المأتم الحسيني واثره بالنهضة الحسينية
عزيز الفتلاوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
استعرض اغلب الكتاب مسيرة النهضة الحسينية المباركة ، وقد قرأنا من التفاصيل التي طرحها الاخوة في موقع كتابات في الميزان والتي كانت تتمحور حول خلاص الإنسان وتحقيق كرامته ، وإعادة حقوقه المغتصبة ، وتوفير حريته الممتهنة من قبل نظام دكتاتوري فاشي ، ارتدى ثوب الثيوقراطية ، فشوّه صورة القيم الإلهية ، والمنظومة التشريعية الإسلامية التي شاء الله تعالى من خلالها قيام حياة حرة كريمة ، تسود فيها العدالة الإلهية في الأرض ، وتتكافأ فيها الفرص ، لبني الإنسان ، وتستبعد فيها حالة استعباد الإنسان للإنسان ، وليسود فيها الشرع ، والقانون الإلهي فحسب ، ويتحوّل الحكم فيها إلى عقد اجتماعي بين الأمة والحاكم ، لكي يحقق مصالح الناس ، وفق الشريعة الربانية الهادية ...
وهكذا شاء الحسين بن علي سبط رسول الله (صل الله عليه وآله وسلم ) أن يحقق ذلك من خلال حركته المباركة ، إلاّ أنه (عليه السلام) أراد أن تتحقق أهداف هذه النهضة الكريمة من خلال الإنسان نفسه وقناعته ، ورضاه ، دون فرض ، أو إكراه ، كما تبين ذلك من خلال رسائله ، وحواره مع الناس ، وتجاوبه مع دعوة جماهير الكوفة له ، وإرساله سفيره مسلم بن عقيل ( ع ) لدراسة الموقف عن كثب ... فكان تجديد هوية المسلمين ، وإحياء قيمها ، ومفاهيمها في وعي الناس وعقولهم ، أهم أهداف الإمام الحسين (ع ) في هذه الحركة التي باشر قيادتها ... وحينما نقرا مسيرة خروجه المبارك ، وهو يتحدث عن هذه القضية ، ويرسخ أقدامها في حياة الناس : (( وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً ، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (ص) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي ابن أبي طالب ، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ومن ردّ عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين )) .
ومن الأمور المركزية التي عمل الإمام المصلح من أجلها : إصلاح المنهج السياسي عند الناس ، وإعادة القيم الإسلامية الخاصة بالحاكم إلى دنيا المسلمين التي تؤكد إن الحاكم في الإسلام : أمين الأمة ، ووكيل عنها في إجراء الدستور ، وإقامة العدل بين الناس ، وهو الذي يحفظ هوية الأمة التي رضيت به حكماً ، فلا يخالف قيم الرسالة ، ولا مصالح الجماهير ، ولا يفتئت عليها ، وليس للحاكم في الإسلام حقوق إضافية ، في مال ، أو جاه ، أو مكانة على حساب الأمة ، وفوق حقوقها المفترضة ، مادية كانت أو معنوية . .
ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب،القائم بالقسط ، الدائن بدين الحق ، الحابس نفسه على ...
من هذه المقدمة البسيطة التي حاولنا بها ان نسطر بعض افكار النهضة الحسينية الخالدة لنرى ... أن القادة المصلحون هدفهم تغيير المجتمع بتغيير الحاكم الجائر ، او بتغيير حالة النوم والسبات التي يحاول ان يفرضها الطغاة على المجتمع بإشاعة ثقافة القتل والهاء المجتمع بمغريات مادية ... لذلك كانت الهزة الوجدانية التي اطلقها الحسين بقوله (( هيهات منا الذلة )) انتصرت على مدى التاريخ الاسلامي والتي استغلها اغلب الثوار في مجتمعات اسلامية و غير اسلامية فكان عدم الخضوع للطغاة مهما كان جبورتهم هو الدافع المستمد من انتصار الدم على السيف .
فكانت ظاهرة المواكب الحسينية والتي هي ليست ظاهرة آنية او وليدة الحاضر الراهن وليست لنتاج ظروف اجتماعية راهنة منعزلة عن الواقع الاجتماعي والثقافي والفكري ، فتذكر المصادر التاريخية أن أول من أقام الموكب الحسيني هو الامام السجاد عليه السلام حينما اقام مأتم للعزاء مع أهل بيته الاطهار ... وممّا ورد في التّأصيل لبعض ممارسات العزاء الحسينيّ ما ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) عن كيفيّة إقامة هذه المراسيم أنّه قال لأحد أصحابه: (( يا علقمة، واندبوا الحسين (عليه السلام)، وابكوه، وليأمر أحدكم من في داره بالبكاء عليه، وليقم عليه في داره المصيبة بإظهار الجزع والبكاء، وتلاقوا يومئذٍ بالبكاء بعضكم إلى بعض في البيوت وحيث تلاقيتم، وليعزِّ بعضكم بعضًا بمصاب الحسين (عليه السلام)، قلت: أصلحك الله، كيف يعزَّي بعضنا بعضًا. قال: تقولون أحسن الله أجورنا بمصابنا بأبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، وجعلنا من الطّالبين بثأره مع الإمام المهديّ (عليه السلام) إلى الحقّ من آل محمد (صلّى الله عليه وآله)، وإنْ استطاع أحدكم أنْ لا يمضي يومه في حاجة، فافعلوا، فإنّه يوم نحس لا تقضى فيه حاجة مؤمن، وإنْ قضيت لم يبارك فيها، ولم يرشد، ولا يدّخرن أحدكم لمنزله في ذلك اليوم شيئًا، فإنّه من فعل ذلك لم يبارك فيه، ثم أضاف الإمام (عليه السلام): أنا ضامن لِمَن فعل ذلك له عند الله (عزّ وجلّ) ما تقدّم به الذِّكر من عظيم الثّواب، وحشره الله في جملة المستشهدين مع الحسين ))
فانبرى الشعراء الشعبيون في وقتنا الحاضر لاستغلال هذه المواكب الحسينية الخارجة لتعزية الامام صاحب العصر والزمان ( عج ) بزيارة قبر جده الحسين عليه السلام مرددة الهتافات والشعارات بما يعرف عند الكربلائيين (( بالردات )) لتصحيح بعض المسارات عند الحكومات المتسلطة او الجائرة او الغافلة عن اتباع الحق .
لتخرج تلك الكلمات بكل عفوية والتي تخاطب المسلم وغير المسلم لتجسيد موقف معين حصل ... مستمدين هذه الردات من نهضة الامام الحسين عليه السلام متذكرين دائما ان الطغاة تذهب وتبقى كربلاء تعلوا بمآذنها الذهبية وشمخوها بوجه الجبروت والتسلط والانحراف .
كما انها تؤكد على الالتزام بالقيم والمباديء الاسلامية وبالثوابت التي اقرها ديننا الحنيف لتذكرنا دائما باحكامه نتيجة المحاضرات التي تلقى في تلك المواكب من قبيل مراعاة الحشمة ، ومراعات الحلال والحرام ونبذ الفسق والفجور ، واعطاء الحقوق لاصحابها ، وقد يقول قائل ان هذه الشعارات والمحاضرات الدينية تنسى بعد انتهاء شهر محرم الحرام نذكرهم بقول الرسول الكريم ( صل الله عليه وآله وسلم ) لأن يهدي الله بك رجلا خير مما طلعت عليه الشمس
لذا فأن الموكب الحسيني او كما يسميه البعض المأتم الحسيني ونتيجة للتطور الحاصل ( اجتماعي وسياسي وثقافي وحضاري ) قد ساهم في تطوير المجابهة الاعلامية ومقارعة الظلم ، والذي يعتبر اقوى وسيلة اعلام في الوقت الحاضر لتجسيد ثورة الحق ضد الباطل .
لذا ندعو الى الاهتمام بالمواكب والمآتم الحسينية من الناحية المعنوية والمادية وتطويرها باقامة اماكن ثابته لها حيث تلاقي جهود الخيرين حملات عنيفة من قبل اوساط كثيرة كانت ترى في عملية التغيير تهديدا اليها والتاريخ ليس ببعيد عندما حارب مجرم العصر تلك المواكب والمآتم والتي حاول ان يمحيها الا انها بقت صامدة بوجه الرياح العاتية المتخلفة والناهجة لفكر يزيد شارب الخمر وابيه معاوية وامه آكلة الاكباد .
والعاقبة للمتقين