يقول السيد نبيل الحسني في كتابه سبايا آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الأثر التوثيقي: إن حادثة بحجم يوم عاشوراء تحتاج إلى مجموعة من الشواهد التوثيقية تتناسب مع حجم تلك المأساة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إن قضية التوثيق هي في حد ذاتها معركة تدور رحاها بين كلا الخصمين اللذين شهدت أرض الطف ما جرى بينهما. فبنو أمية حرصوا أشد الحرص على طمس هذه المأساة وإخفاء تلك الجرائم التي ارتكبها جيش عمر بن سعد وقادة الجيش وعامة الجند وبالطبع هي حالة ملازمة لكل جريمة وقعت منذ أن قتل قابيل أخاه هابيل، فقد سعى لإخفاء آثار جريمته فأخذ يبحث عن وسيلة تنفعه في إخفاء جريمته وضياع كل ما من شأنه أن يوثق هذه الحادثة. ولولا حرمة هابيل عند الله لما كان هناك ما يدل قابيل على دفن أخيه، قال تعالى: "فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُواري سَوْأَةَ أَخيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمين" (المائدة 31). فنشأت عند ذلك حالة نفسية تجذرت في النفس البشرية إلى قيام الساعة. ولذا: جهد بنو أمية على طمس آثار مأساة الطف وكسب معركة التوثيق حينما يكون الشهود هم ممن تم تصفيتهم سواء أكانوا موالين أم مخالفين. في المقابل: كان الإمام الحسين عليه السلام قد أعد العدة لتلك المصادر التوثيقية حينما أخرج عياله وأطفاله إلى كربلاء وعلى رأسهم الإمام زين العابدين وولده الإمام الباقر عليهما السلام فضلاً عن بنات النبوة.
ويقول السيد الحسني في كتابه عن ترسيخ حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد انتهاكها وتثبيتها في نفوس المسلمين: إنّ من الحقائق التي كشفتها واقعة الطف في يوم عاشوراء اعتقاد الناس بذهاب حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته إلى المستوى الذي شهدته كربلاء من سفك دماء ولده وسبي بناته فلم يشهد حينها دين من الأديان هذا الحد من التجري على الله وأنبيائه ورسله. ولعل البعض يستغرب من هذه الحقيقة مستبعداً إن ذلك الاعتقاد كان سائداً في المجتمع الإسلامي لاسيما وكما أسلفنا إننا نتحدث عن أناس كانوا بحسب الموازين الحديثية أنهم أبناء أهل غير الأزمنة، فهم اتباع السلف الصالح ومن ثم كيف يمكن أن يكون هؤلاء صلحاء وهم قد تجروا على الله تعالى ورسوله بتلك الانتهاكات للحرمة؟ فإما أننا نقرأ هذه الوقائع وهي تتحدث عن أناس لم يعرفوا الإسلام ولم تسمع آذانهم باسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهم غرباء عنه، فكيف لهم أن يؤمنوا به؟ وأما أننا أمام حقيقة مرة تؤكد أن هؤلاء عرفوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسمعوا حديثه إلاّ أنهم لم يؤمنوا به، بل حقدوا عليه أشد الحقد وبغضوه وحاربوه حيا وميتاً، بل إن حربهم له صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته أشد بكثير من حربهم له في حياته، وذلك لخوفهم من الافتضاح. قال تعالى: "يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما في قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُون" (التوبة 64). ولذا: فحينما شاء الله تعالى: (ان يراهن سبايا) كان من مصاديق هذه المشيئة إظهار ما كان المنافقون يحذرون من كشفه فأخرجه الله تعالى في يوم عاشوراء وغيره. كما نصت الآية المباركة. كانوا سراعاً في انتهاك هذه الحرمة وأخذ الثأر منه ببنيه وذريته فأول ما بدأوا به هجومهم على دار ابنتة فاطمة واقتحامه وجمع الحطب على بابها وحرقها.
وعن التلازم بين حرمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحرمة أبنائه وذريته يقول السيد نبيل الحسني في كتابه: بعد هذا الزلزال الذي أحدثته العقيلة زينب عليها السلام في أرض تلك القلوب المتحجرة تأتي السيدة أم كلثوم بأداة لعلاج تلك القلوب، وذلك من خلال بيان التلازم فيما بين حرمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحرمة أهل بيته وأبنائه وذريته فقالت عليها السلام: (صه يا أهل الكوفة تقتلنا رجالكم، وتبكينا نساؤكم، فالحاكم بيننا وبينكم الله يوم فصل الخطاب. يا أهل الكوفة سوأة لكم، ما لكم خذلتم حسيناً وقتلتموه وانتهبتم أمواله، وسبيتم نساءه ونكبتموه، فتباً لكم وسحقاً، ويلكم أتدرون أي دواه دهتكم وأي وزر على ظهوركم حملتم، وأي دماء سفكتم وأي كريمة أصبتموها وأي صبية أسلمتموها وأي أموال انتهبتموها قتلتم خير الرجالات بعد النبي ونزعت الرحمة من قلوبكم ألا إن حزب الله هم المفلحون، وحزب الشيطان هم الخاسرون). فضج الناس بالبكاء ونشرن النساء الشعور وخمشن الوجوه ولطمن الخدود ودعون بالويل والثبور فلم ير ذلك اليوم أكثر باك. وهنا: نرى بوضوح حقيقة هذا التلازم في الحرمة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذريته وما يرتبط بهم من أموال وممتلكات وأعراض التي فرضت حولها الشريعة الإسلامية حدوداً كثيرة توجب على المسلم الالتزام بها وعدم التعدي عليها "وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُون" (البقرة 229).
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat