حميد سعيد : صيّاد طرائد المعنى..
جواد الحطاب
جواد الحطاب
1
يحتاج التوغل في العالم الشعري لـ”حميد سعيد” الى التسلّح بعدّة غير مألوفة التأويل والكشوفات .
فشاعر بضخامته، وبتعدّد منجزه – شعرا ونثرا- حين تحاول الإبحار معه سيوقعك في منطقة الحرج النقدي أو “القرائي” في الأقل، ولذلك عليك الا تنظر الى قامته الخارجة من بحر “الأجيال الشعرية”، بقدر ما عليك ان تفتش عن “الجذر” الذي ارتقى به حتى بدت قامته العالية، متلاصفة تحت شمس الابداع العراقي والعربي.
والـ”جذر” هنا هو ما استندت اليه إقترافاته الشعرية، من تواريخ، وثقافات، ومدن، وجغرافيا، ومواقف، وفلسفة، ودلالات “حمّالة أوجه” تعالى منسوبها في نصّه الجديد حتى غدت معادلا موضوعيا له، ولتجربته.
( أيكون ابا مصعب، نديم “ريلكه” حين كتب الشاعر الألماني تعاليمه للشعراء الذين يسعون لإرتكاب قصيدة ، فقال لهم ” من أجل أن تكتب سطرًا شعريًا واحدًا، ينبغي أن تكون شاهدت العديد من المدن، من البشر، والكثير من الأشياء، ينبغي أن تتعرّف على الحيوانات، وأن تستشعر كيف تحلّق الطيور، تعرف تلك النّقلات التي تجترحها الزّهرات الصّغيرات، وهنّ يتفتّحن عند الصّباح “).
حميد سعيد
2
.. ومع انه قد خرج من منطقة ضبابية ملتبسة أطلق العديد من النقاد على فرسانها اسم (شعراء الجيل اللصيق) او “الجيل الخمسيني” الذي مثّل بعضهم “ريادة ثانية” بعد ريادة السياب، (على سبيل المثال لا الحصر، سعدي يوسف – يوسف الصائغ- عبد الرزاق عبد الواحد – رشدي العامل.. و…)
الا ان ملامح شعريته الأولى، السيّابية الهوى، باعترافه هو (انا سيابيٌ عريق، تفتَّحت تجربتي في كتابة القصيدة الجديدة، على ما كتبه السياب من شعر، وهو الذي قادني إلى فضاء التجديد – حوار معه في جريدة الزمان).
كانت ملفتة للإنتباه وتلقفتها الدراسات النقدية، بما يستحق وبما تستحق معه الظاهرة “الستينية” والتي قال عنها الشاعر الكبير سامي مهدي، بأن (جيلها أحدث تحوّلا ملموسا في الشّعر العراقي، ووضعه في إطار الحداثة الحقيقية – الموجة الصاخبة).
وصدق الأستاذ مهدي، فيما قاله، فقد أدّت التجربة الستينية الى نتائج مهمة منها، أو في أولها “المغايرة” على صعيد الشكل والمضمون، وكان في لبّ مغايرتها منجز “حميد سعيد”، لأن شاعريته لم تتعلق بالشكل الخارجي فقط، او تجميع “موتيفات” يشتغل الشاعر على “توليف” عناصرها ليخرج لنا ما يطلق عليه – جراءة- اسم قصيدة او نص، فالمتراكم من اصداراته، حدّد له ملامح غير تلك التي إبتدأ بها، فاختلطت العفوية والتلقائية –الأولى- مع رياح “حداثوية” جديدة أخذت تقود لغته وأسلوبه بعيدا عن “رتابة التفعيلة” التي حكمت اغلب نتاج “الشعراء الروّاد”، فحلّقت نصوصه الى مناطق جمالية مفتوحة الأفق ومدهشة الإبتكار، حيث السرد، والدراما، والمسرح، والفنون التشكيلية.
نوع من التأمل العميق، تحتاج معه الى مراقبة موقع انظارك، والى ظلال الكلمات المتشابكة مثل غابة، والمفتوحة الابواب كساحات كرة القدم في المناطق الفقيرة..
وبينما الإغتيالات تتزاحم والتظاهرات تحت جدارية جواد سليم، وفضاء مأساوي تتحرّك فيه نصوصه بعد احتلال بغداد، يتمدّد غنى قاموسه الشعري، وثراؤه، في دواوينه الأخيرة ( دواوين ما بعد الإحتلال) ليحاول ان يترجم حجم الفاجعة،
…
سبعةُ كُهّان من أورْ
سبعةُ حكماءٍ من بابلَ… سَبعُ أميراتٍ من آشورْ
ضاعوا في ظلموتِ الماءِ المسجورْ
وافترقوا في اللحظات المجذومةِ.. مسمولينَ بأيدي الأوغادْ
لا أحدٌ.. يسأل عن بغداد
لا أحدٌ يسألُ عن بابل.. عن أور.. وعن آشورْ
…
في مثل هذا الجو الرثائي، يلوذ ابن بابل برهانه على أفق عراقي مفتوح على المفاجآت، وعلى ما تخبئه بابل – منذ القديم- لأعدائها من دهشة وانتماء
:
( دعيني في هذا الملكوت.. أُروِّضُ أحزاني..
وأُعلِّمُها .. كيف يكون الحزنُ أخاً
والحنظلُ عسَلاً.. والسُمُ دواءْ
انتظريني.. سأعودُ إليكِ..
معي..طينُ المشخابِ وعَنبرهُ..
والبَرحيُ البصريُ وخوخ ديالى المسكيُّ
انتظريني..
سَيُرافِقُني شطُّ الحلَّةِ.. يغسِلُ فَرعّكِ والقدمينْ) .
3
المتشاعرون الذين يراجعون “العيادات النقدية” بحثا عن “وصفة” ابداعية علّها تصنع ولو “تنفسا اصطناعيا” لنصوصهم الميّتة سريريا .
سيرجمهم حضوره الذي تأوي اليه الكلمات،
حضوره الذي يعليه منفردا، وليس تابعا فردا..
وتحت نداء لوعته الى الأم، والحبيبة، وارض الوطن .
به توق الى القطعة الصغيرة المطلة على نهر الحلة، ليتشمس تحت ظلال نخيلها، وغابات عينيها ، والمطر، وأعوامه الثمانين.
فـ :
( البردُ شديدٌ في عمّانْ..
والرجلُ السبعينيُّ.. يدبُّ على غير هدى..
يتدفَّأُ بالسعي إلى حيث.. سيلقى الأصحابْ
وعندَ البابْ
يتذكَّرُ.. أيام البرد ببغدادْ..
وهي ترافقه.. أينَ هي الآن؟
كانت تضحكُ.. حين يناديها.. فرط الرمانْ
وهل ظلَّ البردُ هناك.. كما كانْ؟
أم هاجرَ..؟
كي يبحث عنها.. في كل مكان)؟
….
….
….
ستأتيك بغداد يا ابا مصعب
وستأتيك بابل بقطار “مربد البصرة”
ويأتيك العشّاق بـ”شكابين” الدفء
ففي أيام العراق الكثير والكثير من الشموس
التي يستفزها برد الشعراء يا أبا مصعب.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat