ارتباطُ الصّبرِ بالقُربِ الإلهي
زينب راضي الزيني
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
زينب راضي الزيني

قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»(1). (آل عمران: ٢٠٠).
الصبرُ: هو السّكينةُ وعدمُ الجزعِ عندَ حلولِ البلايا والمصائبِ، أيّ التحملُ والثبات وعدم الجزع والاضطراب والتراجع والانهيار عندَ وقتٍ الشّدةٍ والمصائبِ أو الإغراءاتِ والشهواتٍ، عكسهُ الجزعُ واليأس.
فالصبرُ من الإيمانِ، وخيرُ دليلٍ على منزلةِ الصّبرِ من الإيمانِ ما رُوي عن الإمامِ جعفر الصادق (عليه السلام) قال: «الصبرُ من الإيمانِ بمنزلةِ الرأسِ من الجسدِ، فإذا ذهبَ الرأسُ ذهبَ الجسدُ، كذلك إذا ذهبَ الصبرُ ذهبَ الإيمان»(2).
{ميزان الحكمةج٢ص١٥٥٨}.
ولعظمةِ مقام الصبرِ عندَ الله تعالى، فإنّه لا يعاملُ عباده الصابرين بميزانِ الحسنات والسيئات، بل يُثيبهم بكرمهِ وجودهِ من غيرِ حسابٍ يقول (عز وجل): «إنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ»(3).
{سورة الزمر ١٠}
والصبرُ من أعظمِ الملكاتِ والأحوالِ الذي يمتدحُه القرآن ويكررُ الأمرَ به، ومرتبتهُ من المراتبِ الرفيعةِ وخصصَ سبحانهُ وتعالى أكثرَ درجاتِ الجنةِ بالصابرينَ، وتحدثَ عنه في أكثرِ من سبعينَ موضعاً في القرآنِ الكريم.
قال تعالى: «وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ»(4).
{البقرة١٧٧}
وقدمَ الله تعالى الصّبرَ على الصّلاةِ معَ العلمِ أنّ الصلاةَ هي عمودُ الدّينِ وفي مواضع عدةٍ اقترنتْ كلمةُ الصّبرِ معَ الصّلاةِ في القرآنٍ الكريم، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ»(5).
{البقرة١٥٣}
قدمَ الصّبر؛ لأنّهُ أساسُ الأخلاقِ، وأنّ أكثرَ الأخلاقِ الفاضلةِ تنطوي تحتَ لوائِه، فالصبرُ والصلاة هما السلاحانِ اللّذانِ يتغلبُ بهما العبد على كلِّ العوائقِ ويكسبُ من خلالهما العون والمدد الإلهي.
وينقسمُ الصبرُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
١- الصبرُ على المصائبِ: قال تعالى: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقصٍ مِنَ الأَموَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الذِينَ إِذَا أَصَابَتهُم مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَيهِم صَلَوَاتٌ مِن رَبِّهِم وَرَحمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ المُهتَدُونَ»(6).
{سورة البقرة ١٥٥ - ١٥٧}
٢- الصّبرُ على الطاعةِ: وهي قوله تعالى: «رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ»(7) {سورة مريم -٦٥}، فمعظمُ الأعمال العبادية تحتاجُ إلى نشاطٍ وتحمّلٍ وإرادةّ كالمحافظةٍ على أوقاتِ الصلاة، القيامُ للتهجّد في الليل، الجهادُ في سبيل الله، الصيامُ، الإيثارُ على النفسِ والإنفاقِ في سبيل الله تعالى.
٣- الصّبرُ على المعصيةٍ: وهو أنْ يصبرَ الإنسان عندما تأمرهُ نفسهُ الأمّارة بالسوءِ بالمعصيةِ وفعل الحرام، فلا ينصاع لأوامرها بل يُجاهدها حتى يتغلّبَ عليها بالكاملٍ وخصوصاً عند الشهوةِ أو الغضبِ، فالإنسانُ يحتاجُ الى الصّبرِ ليتغلبَ على هواه، قال تعالى: «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ»(8). {سورة النازعات ٤٠--٤١}
وَوردتْ رواياتٌ عن أهلِ البيت (عليهم السلام) في فضلِ الصبر والتحمل عليه: منها قال الإمام الصادق (عليه السلام): «من أبتُلي مِن المؤمنين ببلاءٍ فصبرَ عليه، كانَ لهُ مثلُ أجرِ ألف شهيدٍ»(9).
{الكليني في الكافي ج٢ص٧٣}.
وقال الرسول (ص):«ما كانَ عبدٌ على الله إلاّ ازداد عليه البلاء»(10).
{بحار الأنوارج٩٦ص٢٨}
فالأنسانُ المؤمنُ اذا لمْ يكنْ لديه قوة من الصبرِ، سوفَ يتزلزلُ إيمانُه ويوهنُ وتكونُ أعمالهُ غيرَ مقبولةٍ، لذا قدمَ الله الصبرَ على الصلاةِ، فالمواظبةُ على الصّلاةِ في أوقاتِها تحتاجُ الى الصّبرِ، فعندما قال تعالى: «اسْتعِينُوا بالصّبرِ والصّلاةِ»(11).
فالاستعانةُ تحتاجُ إلى وسيلةٍ حتى يبلغَ الإنسانُ مرادَهُ، فمعناها الوصولُ للحاجةِ بمساعدةِ وسيلةٍ من الوسائلِ، فالصلاةُ معراجُ الروحِ، وهذه الروحُ تحتاجُ الى تزكيةٍ من الذنوبِ والآثامِ تُريدُ منا جُهداً تحتاحُ الى صبرٍ، وكلُّ أمرٍ فيه طاعة يحتاجُ الى صبرٍ لمُجاهدةِ هذهِ النّفسِ وتزكيتها، لذا قدمَ الله الصّبرَ على الصّلاةِ.
بالصّبرِ أوصلَ الأنبياءُ رسالاتِ الله تعالى إلى عبادهِ، فلولا الصّبرُ لمَا خرجَ الإنسانُ من نيرِ الجهلِ والكفر، بصبرِ الأنبياءِ إنّما حصلَ ذلك، وبالمقابلِ صبرُ العبدِ على محاربةِ نزواتِ نفسهِ وشهواتِها عندما يقلعُ عن أيِّ فعلٍ محرمٍ وغير أخلاقيٍّ كانَ معتاداً عليه يعني أنّه صابرٌ على طاعةِ ربِّه، وابتعاده عن المعصيةِ، هذا لهُ درجةٌ عظيمةٌ عندَ الله تعالى، وأيضاً صبرُ المُصلحِ في نشرِ نواميسِ الشّرع.
العقيلة زينب (عليها السلام) وصبرها على المصائب وآلام الأسر ومشقة الطريق.
وإرشاداتِ القانونِ الإلهي له درجاتٌ رفيعةٌ، فنرى الأنبياءَ كيف صبروا، فهذا أيوب النبي على نبينا وآله وعليه السلام كيف صبر على الابتلاءِ دهراً من الزمنِ؟
والوقوف بوجهِ الظالمِ وتحدِيه هذا أيضاً صبر، وأيضاً أميرُ المؤمنينِ (عليه السلام) كيف صبرَ طيلة خمس وعشرين سنةً على حقِّه ممّن اغتصبوه عنّوة وبكلِّ صلافةٍ؟
والإمامُ الحسن (عليه السلام)، كيف صبرَ على اتهاماتِ بعض ممّن قالَ أنّه من شيعتِه؟ حتى وصلَ بهِم الأمرُ أنْ خاطبوهُ بيا (مذلّ المُؤمنينَ) كما ورد في بعضِ المصادرِ، وصبرَ على جهلهِم بما قامَ بهِ من عظيمِ فعلٍ لحفظِ دماءِ المسلمينَ، وحتى يكشفُ زيفَ ادعاءِ معاوية أمامَ جموعِ المُسلمينَ، فهذا صبرٌ لا يعيه إلاّ من شرحَ اللهُ صدرَهُ بالإيمانِ.
وإذا تكلمْنا عن جانبِ المرأةِ في الصّبرِ، يتبادرُ إلى ذهنِ كُلِّ ذيّ لُبٍّ عقيلة الطالبيينَ لبوة عليّ (عليه السلام)، تلكَ المرأةُ التي رأتْ عيناها ما يقرحُ الفؤادُ طيلةَ حياتِها فمن فراقِ جدِها إلى ظُلمِ أُمِّها وانتهاكِ حُرمتِهَا إلى معاناةِ أبِيها معَ منافقِي عصرهِ إلى مُشاهدةِ أخِيها السبط الأول كيفَ تجرّعَ مرارةَ جهلِ من حولِه بصبرِه وحكمتِه؟ إلى الطامةِ الكُبرى التي أبكتِ السمواتِ والأرضِينَ والتي أقْشعرتْ لها أظلةُ العرشِ حيثْ رأتْ في سويعاتٍ قليلةٍ نهراً من دماءِ أهلِ بيتِها، رأتْ أفضلَ من وطِئ الثّرى بزمانهِ، هيكلَ القداسةِ ونورَ الله، أخاها السبط الحسين (عليه السلام) مُضرجاً بدمائهِ وحولهُ ثمانية عشر كوكباً من آلِ محمدٍ ما لهم في الأرضِ نظير كما في قولِ الإمام الرضا (عليه السلام).
هذه المرأةُ الجليلةُ التي ما رأى ظلّ شخصِها متوهم، تخرجُ في يومٍ أمطرتْ بهِ السّماءُ دماً لِتُكملَ مسيرةَ الشهيدِ الفاتحِ الذي أدى بصبر ما بعدهُ صبر صلاة المُريدينَ تحتَ أظلةِ السّيوفِ، وبينَ أقواسِ النّبالِ والسّهامِ، وذهبتْ برحلةٍ تُدمي قلبَ كلِّ غيّورٍ؛ لِتقُفَ بينَ يدِي الظّالمِ لِتقُولَ لهُ: كدْ كيدكَ، واسعَ سعيكَ، وناصبْ جهدكَ، فوالله لا تمحُو ذِكرنا، أيّ إنّك مهما فعلتَ وتجبرتَ وطغيتَ فلنْ تمحوَ دينَ المُصطفى بقتلِك السلالةِ الطاهرة.
فبالصبرِ تزولُ العقباتُ، وتتحققُ الأمانيّ المنشودةُ، فعلى مدى التأريخِ نرى كيفَ حققَ المصلحونَ أهدافَهم بالصبر والعقيدةِ الراسخةِ؟ وأثمرتْ حركاتُهم التي قامُوا بها ولو بعدَ حين.
هذا وأستغفرُ الله لي ولكُمْ والحمد لله ربِّ العالمين والصُلاةُ والسّلامُ على رسولِ الله وعلى آلهِ الميامِين.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat