا دخل في أفعال العباد، سوى أنه خلقهم وأقدرهم، ثم فوض أمر أفعالهم إلى سلطانهم وإرادتهم، ولا دخل لأي إرادة أو سلطان عليهم، ويتبنى هذا الرأي المعتزلة. ويذهب أهل البيت عليهمالسلام مذهباً وسطاً بين الجبر والتفويض لا يتّصل بالجبر ولا بالتفويض، وهو الأمر بين الأمرين، أو المنزلة بين منزلتين. قال الشيخ المفيد: (روي عن أبي الحسن الثالث عليه السلام أنه سئل عن أفعال العباد، فقيل له: هل هي مخلوقة لله تعالى؟ فقال عليه السلام: لو كان خالقاً لها لما تبرأ منها، وقد قال سبحانه: "إن الله برئ من المشركين ورسوله" (التوبة 3) ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم، وإنما تبرأ من شركهم وقبائحهم).
وعن ابطال الجبر جاء في کتاب الإمام عليّ الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ للشيخ علي موسى الكعبي: فأما الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ، فهو قول من زعم أن الله جل وعز أجبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها، ومن قال بهذا القول فقد ظلم الله في حكمه وكذبه ورد عليه قوله: "ولا يظلم ربك أحداً" (الكهف 49)، وقوله: "ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد" (الحج 10)، وقوله: "إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون" (يونس 44) مع آي كثيرة في ذكر هذا. فمن زعم أنه مجبر على المعاصي، فقد أحال بذنبه على الله، وقد ظلمه في عقوبته، ومن ظلم الله فقد كذب كتابه، ومن كذب كتابه فقد لزمه الكفر باجتماع الاُمّة. ومثل ذلك مثل رجل ملك عبداً مملوكاً، لا يملك نفسه، ولا يملك عرضاً من عرض الدنيا، ويعلم مولاه ذلك منه، فأمره على علم منه بالمصير إلى السوق لحاجة يأتيه بها، ولم يملكه ثمن ما يأتيه به من حاجته، وعلم المالك أن على الحاجة رقيباً لا يطمع أحد في أخذها منه إلا بما يرضى به من الثمن، وقد وصف مالك هذا العبد نفسه بالعدل والنصفة وإظهار الحكمة ونفي الجور، وأوعد عبده إن لم يأته بحاجته أن يعاقبه على علم منه بالرقيب الذي على حاجته أنه سيمنعه، وعلم أن المملوك لا يملك ثمنها ولم يملكه ذلك، فلما صار العبد إلى السوق، وجاء ليأخذ حاجته التي بعثه المولى لها، وجد عليها مانعاً يمنع منها إلا بشراء، وليس يملك العبد ثمنها، فانصرف إلى مولاه خائباً بغير قضاء حاجته، فاغتاظ مولاه من ذلك وعاقبه عليه، أليس يجب في عدله وحكمه أن لا يعاقبه، وهو يعلم أن عبده لا يملك عرضاً من عروض الدنيا، ولم يملكه ثمن حاجته، فإن عاقبه عاقبه ظالماً متعدياً عليه مبطلاً لما وصف من عدله وحكمته ونصفته، وإن لم يعاقبه كذب نفسه في وعيده إياه حين أوعده بالكذب والظلم اللذين ينفيان العدل والحكمة، تعالى عما يقولون علواً كبيراً. فمن دان بالجبر أو بما يدعو إلى الجبر فقد ظلم الله، ونسبه إلى الجور والعدوان، إذ أوجب على من أجبره العقوبة، ومن زعم أن الله أجبر العباد فقد أوجب على قياس قوله إن الله يدفع عنهم العقوبة، ومن زعم أن الله يدفع عن أهل المعاصي العذاب، فقد كذب الله في وعيده حيث يقول: "بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" (البقرة 81)، وقوله: "إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً" (النساء 10)، وقوله: "إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزاً حكيماً" (النساء 56) مع آي كثيرة في هذا الفن ممن كذب وعيد الله. ويلزمه في تكذيبه آية من كتاب الله الكفر، وهو ممن قال الله: "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون" (البقرة 85). بل نقول: إن الله جل وعز جازى العباد على أعمالهم، ويعاقبهم على أفعالهم بالاستطاعة التي ملكهم إياها، فأمرهم ونهاهم بذلك ونطق كتابه: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون" (الانعام 160)، وقال جل ذكره "يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه" (ال عمران 30)، وقال: "اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم" (غافر 17) فهذه آيات محكمات تنفي الجبر ومن دان به، ومثلها في القرآن كثير، اختصرنا ذلك لئلا يطول الكتاب، وبالله التوفيق.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat