اسس اصطفاء الافراد والجماعات في القرآن الكريم عبد الستار الجابري : ح(24) انهيار الامبراطورية
السيد عبد الستار الجابري
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
السيد عبد الستار الجابري

بعد رحيل النبي (صلى الله عليه واله) واستلاب قريش للحكم واقصاء علي (عليه السلام)، رغم ان النبي (صلى الله عليه واله) طيلة ايام حياته كان يبين للأمة ان الإمامة بعده لعلي (عليه السلام) فهو المصطفى من الله وهو من اهل البيت الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً وهو الثالث في ترتيب الولاية الإلهية كما قال تبارك اسمه في كتابه العزيز ﴿انما وليكم الله ورسوله والذين امنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون﴾ وكما صرح القرآن الكريم أنه نفس رسول الله (صلى الله عليه واله) في آية المباهلة، وتواتر عن النبي (صلى الله عليه واله) انه قال له (انت مني بمنزلة هرون من موسى الا انه لا نبي بعدي) كما تواتر عنه (صلى الله عليه واله) انه قال (اني مخلف فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي ابدا كتاب الله وعترتي اهل بيتي وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)، فالقرآن والرسول (صلى الله عليه واله) يصرحان بأن امام الامة بعد النبي (صلى الله عليه واله) هو علي (عليه السلام) وان الناس يجب عليها ان تكون تبع له، وهذه سنة الله تعالى في الإصطفاء في الخلق، حيث إختار من خلقه عباداً اصطفاهم ليكونوا منار الهدى والادلة على الله والآخذين بيد العباد لينقذوهم من الظلمات ويأخذوا بأيديهم النور والهدى، إلا ان الناس تأبي عن ذلك، فتلك سنة الله في الخلق وهذه الحتميات الاجتماعية المنبثقة عن النفس الامارة بالسوء، فاقصي علي (عليه السلام) عن ادارة شؤون الأمة، ثم اخذت الناس تعود اليه شيئاً فشيئاً بعد ان ندموا على ما ارتكبوه بحقه إلا ان ذلك كان بعد فوات الاوان، فلم يختلف العرب عن بني اسرائيل في ما وقع منهم، فبنوا إسرائيل إتبعوا هواهم ولم يغب عنهم موسى (عليه السلام) سوى اربعين يوماً، فخالفوا هرون (عليه السلام) واتبعوا السامري وعبدوا العجل وما كان ذلك إلا لما ترسخ في قلوبهم عبر القرون من اتباع الهوى ونزوات النفس، فكذا الحال في قريش والعرب ما ان اغمض رسول الله (صلى الله عليه واله) عينه حتى انقلبوا على أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) واقتحموا عليه داره واحرقوا عليه بيته وانتهكوا حرمته وحرمة بنت رسول الله وسبطيه، وهددوه بالقتل ان لم يمض ارادة قريش، فتمكنت قريش من رقاب الأمة، وعلمت قريش ان هذه البلاد الواسعة لا يمكن ان تدين لهم مالم يحتفظوا بمظاهر الأمر الذي وحدهم وهو الاسلام، فابقوا الاسلام عنواناً لتحكم به الأمة، وقد بلغ من الجرأة بخط قريش ان يتناولوا الأحكام بالنقد ثم يقولوا كان هذا اجتهاد من رسول الله (صلى الله عليه واله) وغيره مجتهد رأى رأيه، بل تعدى الأمر الى ان يقدم رأي غير النبي (صلى الله عليه واله) على ما جاء به النبي (صلى الله عليه واله) وكأن لغير النبي (صلى الله عليه واله) من الجدارة ما يتحقق به نسخ قول رسول الله (صلى الله عليه واله)، حتى روى الطبرى ان احد القرشيين في ايام الحج وقد اهل علي (عليه السلام) بالعمرة، قال من يعذرني في علي (عليه السلام) فقال علي (عليه السلام) ما كنت تاركاً سنة رسول الله (صلى الله عليه واله) لقول احد.
فأخذت قريش تتلاعب بسنة رسول الله (صلى الله عليه واله) فتمنع من تدوينها وروايتها، وتمنع من تفسير القرآن وتعليمه، وتصدر الأحكام على طبق اهوائها فتحرق من تشاء مع انه لم يرد في احكام الشريعة حرق الناس وتسبي نساء المسلمين وتعفوا عمن ينزوا على ارامل المسلمين، وتحكم على اساس الهوى، وتتلاعب باموال المسلمين كما تشاء، وتحولت من أمة ينتظر منها حمل راية الاسلام لنشرها في الأرض طاعة لله ووفاء لرسوله (صلى الله عليه واله)، الى أمة تغير على اموال الامم والحضارات والاخرى، فتحولت الأمة البدوية من غزو بعضها البعض الى غزو الأمم المجاورة لها فامتد سلطانها في شرق الارض وغربها وانهارت تحت سنابك خيلها امبراطوريات لها عمقها التاريخي، وهي سنة التاريخ إن الامم تشيخ كما يشيخ الافراد، وقد جاء عنفوان بدو الجزيرة في وقت خريف الأمم المجاورة فعدو عليها بما لهم من طاقات جديدة وروح شابة، ليدمروا ببداوتهم تاريخ تلك الأمم وحضاراتها وينهبوا اموالها وما بنته عبر القرون فاحرقوا اعظم مكتبتين احداهما في بلاد فارس والاخرى في الاسكندرية، واصبح الذهب والفضة في خزائن اكابر قريش يكسر بالفؤوس وغدو يملكون ما لا يملك قارون من الخيل والابل والاغنام والعبيد والاراضي والقصور، فتحولوا الى الحالة القارونية، وكما تحول قوم موسى بعد ان بنيت ممكلتهم تحت لواء الانبياء (عليهم السلام) الى امة مرابية مخالفة لتعاليم الانبياء (عليهم السلام) كذلك جرى الأمر في العرب، وكما كان في موازاة حركة من اغرتهم الدنيا والسلطة بزخارفها في مجتمع بني اسرائيل مجتمع صالح تقي نقي على رأسه الانبياء الذين استضعفهم بنو اسرائيل فكانوا فريقاً يكذب الانبياء وفريقاً يقتلهم، فالامر في قريش كان كذلك فقتلوا الحسين بن علي (عليهما السلام) كما قتل بنو اسرائيل يحيى بن زكريا (عليهما السلام)، واستضعفت قريش اهل البيت (عليهم السلام) ومن سار على نهجهم كما استضعفت بنو اسرائيل انبياءها.
ولم يقف الامر عند جهلة الأمة وساستها بل تعداه الى من يوصف بالعلم، فكما اخبر القرآن الكريم عن الذي آتيناه آياتنا فانسلخ عنها واخلد الى الارض، وكما حدث الكتاب العزيز عن ان الكثير من الأحبار والرهبان يحرفون الكلم عن مواضعه ويحكمون بما لم ينزل الله فكذلك ابتليت امة الاسلام بما عرف بين ابنائها بوعاظ السلاطين، الذين يخلطون الحق بالباطل عن عمد ويضلون عوام الأمة عامدين عن طريق الهداية والحق، وقد ذكر ابن ابي الحديد في كتابه شرح نهج البلاغة اسماء العديد من الوضاعين الذين كانوا يتلقون المال من البلاط الأموي لقاء وضع الحديث. وقد ارهق هذا الفعل من الوضاعين من جاء بعدهم من المحققين الذي عملوا على تمحيص الأخبار لتنقيتها وإختيار الصحيح منها.
لقد مرت مرحلة التطهير في بني اسرائيل بمرحلتين الأولى عندما أُمروا ان يقتلوا انفسهم كي يخلو المجتمع ممن تكدرت قلوبهم بما كسبوه من آثار الفراعنة المشركين ومن ذل العبودية وتخاذلها، والثانية عندما أمرهم نبيهم ان يسيروا تحت لواء طالوت ليتم لهم القضاء على جالوت واعادة ملك بني اسرائيل كي يحكم بعد ذلك داود وابنه سليمان (عليهما السلام) فتعود الحياة الى بني اسرائيل ثم لينتكسوا بعد ذلك بمعصيتهم، وقد رفع الله عمن عاصر النبي (صلى الله عليه واله) قتل انفسهم الا ان المرحلة الثانية من التطهير كانت في ايام امير المؤمنين (عليه السلام) في الجمل وصفين والنهروان، وكما حكم داود وسليمان (عليهما السلام) ثم شيئاً فشيئا تحول الحكم الى ملوك بني اسرائيل فكذا حكم امير المؤمنين علي (عليه السلام) ومن بعده ولده الحسن (عليه السلام) ثم عاد الحكم في الشجرة الملعونة في القرآن، وكما ان الظلم والضلال وتحريف الكتاب كان في ظل ظلمة الملوك من بني اسرائيل يعينهم على ذلك كثير من الأحبار والرهبان، فكذا حرفت احكام الكتاب وسفكت الدماء وانتهبت الاموال في ظل بني امية وولاتهم ومن بعدهم في ظل جور بني العباس ومن جاء بعدهم من الحكام.
ولما بلغ ببني اسرائيل الظلم والطغيان اقصى مراتبه سلط الله عليهم مشركوا بابل ليقضوا على دولتهم ويهدموا عزهم ويحولوهم الى امة مشتتة ضائعة، حتى آمن الرومان بعيسى (عليه السلام) فإنتشرت النصرانية التي تلاعب بها ملوك النصارى كما يشاؤون بعد ذلك، فجرى الأمر في هذه الامة مجراه في بني اسرائيل فتمزقت الأمة حتى سلط الله عليهم مشركوا الشرق من الأمم البدوية التي اسقطت الحكم العباسي في مشرق العالم الاسلامي، الا إن ما بثه الاسلام من روح في المجتمع الانساني، والذي ادى الى تقويض الحضارة الفارسية في مشرق الارض وتحول الناس من المجوسية الى الاسلام، وما جرى في مغرب العالم الاسلامي من تحول المجتمع من النصرانية الى الاسلام وجد اثره في المجتمع المغولي الذي تحول من الشرك وعبادة الكواكب الى الاسلام، فتحول من مجتمع بدوي الى مجتمع متحضر ببركة الآثار المتبقية من الروح الاسلامية، ولم يدم ذلك طويلاً فكما جرى في بني اسرائيل من اتباع الهوى الذي دفعهم الى قتال بعضهم بعضاً وانتهاء ملكهم، كذلك جرى الامر في الامم التي حكمت بلاد المسلمين فأقتتل بنو امية في بينما فوهى سلطانهم، واقتتل العباسيون فيما بينهم حتى هيمن على سلطانهم بدو الاتراك يقلتون ملوك بني العباس ويسملون عيونهم ويخلعونهم عن كرسي الحكم وينصبون من يشاؤون وجرى الامر في المغول كما جرى في من سبقهم، فتسلطت الافرنج على الامة بعد نزاع طويل فملكت العالم الاسلامي ومزقته شر ممزق حتى اصبح حكام المسلمين ولاة للانجليز والفرنسيين ومن بعدهم الامريكان في بلدانهم.
وهكذا تسببت قريش بسبب اتباعها لهوى نفسها في تفويت الفرصة على المجتمع البشري كما تسبب بنو اسرائيل قبلهم في تدمير ما بناه الأنبياء الكرام الذين بعثهم الله تعالى لنشر الحق والعدل وعبادة الله الواحد الاحد، وكما ان دولة النبوة التي كانت لسليمان (عليه السلام) في امتدادها الواسع الذي يحكي القرآن الكريم ان مملكته كانت تمتد بحيث ان الريح رواحها شهر وغدوها شهر، فاصبح اليهود بعد ذلك امة متشرذمة، فاصبح حال العرب كحال اليهود امة متشرذمة يقتل بعضهم بعضاً ويغزوا بعضهم بعضاً ويظلم بعضاً ويكفر بعضهم بعضاً، لانهم تركوا ما امرهم الله تعالى بهم من اتباع المصطفين من عباده واتبعوا اهواءهم فكانت النتيجة ان غضب الله عليهم وسلب منهم النعم التي سخرها لهم ﴿ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون﴾ .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat