بَشَرية المعصومين صلوات الله عليهم
د . مظفر الشريفي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . مظفر الشريفي

بسم الله الرحمن الرحيم
[بحث مُستل من كتاب (بل عبادٌ مكرمون- دراسة قرآنية وحديثية في نقد الغلوّ) لكاتب المقال].
قال الله تعالى:
- {قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثلُكُم يُوحَى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُم إِلٰهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرجُو لِقاءَ رَبِّهِ فَليَعمَل عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف: 110]،
- {قُل إِنَّما أَنا بَشَرٌ مِثلُكُم يُوحَى إِلَيَّ أَنَّما إِلٰهكُم إِلٰهٌ واحِدٌ فاستَقِيمُوا إِلَيهِ واستَغفِرُوهُ وَوَيلٌ لِلمُشرِكِينَ} [سورة فصلت: 6]،
- {وَقالُوا لَن نُؤمِنَ لَكَ حَتَّى تَفجُرَ لَنا مِنَ الأَرضِ يَنبُوعاً * أَو تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهارَ خِلالَها تَفجِيراً * أَو تُسقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمتَ عَلَينا كِسَفاً أَو تأتِيَ بِاللهِ والمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَو يَكُونَ لَكَ بَيتٌ مِن زُخرُفٍ أَو تَرقَى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَينا كِتاباً نَقرَؤُهُ قُل سُبحانَ رَبِّي هَل كُنتُ إِلا بَشَراً رَسُولاً * وَما مَنَعَ النّاسَ أَنْ يُؤمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الهُدَى إِلا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً * قُلْ لَو كانَ فِي الأَرضِ مَلائِكَةٌ يَمشُونَ مُطمَئِنِّينَ لَنَزَّلنا عَلَيهِم مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً} [سورة الإسراء: 90-95]،
- {قالَت رُسُلُهُم أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالأَرضِ يَدعُوكُم لِيَغفِرَ لَكُم مِن ذُنُوبِكُم وَيُؤَخِّرَكُم إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنتُم إلا بَشَرٌ مِثلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمّا كانَ يَعبُدُ آباؤُنا فَأتُونا بِسُلطانٍ مُبِينٍ * قالَت لَهُم رُسُلُهُم إِنْ نَحنُ إِلا بَشَرٌ مِثلُكُم وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأتِيَكُم بِسُلطانٍ إِلا بِإِذنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَليَتَوَكَّلِ المُؤمِنُونَ} [سورة إبراهيم ع: 10-11]،
- {وَأَسَرُّوا النَّجوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَل هَذا إِلا بَشَرٌ مِثلُكُم أَفَتَأتُونَ السِّحرَ وَأَنتُم تُبصِرُونَ} [سورة الأنبياء ع: 3]،
- {فَقالَ المَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَومِهِ ما هَذا إِلا بَشَرٌ مِثلُكُم يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيكُم وَلَو شاءَ اللهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعنا بِهَذا فِي آبائِنا الأَوَّلِينَ} [سورة المؤمنون: 24]،
- {وَقالَ المَلأُ مِنْ قَومِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الآَخِرَةِ وَأَترَفناهُم فِي الحَياةِ الدُّنيا ما هَذا إِلا بَشَرٌ مِثلُكُم يَأكُلُ مِمّا تَأكُلُونَ مِنهُ وَيَشرَبُ مِمّا تَشرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعتُم بَشَراً مِثلَكُم إِنَّكُم إِذاً لَخاسِرُونَ} [سورة المؤمنون: 33-34]،
- {قالُوا ما أَنتُم إِلا بَشَرٌ مِثلُنا وَما أَنزَلَ الرَّحمَنُ مِنْ شَيءٍ إِنْ أَنتُم إِلا تَكذِبُونَ} [سورة يس: 15].
من الملفت لنظر المتدبِّر في القرآن الكريم أن جميع الآيات آنفة الذكر قد استُعمل فيها أسلوب الحصر عند الكلام عن بَشَرية الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وغيره من الرُسُل سلام الله عليهم، والذي يعني أنهم بشر فقط ولا يشغلون حالة وسطية بين الألوهية والبشرية أو غير هذا. وليس لهم أن يأتوا بسلطان إلا بإذن الله، وغرض إرسالهم هو التبشير والإنذار فحسب وليس القيام بشؤون الكون التكوينية بمقتضى أسلوب الحصر في قوله تعالى: {وَما نُرسِلُ المُرسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ}. وحتى الآيات التي مثّلت كلام أقوام الرسل سلام الله عليهم حول بشريتهم قد أقرها القرآن الكريم. بل إن هذه البشرية قد اعتبرها المشركون عائقاً أمام إيمانهم بالرسل، حيث اقترح بعضهم ارسال ملائكة بدلهم. ولو كان الرسل سلام الله عليهم يملكون صفات خارقة فوق الصفات البشرية لما بقي معنى لاحتجاج الكفار عليهم بأنهم بشر مثلهم، بل لأشاروا لهذه القدرات الخارقة وأعطوا رأيهم فيها.
كما إن صفة البشرية هذه لو كانت تنطوي على صفات خارقة لَما جاء النص القرآني بصيغة {قُل سُبحانَ رَبِّي هَل كُنتُ إِلا بَشَراً رَسُولاً} التي تدل على أن من كان بشراً رسولاً فحسب ليس له قدرة على الإتيان بما طلبه المتَحَدّون من أمور تكوينية ذُكرت في الآيات أعلاه من سورة الإسراء. وبهذا يتبين ضعف القول بأن النبي صلى الله عليه وآله له عالمه الأعلى الذي لا نرتقي اليه وأنه لا ينزل إلى عوالمنا الدنيا كما في النص التالي: (بل حتى المثلية في قوله تعالى: قُل إِنَّما أَنا بَشَرٌ مِثلُكُم، تعني أنه من وسطكم يعرف تفكيركم ومشاعركم ويدرك مشكلاتكم، ولا تعني أنه مثلنا بمستوانا ونوع تفكيرنا ومشاعرنا، فإن له صلى الله عليه وآله عالمه الأعلى الذي لا نرتقي اليه، كما أنه لا ينزل إلى عوالمنا الدنيا! فالنبي إذن بسبب رقي فكره ومشاعره ليس مثلنا، وبسبب أن شخصيته مفتوحة على الغيب ليس مثلنا! فماذا بقي من المثلية التي تمكننا من الإحاطة بحقيقة شخصيته صلى الله عليه وآله؟! وكذلك هي شخصيات المعصومين من عترته عليهم السلام)[1]. ويضاف أيضاً أنه ليس المطلوب منا الإحاطة بشخصية النبي صلى الله عليه وآله، بل أن نعرف أنه بشر ليس إلا، وفق ما أكدته آيات متعددة كما أوردناه آنفاً. وأنه بمقتضى هذه البشرية لم يستطع إجابة ما طلبه منه المشركون من أمور تكوينية.
هذا وقد قال البعض حول هذه الآيات: {قُل سُبحانَ رَبِّي هَل كُنتُ إِلا بَشَراً رَسُولاً * وَما مَنَعَ النّاسَ أَنْ يُؤمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الهُدَى إِلا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً * قُلْ لَو كانَ فِي الأَرضِ مَلائِكَةٌ يَمشُونَ مُطمَئِنِّينَ لَنَزَّلنا عَلَيهِم مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً} بأنها (ظاهرة في أن المشركين كانوا يعتقدون بأن المرسَل عن الله لا يمكن أن يكون منهم، بل لا بد أن يكون شخصاً يختلف عنهم، كأن يكون من الملائكة مثلاً)[2] ، ثم قال: (فبيّن النبي صلى الله عليه وآله خطأ هذا الاعتقاد في قوله تعالى: {قُل سُبحانَ رَبِّي هَل كُنتُ إِلا بَشَراً رَسُولاً}. وخلاصة الكلام: فإن النبي صلى الله عليه وآله لم يستجب لهم في طلبهم، ولكن لا لعدم قدرته على ذلك، وإنما لأن استجابته معناها تقريرهم على اعتقادهم الخاطئ، فكان عليه عليه السلام أن يبيّن لهم خطأ اعتقادهم، وأنه ليس يختلف عن البشر، بل هو رسول من الجنس البشري. وعليه: فالآية ليست بصدد نفي الولاية التكوينية الفعليّة عن النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله، وإنما هي بصدد إثبات صفة البشرية للرسول صلى الله عليه وآله، وإثبات خطأ المعتقد الذي كان يعتقده المشركون، وهذا ما يفهم من مجموع الآيات القرآنية، فالاستدلال بهذه الآيات غير تامّ).
وفي الجواب نقول إنّ مَن له قدرة على فعل كل شيء كما يذهب إليه القائلون بالولاية التكوينية الشاملة - ومنهم هذا القائل - سيكون مختلفاً عن البشر، ولا يقارَن به الملائكة بسبب قدراتهم المحدودة بالنسبة له كما سيأتي بيانه عند الكلام حول الولاية التكوينية إن شاء الله تعالى. كما إن التدبّر في الآيات السابقة على الآيات التي أشار إليها، أي قوله تعالى: {وَقالُوا لَن نُؤمِنَ لَكَ حَتَّى تَفجُرَ لَنا مِنَ الأَرضِ يَنبُوعاً * أَو تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهارَ خِلالَها تَفجِيراً * أَو تُسقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمتَ عَلَينا كِسَفاً أَو تأتِيَ بِاللهِ والمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَو يَكُونَ لَكَ بَيتٌ مِن زُخرُفٍ أَو تَرقَى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَينا كِتاباً نَقرَؤُهُ قُل سُبحانَ رَبِّي هَل كُنتُ إِلا بَشَراً رَسُولاً} [سورة الإسراء: 90-93]، يُفيد أنها ليست مشكلة جنس بشري أو ملائكي بقدر ما هي قدرات عادية تلازم البشر أو خارقة فوق القدرات البشرية، ولم يقيد المعترضون مطلبهم دائماً بأن يكون المرسَل من الملائكة كما في قوله تعالى: {قالُوا إِنْ أَنتُم إلا بَشَرٌ مِثلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمّا كانَ يَعبُدُ آباؤُنا فَأتُونا بِسُلطانٍ مُبِينٍ} [سورة إبراهيم ع: 10].
لذا فإن ما طلبه المشركون من النبي الأكرم صلى الله عليه وآله هو الاتيان بقدرات خارقة أو حجة دامغة تتناسب مع ما ترسخ في ذهنهم كما في مطالبهم في الآيات السابقة. ويؤيد قولنا هذا ما في الآيات أعلاه من سورة إبراهيم سلام الله عليه: {قالُوا إِنْ أَنتُم إلا بَشَرٌ مِثلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمّا كانَ يَعبُدُ آباؤُنا فَأتُونا بِسُلطانٍ مُبِينٍ * قالَت لَهُم رُسُلُهُم إِنْ نَحنُ إِلا بَشَرٌ مِثلُكُم وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأتِيَكُم بِسُلطانٍ إِلا بِإِذنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَليَتَوَكَّلِ المُؤمِنُونَ}. وتدل هذه الآيات الشريفة على عدم امتلاك الرسل سلام الله عليهم القدرات التي يمكنهم بها تحقيق مطالب أقوامهم، لأنهم لو كانوا يمتلكون ولاية تكوينية واسعة فهذا يعني أن الله الذي أقدرهم على ما تشمله هذه الولاية قد أذن لهم بالإتيان بسلطان لأنه جزء من الولاية الواسعة التي يمتلكونها، ويمكنهم حينئذ أن يأتوا بما يشاءون أو لا يأتوا به، لا أن ينفوا وجود إذن عندهم كما يُفهم من قوله سبحانه: {وَما كانَ لَنا أَنْ نَأتِيَكُم بِسُلطانٍ إِلا بِإِذنِ اللهِ}. ومن الجدير بالذكر أن أكثر مطالب المشركين في آيات سورة الإسراء لا قيمة لها أمام ما يمتلكه صاحب الولاية التكوينية الشاملة مما لا يستطيع الملائكة فعله.
لو كان النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وأهل بيته سلام الله عليهم يمتلكون الصفات الخارقة المدّعاة لهم من قبل البعض كطبيعة ثابتة لهم فهذا ينافي كونهم بشراً مثل قومهم كما قال تعالى: {قُل إِنَّما أَنا بَشَرٌ مِثلُكُم} لأنه ليس مثلهم. بل إن من يملك القدرة على الإحياء والإماتة دوماً والقدرة على الخلق وعلى التصرف في الكون كتحريك النجوم والمجرات لا يصح وصفه بأنه بشر أصلاً، لا مثل بقية البشر ولا مثل غيرهم من المخلوقات، لأن هذه الصفات لا يمكن أن توصف بأنها صفات بشرية، بل هي بالحقيقة صفات إلهية. وسوف لا يصبح قوله سبحانه: {وَما مَنَعَ النّاسَ أَنْ يُؤمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الهُدَى إِلا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً} مفهوماً، لأن هذا الكائن الخارق سيمتلك حينئذ صفات إلٰه لا صفات بشر. وحتى لو قيل إن هذا بإذن الله تعالى فلن يتغير شيء، لأن المشركين الذين احتجوا على الرسل ببشريتهم لم يلحظوا صفة فوق بشرية أصلاً حتى نقول إنها بإذن الله أو بغير إذنه سبحانه.
وللفائدة ننقل ما ذكره السيد الطباطبائي حول قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثلُكُم يُوحَى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُم إِلٰهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرجُو لِقاءَ رَبِّهِ فَليَعمَل عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف: 110]، حيث قال: (قوله تعالى: {قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثلُكُم يُوحَى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُم إِلٰهٌ واحِدٌ} القصر الأول[3] قصره صلى الله عليه وآله وسلم في البشرية المماثلة لبشرية الناس لا يزيد عليهم بشيء ولا يدّعيه لنفسه قبال ما كانوا يزعمون أنه إذا ادّعى النبوة فقد ادعى كينونة إلهية وقدرة غيبية ولذا كانوا يقترحون عليه بما لا يعلمه إلا الله ولا يقدر عليه إلا الله لكنه صلى الله عليه وآله وسلم نفى ذلك كله بأمر الله عن نفسه ولم يثبت لنفسه إلا أنه يوحى إليه)[4].
[1]) الحق المبين في معرفة المعصومين عليهم السلام، ص 7.
[2]) الولاية التكوينية بين القرآن والبرهان، ص 165.
[3]) يقصد أسلوب القصر والحصر بقوله تعالى: {إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثلُكُم}.
[4]) تفسير الميزان، ج ١٣، ص ٤٠٥.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat