صفحة الكاتب : محمد الحمّار

هل سنتحرر دون أن تتحرر الدولة؟
محمد الحمّار

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

من الآثار السيئة للتسيب التحرري الذي تعرفه تونس منذ تحولات 14 جانفي 2011، نجد الانفلات الفكري. وهو الذي يتبوأ مرتبة الصدارة في قائمة الانفلاتات. والظاهرة السلفية هي النسخة الراهنة التي ينعكس فيها هذا الانفلات. بل ربما ينحصر فيها باعتبار الشح في الدراسات في هذا المجال وما يليه من شح في المقاربات المعتنية بإيجاد الحلول لها. أما إن افترضنا جدلا أن ترويض الانفلات السلفي سيفضي إلى تقلص الانفلات الفكري ككل ومن ثمة إلى القضاء نهائيا على كل الانفلاتات، فلا نرى بدّا من تنظيم العمل التحرري لكي يقع الترويض من باب أولى. لكن من سيقوم بالتنظيم، الدولة أم المجتمع المدني؟ المثقفون أم السياسيون؟

لنتفق أولا على أنّ التنظيم ليس قمعا ولا تسلطا. إنما هو عمل يهدف إلى خندقة كل غرض تحرري دون سواه في الخانة المناسبة له دون سواها. إذ إنّ الذي تشهده الساحة الفكرية والسياسية اليوم إنما هو خلط رهيب في الأدوار. فكل المواطنين جربوا، ذهنيا وتصوراتيا وممارساتيا، أن يكونوا رؤساء تارة و وزراء  طورا، أعضاء المجلس التأسيسي تارة وإعلاميين طورا، مناضلين ونشطاء في الصباح ومحللين سياسيين في المساء، سلفيين في يوم الجمعة وعربيديين في يوم السبت، مُلتحين في الصباح و مُلْطٌ في الليل. والمسؤول عن هذه العربدة الشاملة هم قائدة الرأي أو بالأحرى غيابهم من الساحة، ومن باب أولى غياب الحرية والمنهج التحرري الصائب. وإلا ما الذي جعل المشكلات تعرض نفسها أمام أعيننا على أنها بين إسلامية وعلمانية و بين سلفية وتقدمية وبين ماضوية وتنوير وبين الدولة الدينية والدولة المدنية، وهلم جرا؟ وهل الحرية منشطرة بالأساس؟
إن العرض الأقرب للواقع هو أن يقال إن التاجر صار يمتهن الوعظ والإرشاد وسائق التاكسي يشتغل دليلا للسياحة، عفوا للسياسة، والنادل بالمقهى يعمل مزودا للألعاب الورقية وللأوراق السياسية، والمعلم يمتهن التجارة الحرة والطبيب يضطلع بمهام القابض للأداءات، ورئيس الحزب السياسي يتحول إلى رئيس نادي الكرة مثلما تحول لاعب الكرة إلى وزير، وهلم جرا. في المقابل لا ضير في أن يرى التاجر الدينَ من منظوره كتاجر، والسائقُ والنادلُ السياسةَ من منظور مهنتهما، والمعلمُ التجارةَ من زاوية التعليم، والطبيبُ الجبايةَ بضمير الطبيب، والسياسيُّ ألعابَ الكرة بمهارات سياسية، والرياضيُّ الوزارةَ بعقلٍ رياضي. إنما تكمن المشكلة في تطابق ذهن صاحب الحرفة مع حرفة غيره ابتغاء افتكاكها منه فكا. والذي يحدث كنتيجة لهذا الانقلاب العدواني في الأدوار هي سلسلة من ردود الفعل العنيفة والمنقلبة. هكذا ليس المرء سلفيا لأنه يقتدي بالسلف الصالح بل لأنه مُبرمجٌ نفسه ليعوّض صاحب دورٍ من الأدوار. وليس الذي ينادي بالدولة الإسلامية مثالا يُحتذى به في التديّن بل هو مناهض لنظيره المحتكر لفكرة المدنية، مما يحثه على انتهاج سلوك مضاد له عنوة، إلى آخر السلسة (إن كان لها آخر). كلٌّ يفتك دور الكلّ ولا أحد يقوم بدوره.
وللحرية دور عظيم في فك هذا الاحتقان الذي يترتب عن الالتباس في الأدوار. و"كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته" (حديث صحيح) من القواعد الذهبية المسندة للحرية المنظمة. فما هو دور الدولة إن هي نفسها راحت ضحية هذا الصنف من الالتباس بأن تركت الأمر للأفراد وللجماعات بأن يعوضوها في ما ليس من مشمولاتهم؟ إنّ أول دورِ يتوجب عليها الاضطلاع به هو تحرير تلكم القوى، الفردية والجماعية، التي تمارس التسلط التعويضي للدولة. فبتحرير هؤلاء تتحرر هي. والعكس صحيح أيضا.
 ويبدأ تحرير الفرد والمجتمع بمسك الدولة بزمام المهمة التنظيمية للدور الفردي والمجتمعي. والمدرسة والمسجد والإعلام هي مجالات العمل الثلاثة لهذه الدعوة التواصلية الضرورية بإشراف الدولة: لا بد أن يكون التوجه التنظيمي موجودا كواحد من المرتكزات ضمن مناهج التعليم وضمن الخطب الدينية وضمن الأدبيات الصحفية.
محمد الحمّار
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد الحمّار
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/06/20



كتابة تعليق لموضوع : هل سنتحرر دون أن تتحرر الدولة؟
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 

أحدث التعليقات إضافة (عدد : 1)


• (1) - كتب : ************* ، في 2012/09/30 .

*************






حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net