الهوية الإسلامية والأخطار التي تواجهها
الشيخ محمود الحلي الخفاجي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
الشيخ محمود الحلي الخفاجي

عرفوا الهوية بأنها تعني: جوهر الشي وحقيقته. فهوية الإنسان التي تتشكل من معتقداته وثقافته وحضارته هي في واقعها جوهر وحقيقة هذه الهوية وأنها لا تتغير، وبهذه المشخصات الحضارية تتميز بها الأمة التي تمتلك هذه الثوابت عن بقية الأمم، وأن هوية الإنسان المسلم أهم عنصر فيها هو العقيدة التي تعكس رؤية الإسلام نحو الكون والطبيعة، وتعكس الرؤية الفكرية للإنسان: (إن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله..).
وتواجه الهوية الأسلامية اليوم هجمة شرسة فكراً وسلوكاً وفق برامج منظمة لطمس تلك الهوية وتذويبها تدريجياً من خلال التغريب الثقافي أو ما يسمى بالعولمة وثورة المعلومات التي لها الأثر الكبير في ذلك وفرض قيماً اجتماعية غريبة ومتطفلة على هويتنا الدينية، فأن المنظومة المعرفية الغربية والمادية الحديثة بدأت تبرز مشاريعها واستقطاب الشباب المسلم إليها من خلال تلك المعارف التخريبية فكل هذه وسائل تضليلية، وهذه ليست بالجديدة بل إن القرآن الكريم تعرض لتلك الأساليب الإغوائية التي تضل الإنسان وتلقي به بغياهب الإنحراف والضياع، فالقرآن قد ذكر الشيطان وأساليبه الإغوائية في آيات كثيرة من خلال أساليب ما يسمى اليوم بالقوة الناعمة، من خلال التزيين والوسوسة لدفعه نحو الفاحشة والجريمة، وتحدث عن خطر الشيطان وأساليبه ومكائده. فالحرب الناعمة وجدت مع وجود الإنسان غاية الأمر تغيرت العناوين وإلا فأن النتيجة واحدة، نعم تغيرت الآليات والوسائل التضليلية حيث أن وسائل التضليل في هذا العصر اتسمت بكونها سريعة الإنتشار والتضليل والخداع اسرع من الوسائل التقليدية السابقة نتيجة لهذا التطور الهائل كل هذا الغرض منه هو سلب هوية الإنسان والتأثير على قيمه الدينية وتغيير هويته العقائدية، فبرزت أعمال معينة تستهدف قيم المجتمع الدينية وهويته الثقافية واتخذت من وسائل الإتصال والإعلام منبراً واداةً لتحقيق مآربها.
لا يخفى أن الإصطفاء الإلهي لقيادة البشرية والوصول بالإنسان الى أعلى مراتب التكامل من خلال أرسال من يبلغون سبل الهداية من خلال الأنبياء والرسل والأئمة والأوصياء (عليهم السلام), حيث ان الله اختارهم لعلمه بهم وطهارة نفوسهم وتسليمهم المنقطع النظير لله عزوجل وصبرهم على تبليغ الرسالات الإلهية وتحملهم المسؤوليات الثقيلة التي ستلقى عليهم، فاصطفاهم ليكونوا مشاعل هداية للبشرية، ومن هؤلاء الأمناء والحجج الذين اصطفاهم الله عزوجل لهذا الدين ودافعوا عنه وضحوا من أجله هي الزهراء (سلام الله عليها) بعد أن حازت على مقام الولاية الإلهية وبلغت ذروات الكمال، حيث أنها قامت بأدوار ومهام حفظت هذا الدين ودافعت عنه وعن هويته والمتمثلة هذه الهوية بأهم ركائزها وهي الإمامة الإلهية. ففي خطبتها الاُولى ذكرت أن ولاية أهل البيت (عليهم السلام) هي فرض إلهي بل إنها (الولاية) هي العلة لوجوب بقية الواجبات الشرعية، فقالت عليها السلام: (فجعل الله طاعتنا نظاماً للملّة، وإمامتنا أماناً من الفرقة).
ثم أنها عليها ركزت على قطب الرحى لهوية الأمامة والحامل الشخصي كمشخص رئيس في هذه الهوية وهو أمير المؤمنين عليه السلام، فبينت خطر إقصائه عن المنصب الإلهي لقيادة البشرية بعد النبي(ص واله)، فقالت (عليها السلام) في خطبتها الثانية: (وما الذي نقموا من أبي الحسن، نقموا منه والله نكير سيفه، وقلّة مبالاته بحتفه، وشدّة وطأته، ونكال وقعته، وتنمّره في ذات الله).
فأشارت (عليها السلام) إلى أحقيّة أمير المؤمنين (عليه السلام) في الخلافة بعد النبي (ص واله) فقالت (عليها السلام) في خطبتها الثانية : (ويحهم أنّى زحزحوها عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوّة والدلالة، ومهبط الروح الأمين، والطّبين بأمور الدنيا والدين). وأيضاً نبّهت (عليها السلام) على أنّ الاختيار خاطئ وغير صحيح بقولها في خطبتها الاُولى: (فوسمتم غير إبلكم، وأوردتم غير شربكم، هذا والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لما يندمل، والرسول لمّا يقبر، بداراً زعمتم خوف الفتنة, ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنّم لمحيطة بالكافرين).
وأوضحت أن هذا الخيار هو خيار فادح وقد اوقعهم في متاهات الفتن الكبرى والنتائج الوخيمة التي ستظهر في حياة المسلمين وما سيواجهونه من مآسي ومحن وويلات. وهذه نتائج هذا الخيار الخاطئ، وأن حقيقة هذا الخيار هو انقلاب قيمي بعكس الأتجاه الصحيح فوصفته بأبلغ وصف فقالت (عليها السلام) في خطبتها الثانية: (استبدلوا والله الذنابى بالقوادم، والعجز بالكاهل).
الحرب الناعمة التي تقوم بها وسائل الإعلام الحديثة تشكل رأياً عاماً يؤثر على المدركات العقلية للأنسان، فهي في حقيقتها برزت كبديل للفكر والعقل وحلول صناعة جديدة صنعها الإستهلاك الإعلامي من خلال توجيه عقل الإنسان إلى أغراض ومقاصد معينة ولمآرب خاصة، ومن هذه الصناعات الإستهلاكية هي صناعة الرموز الرخيصة وتهميش الملاكات العلمية والعقلية، فأبعد أصحاب الفكر والثقافة عن المنبر
الإعلامي فبرزت ثقافة ترتكز على سيطرة الصوت والصورة كبديل للكلمة وبالتالي انحسرت ثقافة القيم فتحول الإنسان حينئذ إلى إنسان الصورة والهيئة الخارجية، وهذا معناه هو السعي إلى إفراغ الإنسان من مداركه العقلية وسلب هويته ليتحول الى إنسان مسلوب الأرادة كأسلوب التبعية إلى الأشياء الجوفاء الفارغة التي لا تحمل معنىً معيناً أو تجلب نفعاً ما، وهذا معناه إنتشار (ثقافة التفاهة) ويصبح الإنسان حينها سلعة يخضع لقوانين الأبتذال والإبتزاز والترويج الإعلامي الوهمي الذي يكون غالباً يحمل صفة التمرد على القيم الأخلاقية بعيداً عن العلم والعقل والأخلاق والحكمة، وحينها ستنتشر ثقافة التفاهة من خلال وسائل الإعلام، ومن هذه الثقافات هو الإهتمام بترويج الثرثرة والكلام الفارغ والإستعراضات الجسدية والجنس الرخيص والأغاني المبتذلة. فهذه الأساليب هي إحدى أساليب الحرب الناعمة لأضعاف هوية الإنسان المسلم وعقيدته بهدف نشر ثقافة المجون والإنحرافات الأخلاقية والتفاهة والقيم المتردية، ومن صورها أيضاً تصدير التافهين إلى المجتمعات الإسلامية الذين يحملون تلك الثقافات المنحرفة من بلدانهم بعد أن تهيأت الأرضية المناسبة لاستقبالهم وقد بذلت الأموال الطائلة لأعمالهم التي تروج للمنكر والرذيلة.
وأن هذا الإستهداف له جذوره التاريخية وأن اختلفت الوسائل والأساليب لكن النتيجة واحدة، حيث أن هذا الإستهداف وجد مع وجود الإنسان وأقترن مع وجود الحق والهدى والفضيلة.
فبداية هذا الإستهداف ضد الهوية الإسلامية وقيمها الحضارية هو ما قامت به زمرة الشر المتمثلة في حكومة بني أمية، حيث أنهم نشروا الفواحش والرذائل بشكل فاضح وواسع، وفي أي مكان؟ نشروها في أقدس الأمكنة وأشرف البقاع، منزل الوحي ومهبط الملائكة ونزول الكتاب الإلهي وهي الكعبة المشرفة والمسجد الحرام وعند قبر أقدس الكائنات وأشرفها وهو خاتم الأنبياء محمد (ص واله) والتي منها بزغ النور الألهي لخير البشرية بأسرها، وحيث أجساد خيرة أصحاب رسول الله (ص واله) وأمهات المؤمنين والصفوة من الصالحين والأولياء.
فيذكر شوقي ضيف في كتابه (الشعر والغناء في المدينة ومكة لعصر بني أمية)، أن المدينة كان بها دور للمغنيات يتوافد عليها الناس لقضاء أوقاتهم وسماع الغناء، ومنها دار عزة الميلاء، والتي تعد من أقدم مغنيات المدينة, وهناك أيضًا المغنية (جميلة)، التي اتخذت دارًا كبيرة تمتلئ بالمغنيين والجواري، وتقام فيها حفلات باذخة للغناء، وكان يشترك فيها بعض المغنين من مكة أحيانًا مثل ابن مسجح وابن سريج وابن مُحرز، وكذلك كان يشترك فيها المغنون من المدينة مثل معبد ومالك بن أبي السّمح الطائي ونافع بن طنبورة وغيرهم. واكتظت الدار أيضًا بالمغنيات مثل سلاّمة القس وسلامة الزرقاء وحبابة وخُليدة ورُبيحة وعُقيلة العقيقة وبُلبلة ولذة العيش.
وبحسب (ضيف) بلغ الغناء في دار جميلة كل ما كان ينتظره من رقي وازدهار، إذ عُرف الغناء المصحوب بالجوقات الكبيرة، كما عُرف الغناء المصحوب بالرقص والمضرب على الآلات الموسيقية الكثيرة، وكثيرًا ما كانت تجمع سكان المدينة وتقوم باستعراض كبير يضم مشاهير المغنيين والمغنيات، لا في المدينة فقط، بل في مكة أيضًا. ويصف أبو فرج الأصبهاني في كتابه (الأغاني) حفلة أقامتها هذه المغنية ودعت إليها عددًا من مغني الحجاز. وتناول شوقي ضيف مظاهر اللهو بالمدينة في كتاب آخر له، هو (تاريخ الأدب العربي/ العصر الإسلامي)، فذكر أن هذا المجتمع كان ملتقى كثير من الطفيليين وأصحاب الفكاهة والتندر.
فهذه صور الإستهداف المنظم لتقويض هوية الإنسان من خلال نشر الرذيلة وأشاعة الفساد الأخلاقي لضرب قيم الدين وأحكام الشرع المقدس.
هناك من عمل وما زال من يعمل على تذويب الهوية الإسلامية وإيجاد عملية تشويه وخلط مفاهيمي وسلوكي على ذلك، من خلال حملة التغريب الثقافي والفكري التي انتشرت في البلاد الإسلامية، وإحلال بديل لها (للثقافة الإسلامية) من خلال وسائل اعتمدوا عليها لتحقيق هذا الغرض، منها هو زرع بذرة العصبية القومية، وإثارة النعرات العرقية بين الشعوب، ورفعوا شعارات القومية في الأوساط الإجتماعية للبلدان الإسلامية خصوصاً في البلدان العربية، وبرزت مظاهر التعصب للعروبة، وقد انتشرت هذه الأفكار انتشار النار في الهشيم، وقد جندوا لهذا الغرض العديد من الكتاب والمثقفين الذي أكلوا من فتات موائد الغرب وجاؤوا الى البلاد ليكونوا دعاة للغرب وأفكارهم داخل المجتمع الإسلامي، وبالفعل تم هذا الأمر على أيدي دعاة القومية فتفشت الإنتماءات القومية وتكريس الإعتزاز بما يسمى بالعروبة، فوصل الحال الى ما هو عليه الحال الآن من فقد الهوية الحقيقية وهو الإنتماء للدين الإلهي.
هذا الدين الذي نظم حياة الانسان وبنائه داخلياً على أسس من التقوى والمساواة وحب الآخر ونشر ثقافة التعايش السلمي، وإن الجميع يعيش تحت راية التوحيد وأن الناس هم أخوة متحابين لا فرق بين عربي وأعجمي إلا على أساس التقوى، وأشاع بينهم والتعاطف والرحمة ودعوة الناس الى البر الخير والتسابق للعمل الصالح والتنافس من أجل الآخر, وهذه قيم حضارية على خلاف مايتبناه دعاة القومية .
وأهم عامل ارتكزوا عليه دعاة الفكر القومي هو دعوتهم الى فصل الدين عن الحياة، مع تهجمهم من خلال ادبياتهم ومقالاتهم على الهوية الإسلامية ووصفها بالتخلف والرجعية. وهذا الفكر الذي شاع في الوسط الإجتماعي في البلدان الإسلامية جعل الناس يتخبطون في دياجير مظلمة في البحث عن هوية يلتجأون اليها ويحققون انتماءاتهم إليها، فلم يجدوا إلا ذلك السراب الوهمي الكاذب الذي انخدعوا فيه فأخذوا يقلدون الغرب في كل شي فظهر التقليد لهم في لباسهم وقصات شعورهم وطريقة إشباع رغباتهم ونزواتهم, فأنتشرت ظاهرة الميوعة والتحلل الأخلاقي وتفشت ظاهرة التبرج وثقافة التعري عند المرأة المسلمة وظهر السلوك الإباحي تشبهاً بالغرب وحياتهم البهيمية، وضعف عندهم الإلتزام بالدين ومفاهيمه الحقة وأحكامه.
شيخ محمود الحلي الخفاجي
١٧ جماد الأول ١٤٤٣ هج
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat